ما هكذا تورد إبل الإعلام في دعم الوحدة السُّودانية

ما هكذا تورد إبل الإعلام في دعم الوحدة السُّودانية

د.عبد الوهاب الأفندي

كما هو الحال في أوضاع الإعلام المسيَّر غير المخيَّر، فإنّ حملة “ضارية” قد انطلقت في الإعلام السوداني الرسمي وشبه الرسمي (ونصف وربع الرسمي)، تبشر بقضية الوحدة. وهكذا أصبحت الوحدة (والدعوة لها) حاضرة اليوم في نشرات الأخبار، وتصريحات المسؤولين، واستطلاعات الإعلام، ومبادرات المجتمع المدني، وكثير من إنتاج الفنانين. فآلات الإعلام الأحادي بطبيعتها تعمل بهذه الطريقة ذات الإتجاه الواحد كما صورها على سالم في رائعته المسرحية: “إنت اللي قتلت الوحش”. ولا شك أنّ للعمل الإعلامي، وحتى الدعائي، أهميته. وكنت قد تحدثت من قبل عن مؤتمر نظمته بعثة الأمم المتحدة في السودان في نوفمبر الماضي تحديداً حول دور الإعلام في دعم الوحدة. ولكن معظم الحديث الذي دار في ذلك المؤتمر لم يكن عن الإعلام، وإنما عن تعقيدات العلاقة بين الشمال والجنوب عامة، وبين الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني خاصة. وقد شهدت الجلسة الختامية المفتوحة لذلك الملتقى سجالاً ساخناً بين وزير الخارجية وقتها دينق ألور ومستشار رئيس الجمهورية غازي صلاح الدين، على خلفية تصريح الأول في كلمته بأن الجنوبيين لن يقبلوا العيش كمواطنين من الدرجة الثانية في دولة إسلامية. وجاء رد غازي حاداً وعنيفاً، مفنداً مقولات ألور بالإشارة إلى أن الدستور يحظر التمييز بين المواطنين على أساس الدِّين. وأضاف غازي يقول بأن قادة الحركة الشعبية أكثروا الحديث عما أسموه بالسودان الجديد، وقد كانت عندهم الفرصة لتطبيق ما يؤمنون به في الجنوب، ولكننا راقبنا ما يفعلون هناك، ولم نرَ فيما هناك ما يبهرنا! من جهة أخرى فإنّ عدداً من المشاركين من أهل الجنوب في ذلك اللقاء استغربوا عزوف السياسيين والناشطين والمثقفين الشماليين عن السفر إلى الجنوب والتواصل مباشرة مع المواطنين هناك. فكثير من المواطنين في الجنوب لم يروا إخوتهم من الشمال إلا جنوداً مقاتلين أو حكاماً متجبرين، وبعضهم لم يلتقِ شمالياً قط. وكل ما يعرفونه عن الشمال كان بالواسطة أو عبر الإعلام. وكان رأي هؤلاء إن الإعلام وحده لا يكفي، ولا بد من اللمسة الإنسانية في التواصل بين الإخوة في الوطن. ودعوا كل من يستطيع للسفر إلى الجنوب والطواف في أرجائه لتوطيد الصلات الإنسانية والأخوية مع أهل الجنوب وطمأنتهم على مشاعر إخوانهم تجاههم، لأن مثل هذه الصلات هي التي ستزين الوحدة وتزيل الشكوك والمخاوف. ولعل الملاحظة الأولى هنا تتعلق بأن ما يُقال في الإعلام لا يغني عن الصلات المباشرة. إضافة إلى ذلك فإنّ الصلات المباشرة بين الشمال والجنوب هي في معظمها الصلات بين السياسيين، خاصة الصلات بين شريكي الحكم. وكما رأينا من حادثة مؤتمر دور الإعلام في الوحدة، فإنّ هذه العلاقات يشوبها التوتر في أحسن الأحوال. مهما يكن فإنّ الإعلام يلعب دوره حين يكون جزءاً من حوار حقيقي، وليس دعاية أحادية ترسل رسائلها في إتجاه واحد. فالإقناع يتأتى حين يكون ناتجاً عن الاستماع لوجهة النظر الأخرى، والتعامل معها باحترام وتفهم، والرد على شكوك ومخاوف الطرف الآخر. أما حين يكون مرسل الرسالة أصمّاً، يتحدث فقط ولا يسمع، فإنّ ما ينتج، إن نتج، لايكون إقناعاً، وإنما يستحق أسماء أخرى.الدعاية الأحادية الجانب، مثلها مثل الإعلان التسويقي، تفترض أن البضاعة المراد تسويقها سليمة ومرغوبة، وكل ما في الأمر أن المشتري غافل عن مزاياها الكثيرة. وعليه فإنّ توضيح المزايا الخافية سيؤدي الغرض، ويجعل المشتري يقبل على البضاعة بشغف. ولكن حتى في الدعاية فإنّ تسويق البضاعة لا بد أن يأخذ في الاعتبار رغبات واحتياجات المشتري، وأيضاً العوامل النفسية المؤثرة فيه، وإلا فإنّ الدعاية قد يكون لها أثر عكسي ينفر الزبون من البضاعة وبائعها.ما نلاحظه حتى الآن هو أنّ الحملات الدعائية لدعم الوحدة لا تأخذ في الاعتبار هذه البدهيات. فالحملات لا تخاطب الإشكالات الحقيقية التي تقف حجر عثرة في طريق السلام، وإنما تغرق في الشعارات الجوفاء أو ترداد المعروف بالضرورة، دون مواجهة المشاكل والتحديات الحقيقية، وعلى رأسها، كما ذكرنا في مداخلة سابقة، قضية الحكم والمشاركة الحقيقية فيه عبر تحويل الشعارات عن حقوق المواطنة إلى واقع. وفي هذا الخصوص نذكر بأن مشروع الوحدة بين مصر والسودان، مع الفارق في كون ذلك المشروع كان يلقى حماساً متبادلاً من طوائف من النخبة في البلدين، قد اصطدم بعقبة شكل الحكم في مصر مرتين. أمّا المرة الأولى فكانت حين أعلن فاروق نفسه “ملكاً على مصر والسودان” في عام 1951، وهو قرار لم يكن له وقع طيب على نفوس السودانيين. أمّا التطور الثاني فكان انقلاب جمال عبدالناصر على محمد نجيب في عام 1954، ثم ما أعقب ذلك من إعدامات لقيادات من الإخوان المسلمين في العام التالي. فبينما كان السودان يتمتع وقتها بحكومة ديمقراطية منتخبة، فإنّ فكرة الاندماج مع دولة تحكمها دكتاتورية عسكرية ذات أساليب دموية لم تعد جذابة حتى لأنصار الوحدة. ولم يفوِّت أقطاب الحركة الاستقلالية هذه الفرصة للتذكير بمخاطر الوحدة، حيث أقيمت صلاة الغائب على أرواح الشيخ عبدالقادر عودة ورفاقه داخل مبنى البرلمان، بينما انتهز السيد الصديق المهدي، أحد قادة حزب الأمة والحركة الاستقلالية، انتهز الفرصة ليخوف الإتحاديين من عواقب الوحدة، قائلاً إنّ نظاماً يعدم العلماء والمفكرين بسبب خلافات سياسية لن يكون أرحم بالسودانيين الغرباء. ولا شك أن هذه الأمور كانت ماثلة في أذهان قيادات الحركة الإتحادية حين إتخذت قرارها بدعم استقلال السودان وأدارت ظهرها لحلم الوحدة. أمّا في حالة الجنوب فإنّ الأمر معكوس، لأن نقطة البداية عند النخبة الجنوبية هي تفضيل الاستقلال، وليس تفضيل الوحدة كما كان الحال في سودان ما قبل الاستقلال. وعليه فإنّ التحدي هنا والجهد المطلوب لإقناع النخبة أكبر بكثير، كما أنّ العوامل المنفرة من الوحدة تصبح أكثر فعالية. وحالياً فإنّ الإشكالية المحورية تتعلق بالتوتر وعدم الثقة بين شريكي الحكم، الذي ينعكس بالضرورة على الرأي العام في شطري القطر. ومن الصعب في ظل عدم الثقة السائد أن يكون هناك أثر لرسائل إعلامية هدفها خلق شعور إيجابي تجاه الوحدة في الجنوب. ولعل الطريف أنّ بدء إرسال هذه الرسائل تزامن مع تصريحات رسمية تتهم الحركة الشعبية ضمناً (وأحياناً صراحة)، بأنها لا تسمح لمواطني الجنوب بالتعبير عن رأيهم بحرية، وتسعى، بحسب هذه الدعاوى، إلى التأثير على نتائج الاستفتاء لصالح الانفصال. وقد تزامن هذا مع مطالبة ملحاحة على نشر مراقبين أجانب للتأكد من نزاهة الاستفتاء، وهي دعوات مستغربة حين تصدر من أقطاب الحكم ممن يلعنون الأجانب آناء الليل وأطراف النهار، ويتهمونهم بأنهم وراء كل مشكلة وأزمة في السودان! وبغض النظر عن صحة هذه المزاعم، فإنها وضعت طرفي القضية على خط صدامي لا يمكن أن يخدم قضية الوحدة. وفوق ذلك وقبله، فإنّ هذا التوتر بدوره يعكس صراعاً حول السلطة لا بد من حسمه قبل حسم قضية الوحدة. ذلك أنّ الصراع بين الشمال والجنوب يدور حول شكوى الجنوب وبقية مناطق “الهامش” السوداني من استئثار النخبة الشمالية عموماً، والنيلية خصوصاً بالسلطة والثروة دون بقية أهل السودان. ويرى ممثلو الجنوب أنّ هذه الإشكالية لا يمكن حسمها ما لم يتم تعزيز المشاركة المتساوية لجميع مواطني السودان في السلطة، مع التوزيع العادل لموارد البلاد على مناطق البلاد وكل قطاعات السكان. هذه الشكوى تفترض بالطبع أنّ أهل الشمال راضون عن السلطة القائمة، وعن مشاركتهم فيها، وعن نصيبهم من موارد البلاد وثرواتها، وبالتالي فإنهم يشاركون السلطة قهر بقية السكان وسلبهم حقوقهم. وهذا الافتراض خاطئ بالطبع، لأن الحكومة القائمة، رغم مزاعمها باكتساح الانتخابات والحصول على تفويض شعبي غير مسبوق، لا تمثل غالبية أهل الشمال، ولا أهل المناطق النيلية، ولا حتى القبائل التي ينحدر منها قادتها، كما أنها لا تمثل فئة الإسلاميين. ولكن هذه التأكيدات تبقى بلا معنى ما لم يتحرك من تدعي الحكومة تمثيلهم من شماليين ومسلمين لإلزامها بالشورى وحقوق المواطنة، وإيقاف الوضع الشاذ الذي جعل هذه الحكومة تتفاوض باسمهم، وتقدم تنازلات عن حقوقهم لفئات أخرى حتى تثبت سلطتها وتضمن دعم تلك الفئات لها. ولكن هذه مسألة أخرى يطول الحديث فيها، وإنما موضوعنا اليوم هو أن “الدعاية” للوحدة لا يجدي فيها ما نسمعه اليوم من صخب وضجيج حول مزاياها، وهو أمر ضرره أكثر من نفعه، ومضيعة لوقت ثمين لم يعد يحتمل مثل هذه الترهات الانصرافية. فالناس لا يجادلون في أن وحدة الوطن خير من تمزقه، ولكن منهم من يرى أن الانفصال هو، مثل الكي، آخر الدواء. تبقى القضية هي وجود دواء لعلة حرمان أهل الجنوب وغيرهم من سكان الهامش من حق المشاركة الكاملة في السلطة. ونضيف نحن، وكذلك مشاركة بقية المواطنين في السلطة، وعدم الاستئثار بها من قلة معزولة. وحتى لا تضيع الأشهر القليلة الباقية كما ضاعت السنوات الخمس التي سلفت من عمر إتفاقية السلام، وقبلها خمسة عقود من عهد الاستقلال، فإننا نقترح الابتعاد عن الصخب والضجيج، والانصراف إلى العمل الهادئ الجاد لمعالجة معوقات الوحدة. ولأنّ عامل الوقت هو الحاسم في هذا الأمر، فإننا نقترح أن تقوم الحكومة باختيار مجموعة صغيرة من عقلاء أهل السودان المشهود لهم بالاستقامة والقبول، وأن تعهد إليهم استطلاع رأي قيادات وطوائف من عامة أهل الجنوب حول مطالبهم ومخاوفهم. ثم تقوم هذه المجموعة بتقديم تقرير لشريكي الحكم يحدد بجلاء الخطوات الواجب إتخاذها في الفترة الباقية قبل إجراء الاستفتاء في يناير القادم، لطمأنة أهل الجنوب بأن إيجابيات الوحدة ستكون أكبر من سلبياتها في ضوء الإجراءات التي ستتخذ. ذلك أن إقناع أهل الجنوب بالوحدة سيتأتى فقط عبر إجراءات سياسية ملموسة، وليس عبر خطوات دعائية أو رمزية لا تقدم ولا تؤخّر.

التيار

تعليق واحد

  1. حكومة ( مالطا ) لا تسمع الآذان وتسبح عكس تيار الفكر البشري لا تسمع نصيحة ولا يغير خط سيرها كل هذه المطبات والتلال التي تعترض طريقها إنها كالقاطرة التي يحدد مسارها قضبان الحديد التي تمتد تحتها وليس عقل من يجلس خلف مقودها .
    عشرون عاما كافبة جدا لأي زوجين من إنجاب طفل لجتاز كل مراحل نموه العقلي والجسدي يبدأها حبوا ثم تأتأة حتي يشب عن الطوق ويستوي بشرا سويا عاقلا حلال للمشاكل والصعاب ناصحا مقداما … ولكنها هذه ( العشرون ) لم تكف حكومتنا لبلوغ الفطام .

  2. وجهة نظر مقبول ……ولكن من يمكنة ان يختار هذه النخبة؟نفس الحكومة ام الحركة ؟ زول حاسي بالخطر مافي ….الا انا وانت الواطين الجمرة والله يستر ويكضب الشينة.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..