حكاية امرأة من دارفور

سأحكي القصة كي لا أنسى أبداً

ذلك كان قبل زمن ، لكنه بالنسبة ليّ وكأنه حدث بالأمس القريب ، إننا لا نسي رعبنا بسهولة ، يظل ملتصقاً بنا تماما كما رائحة الخوف الفائح ، ليلة شتاء قاسية بمصباح صغير لا يكاد يُضي محيطه . هنا تَنفضُ الحياة مع المغيب ونهدأ نحن الأطفال لا بفعل التعب بل بالخوف فنحن نسكن ذيل الصحراء ، قرية بعيدة من كل العالم ، خارج الكون، نطل عليه من بعيد ، قرية نبعت هكذا وحدها ، خمسة عشر أسرة قوامها ، كنا فقراء متاعنا خياماً بالية على بساط الرمال الممتد ، لا نعرف من الدنيا سوى البحث عن الماء ، نركض طيلة النهار وكأننا هاجر بين الصفا والمروة غير أننا كنا سعداء بجهلنا .

عرفت هاجر والصفا والمروة عندما بلغت الخمسين من عمري وأنا صغيرة لم أكن أعرف غير الخوف . الخوف من العطش ، من الظلام ، الشمس الحارقة ، فأنا على الدوام حافية ، والخوف من الغرباء ، مع أنه نادراً ما يمر بنا عابرون ، لكن العابرين على قلتهم كانوا يخبرونا عن قتال وحرب بعيدة منا ، لكنها دائرة بعنف بين الحكومة وبعض من أفراد شعبها ، يقولون أن البلاد دائخة من الاتهامات والجمل الصاروخية والعبارات النارية ، والأفراد يتفرّخون بسرعة ليصبحوا جماعات منظمة تتفرّخ بدورها ككائن استثنائي الخصوبة .

كانت النقاشات الحادة تتحول مباشرة إلى انقسامات لينفض الكل وهم على خلاف ، كثر القادة وكثرت الجماعات ، هكذا كانت تقول الأخبار .

كنا نسترق السمع خائفين ، فنحن ضعفاء تنخرنا الحاجة ، في ضوء الشمس بعض أماننا وعادة الناس تخاف المجهول لذا كان الليل عندنا دائما مزدحما وخصبا بالخوف ، نتدفأ فيه ببعضنا ، ثلاثة بنات وأربعة ذكور ، وكنت الوسطي المكلفة دائما بأعمال تفوق طاقتها ، لكنني أعتدت علي الصبر والاحتمال كما اعتدت على الجوع والسير مسافات طوال والفستان المتواطئ سراً مع الشمس والبرد وأيضا الصمت للحفاظ على طاقتي قدر المستطاع ، لكن كل ذلك لم يفلح في تحويلي إلى فتاة متشائمة ، كنت محبة للحياة ، متفائلة بالشمس وسعيدة بفقري الذي لم أعرف غيره .

في ليلة الشتاء تلك كان البرد شديداً ، لم استطع النوم ، فالجوعى لا ينامون وكذلك الخائفين ، وكنت الاثنين معا ، لمحت بعض الغرباء نهاراً وأنا أسعى مع أغنامي لنأكل معاً من فتات الأرض .

لم أخبر احداً ، احتفظت بالكلام لنفسي ، لكن بعض الهمهمات سرت ليلاً ووصلت خيمتنا ، غرباء كُثر على مشارف قريتي ، تحرى إمام الزاوية الخبر ، جاء باليقين ، إنها احد الجماعات الحاملة للسلاح ، نحو عشرين رجلاً ، سيعبروننا قاصدين مكان ما ، أبي مع بقية الرجال كانوا في حيرة من أمرهم ، أيخرجون إليهم أم ينتظروهم هنا ، داخل القرية ، لكن تلك مخاطرة ، الأطفال والنساء ، وفي حالات القتال لا يُطمأن لحامل السلاح ، السلاح لا يجلب العمار بل هو أساس الخراب ، هكذا قال رجال القرية المجتمعين خارج قطيتنا ، صمتوا زمناً كأن الكلام استعصى ، طال الصمت ، أظن أنهم كانوا ينتظرون مشورة شيخ عبد الجليل ، فهو رجل رأي وهيبة ، في ملامحه وقار وطيبة وبعينيه صفاء وأمان تحسه ما أن تجالسه

– لا بد من لقائهم ، الأفضل أن نخرج إليهم ، ليبقى أثنين لحراسة النساء والأطفال

انفضوا في ضوء القمر البهي ، قاموا بقلوب حائرة وأقدام وجلة ، فنحن لسنا أهل حرب ، ركبوا حصينهم وغادروا ، بقينا نحن فزعين ، سكون عميق حلق فوقنا ، طوقنا به .

كنت مسجونة داخل هلعي ، نبضات قلبي تكاد تخترقني ، قدماي سرى بهما خدر كثيف ، متكرفسة في ركن القطيه الأيمن ، رأسي بين ساقي ، لا أحس بقية أطرافي بلا ثقل كنت ، خفيفة في مهب الخوف .

– من أين أتيت بكل هذا الخوف

هكذا تمتمت لنفسي سائلةً

للخوف رائحة غريبة وكريهة ، نافذة تبقي زمناً محشورة بأنوفنا ، لم نكن نملك شيئا نخاف ضياعه ، فقط أرواحنا لكنها كانت غالية علينا .

كنت أكثر الجميع رعباً ، غاطسة في أوهامي ، سأموت ، حان وقت موتي ، وددت لو أستطيع الجري ، سأتركهم كلهم خلفي ، أمي ، أخوتي وأبي ، أقطع الخلاء عدواً بلا تلفت ، زدت التصاقاً ببعضي ، علّني أخفف من فزع قلبي ونبضاته ، كل طاقتي أستنفدها الخوف ، لم أعد أقوى على الكلام ولا السؤال حتى ، كيف سأجري اذا ؟ غير أني ابتلعت كل مدخر شجاعة وعرفت أنني لا أحب الفضاء المكشوف ولا قريتي ولا الغرباء العابرين ولا حكايات الحرب التي كانت تصلنا من أفواههم ولا كلهم ، الأمان لا يُفاضل .

سنموت جميعاً ، موت بشع مشبع بالرعب ، سيسحبوننا على وجوهنا ، يجرون أمي كشاة مذبوحة ، سيقتلوننا بأسلحتهم الحديثة وسكاكينهم الصدئة ونحن غير محصنين ، صراخنا ستذكره الصحراء ما بقيت . شعرت بقلبي يسيل ، يتقطّر نقاط ماء ، بأصابعي كدت أحسها أو هكذا ظننت من عظيم هواجسي ، الكل ساكن ، كأنهم تماثيل حتى أخي الرضيع جرفه خوف فطري فسكت ، كلنا في انتظار الرجال .

بعد قلق طويل وخوف لو استمر لدقائق إضافية لخنقني قطعاً ، عادوا ، استنفار حواسي جعلني أسمع حوافر الحصين قبل الكل ، قلت بصوت لا أعرف كيف خرج ولا من أين

– عادوا

دخل أبي علينا بوجه غير الذي غادرنا به ، ملامحه أكثر انفراجاً ، نظر ناحية أمي قائلاً

– اصنعي كل ما في البيت من طعام ، هم جائعين

وكأنه نطق بالحياة ، قامت أمي سريعاً ، لم نكن نملك الكثير ليُصنع ، برفقتهم خمسة عشر رجلاً

لكن الكثير من الطعام كان قد صُنع وخرج لساحة الصلاة ، على فقرنا لم نكن مهووسين بتخزين الطعام .

صدق رجال قريتي عندما قالوا أن حامل السلاح لا يُطمأن له ، الجماعة كانت في حاجة ماسة لرجال يزيدوا عددها ، لم نكن نعلم إلى أي فئة ينتمون ، لكنهم قالوا أنهم من أجلنا يحاربون ، من أجل حياة كريمة للكل ، شيخ عبد الجليل رد عليهم قائلاً

– الإنصاف لا يأتي بالعنف والعنف لا يلد خيراً قط

لكن القتال أعماهم عن كلام العدل

– إننا لا نحارب من أجل أنفسنا ، الظلم والفقر في كل مكان ، يجب أن تكونوا معنا

لكن كيف يحاربون من أجلنا ويأخذون غطاءنا ، رجالنا عكازه لنا نحن الأطفال وستر للنساء ، سيجعلوننا مكشوفين للصحراء والعدم ، هم أمان القرية ، لكنهم استكثروا علينا فقرنا ، هددوا إن لم يذهب معهم بعض الرجال سيحرقون القرية ويخلّفونها رمادا ، طال الجدال وأمتد حتى الفجر الأول . حاول فيه رجالنا أن يقولوا لهم أننا لا نبحث عن الفردوس بل عن الماء فقط فهي حياتنا وكفى لكنهم قالوا أن الحق معهم ، ولابد من سندهم ، هكذا فضوا الحوار وهم ينفضون عن ثيابهم بقايا الرمال العالقة .

وكان عدلهم لنا أن ذهب الرجال وبقينا للصحراء طعاماً لكن بدماء حارة.

أميمة عبدالله
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. لا فض الله قلمك فقد احسنت السرد بل صرحت بالحقيقة . فبدايات الكارثة كانت هكذا سيئة .غصب وتهديد ووعيد . فمشيئة الله ارادت ذلك لمراة دارفور ولانسانها الوديع الحاني على كل بني البشر لكن ( البطن لوبا ) طما المثل والنار بتلد الرماد . اللهم رفقا ولطفا بمن بقي من اهل دارفور الكرام واهد الجميع الى الصواب .

  2. كمية الخوف التي بك ملاتني وجعلتني انحشر داخل الكرسي وانا اتابعك ,اكثر من رائعه, لكي منا الود امراة دارفور

  3. هذه القصة نقطة في بحر فظائع ارتكبها مجرمون في غفلة من الدولة و العالم الذي ناصرهم زورا بحبكة تسويقية اعلامية لتحقيق مآرب هؤلاء اللصوص و قطاع الطرق الفطرة التي جبلوا عليها بسيناريو فطير لم يقنع حتى الذين في الفيافي القاحلة

  4. الله الله يا اميمه انا مثلك من خيمة منصوبة في العراء تتجاذب اطرافها الريح والصحراء لم نكن نبجث عن شيئ غير الماء–الماء–الماء– نضفر جوعنا وبؤسنا حصيرا نتوسده حينما يزورنا القمر في لياليه البيض تملؤنا السعاده ويحفنا النعيم نعم يحفنا النعيم نعيم الصدق وتقاسم الشقاء.حياة مملؤة بالبذل والعطا الانساني من دون نفاق وشوفونيه خرقاء.نطبق الاشتراكيه في اسمي معانيها في حياتنا من دون ان نقراءها في الكتب فالجمل المشدود للورود حق كل الناس هذا ياتي بقربته وتلك تاتي بسعنها وذاك ياتي بسقاه فالكل صاحب حق من دون من او ازدراء ولكن كل دي سعادة ولو كانت في لون الشقاء محسود وفجاءة في ليلة ليلاء سمعنا حوافرا للخيل والخيلاء جاؤنا كفوج جائع من الذئاب فاتلفوا الحقول والعقول وقالوا لنا انكم لم تكونوا علي الجادة ودينكم فطير نريد ان نبيعكم نهر الكوثر بدلا من حياتكم التي تحاكي الموت .لكننا كنا رعاع من الحتالات التي في القاع فامتثلنا لامرهم وخرجنا من جنتنا العطشي الي متاهة خرقاءنهرها السراب وقواربها مملؤة بالحراب والفؤوس والاشياء لكننا لم نعد حين عاد الغرباء.******

    واصلي ايتها المبدعه ان في القصص لعبره

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..