تـأملات في غـنائية الفنـان الظاهـرة إبراهيم عوض

حينما سطعت فى سماء الفن السودانى موهبة الفنان الراحل ابراهيم عوض، حملت الينا البشريات والآمال الممزوجة بالنغم والايقاع الراقى، وكان أبو خليل قبل أن يحترف فن الغناء يلين الحديد طوعاً تحت ايقاع مطرقته التى كان حينما يطرق بها كأنما يعزف على آلة البيانو.
وفى اليوم الذى اعتلى فيه مسرح الغناء محترفاً تفجرت ينابيع النغم بلا حدود، وأخذت بلب الجميع، شيوخ وشباب وشابات ونساء ورجال وأطفال، فرددوا جميعا اغنياته فى عفوية وطرب. وكان ابراهيم فى غاية الوسامة والقوة والشموخ والرقة والجمال. وعندما تقترن القوة بالجمال ترتقى بصاحبها دون شك الى مرتبة تشارف الكمال، وقد كانت تزين حنجرة ابراهيم ربطة الببيون الانيقة وشعره مصفف بعناية واتقان، وتعلو شفتيه ابتسامة عفوية وضاءة تجلب الفرح والارتياح والتفاؤل لجمهور المتلقين.
لقد تخطى ابراهيم بوسامته الامدرمانية تلك وسامة الممثل الامريكى الظاهرة آنذاك جيمس دين الذى كان ملك رقصة الروك اندرول والمثل الاعلى فى الشياكة لشباب العالم فى تلك الايام.
وفاق رقصاته المجنونة بتحركاته الانسيابية على المسرح دون تكلف أو صنعه. وتخطى وسامة الممثل الامريكى كلارك جيبل بطل الفيلم الامريكى «ذهب مع الريح» الفيلم الذى استحوذ على كل جوائز الاوسكار انذاك، والمصرى أنور وجدى وعمر الشريف وأحمد رمزى، وجميعهم كانوا نجوم شباك، وحقق بذلك المثل السودانى «الغنا سمع وشوف». فقد كان ابراهيم وسيم الطلعة بحق وحقيقة.
كان ابراهيم عندما يعتلي المسرح يتبختر في خطوات واثقة ورشيقة كأنه راقص باليه، لدرجة أن ضابط الايقاع بقدراته الموسيقية كان يضبط زمن طبلته على ايقاع خطواته رغم أن العكس هو المألوف، وكان إبراهيم النغم الحي المتحرك وصاحب الزمن السرمدي الذي لا يحتاج لآلة لضبط ايقاع خطواته، ومشهد أبو خليل على خشبة المسرح كان يجسد الجمال والهيبة والطرب.
وعندما يطلق العنان لحنجرته القوية وتتعالى صيحاته الجميلة الفاتنة إلى عنان السماء، تؤوب لها جبال المرخيات بغرب أم درمان، وعلى رجع صداها تتراقص مياه النيل وتنتشى الطابية وحلة حمد.
عزيز دنياي
فى هذه الاغنية يأتي ابراهيم بالمستحيل شدواً وترنماً خاصة عندما يترنم بمقطع:
«بهرب منك للقاك واحاول من أجلك انساك». ولا ادرى ماذا اقول للطاهر ابراهيم سوى ما هذا التسامى والايثار، ولا أظن ان شاعراً طرق هذا المعنى بكل هذا الرضاء والتنازل. وهذه الاغنية فيها كم من التطريب يصعب إدراكه، لأنك لا تستطيع أن تنقل روح الاداء الفاتنة. انها من اغنيات الخلود، فهي رغم اربعينيات عمرها مازالت نضرة ويافعة. وفي ختام الاغنية يتجلى ابراهيم مستجدياً عزيز دنياه «انا طامع»، ويصل في تجليه مقام درويش في حلقة الذكر، ويرتقى بحرف الألف فى «طامع» حتى يصل به شأواً يجعل في استجابة العزيز أمراً حتمياً لا مناص منه مهما كانت اسباب الخصام، ويرددها في استجداء حزين لدرجه تشفق عليه من الانهيار.
يا خائن
هذه الأغنية غنائية سياسية مموسقة يتدرج فيها صوت ابراهيم وينهمر كالشلال مجسداً فيها الخيانة والخداع والغدر، ويصفق له الجمهور حتى تكاد تدمي الايادى، والغريب في الامر ان كلمة «خائن» هذه من اقسى التعابير والكلمات التي ينفر منها الناس، ومن أقسى التهم التي توجه لشخص، ورغم ذلك حببها ابراهيم للمتلقين، وصاروا يتغنون بها في مجالسهم الخاصة، ويطلبون الاعادة والمزيد منها كلما تغني بها ابو خليل. ما هذا ؟ ! لو روى الانسان هذا المشهد لمن لم يشاهده او يستمع اليه لتملكه الاستغراب ووصفه بالمبالغة والخبل، فكيف لجمهور مستمعين اتى للترويح عن النفس والاستمتاع يواجه بالخيانة فيعجب بها ويطلب المزيد.. إنه ابداع لا بد للمزيد منه.. انه الهام ابراهيم الذي جعل من القبح جمالاً وجعل اغنيات الحزن تطرب، ومازال الالهام بعد رحيله يلهث في شوارع وأزقة أم درمان طارقاً الابواب باحثاً عن موهبة يرعاها ترقى إلى ما وصل اليه.
لقد استوطن الالهام مدينة أم درمان وتشبث بها منذ وصوله مع جيوش الامام المهدي، وظل يرفد بنيها بمختلف المواهب فناً وغناءً وشعراً، لكن استعصى عليه ايجاد خليفة لإبراهيم.. إنه أمر صعب للغاية يقارب الاستحالة.
> سيف الدين عبد الرحمن البيلي
الصحافة