المقال الأخير عن الجنوب قبل الدولة

رأي

المقال الأخير عن الجنوب قبل الدولة

محمد عيسي عليو

ربما يكون هذا المقال من المقالات الأخيرة التي نكتبها عن الجنوب وهو جزء من السودان، لأنه قريباً سيكون دولة منفصلة، فقد يختلف الأسلوب في الكتابة عنه، وحتى في نطاق الأسرة الواحدة الحديث عن العضو فيها يختلف الحديث عنه وهو قد تخرج وتزوج وكون عشته الخاصة به. وهذا ما سيحصل لنا مع الجنوب مستقبلاً. ولكن لا بأس من تناول اليوم مراحل الاستفتاء الأخيرة. كان الخوف يملأ بعض القلوب ان الاستفتاء سينتهي بمجزرة اشبه بمجزرة تيمور. حتى ان اذاعة عافية دارفور اتصلت بي على الهواء مباشرة ذكرت لي هذه التخوفات وخاصة مناطق التماس. أكدت ان الاستفتاء سيمر بسلام ولن تنكسر إن شاء الله كباية بين الشمال والجنوب، ولكن المذيعة أو المراسلة لم تكن متطمئنة فزادت في الحديث عن قبائل التماس ربما تُمنع من دخول الجنوب وبذلك ربما تحصل الاحتكاكات. فرددت إليها قائلاً ولا حتى قبائل التماس سيخلقون مشكلة اللهم إلا من بعض الافرازات الجانبية.
كنت منطلقاً من عدة قناعات في هذا الخصوص منها أن المؤتمر الوطني والحركة الشعبية اتفقا على تقسيم البلاد تماماً، ومن مدة، ومن وراء ظهر الشعب السوداني، وكل الذي نراه من مشاكسات جانبية عبارة عن ذر الرماد في العيون وضحك على ذقون الشعب السوداني، كل الذي حصل أن أدواراً قد وزعت بينهما هناك من يمثل قمة الوحدة وهناك من يمثل قمة الانفصال لينقسم الشعب بينهما. وإذا كان الأمر كذلك وهما بيدهما السلطة فكيف يسمحان أن تحصل التفلتات التي ذكرتها المذيعة.
ثانياً كنت منطلقاً من قناعة راسخة ان السودانيين كمواطنين ليست من صفتهم الاثارة والسير بالفتن والنعوق بها وكذلك الانتقام وبالذات الشماليين، للأسف بعض الاخوة الجنوبيين وأكرر البعض وليس الجميع يتصفون بصفات الاثارة والشغب، ولكن حكمة العقلاء دائماً ما تتجاوز هذه العواطف الجياشة عند بعض الجنوبيين. ففتنة توريت 1955م أثارها بعض الجنوبيين عندما هجموا على ضيوفهم الشماليين الأبرياء فقتلوهم. وكذلك الفوضى التي ثارت بعد اشاعة مقتل كلمنت أمبورو وزير الداخلية في حكومة اكتوبر 1964م في الخرطوم كان سببها الجنوبيون حتى الفتنة التي حصلت بعد مقتل الراحل جون قرنق عام 2005 كان أيضاً سببها بعض الاخوة الجنوبيين. أما من جانب الشماليين لا أذكر لهم حادثة اعتداء مباشر على الاخوة الجنوبيين إلا من باب الفعل ورده ودونكم السجلات ولكن الخطأ ان رد الفعل ربما يكون عنيفاً للغاية ولهذا دائماً القرآن يكرر اذا عوقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به وزاد القرآن الكريم وان صبرتم فهو خير للصابرين.
أقول ان السودان في زمن الانقاذ افتقد شخصيتين رحلا إلى الدار الآخرة إن بقيا ربما تكون الحال غير الحال هما الراحلان الزبير محمد صالح ود. جون قرنق. هاتان الشخصيتان لهما الجرأة في الاقتحام واتخاذ القرار والشجاعة في المواجهة ومنطق في الاقناع. لقد لاحظتم كيف ان المرحوم الزبير دخل وسط جموع الثوار في الجنوب وهم الثوار الانفصاليون وكيف جلس معهم وناقشهم حتى جاء بهم إلى الخرطوم في اتفاقية عرفت باتفاقية السلام من الداخل، ولكن من عجب ان الزبير توفى وترك ريك مشار كما يقول المثل «عكس الهواء» فلا أحد يهتم به وباتفاقه، حتى خرج ملتحقاً بجون قرنق. ثم جاء د. جون قرنق نفسه باتفاق مع نائب الرئيس علي عثمان محمد طه ومكث فترة تقل عن الشهر كان نجماً وحدوياً ساطعة أفكاره مفوها وذكيا ولماحا. استطيع الآن أن أحكي عنه هذه اللمحات البسيطة، والرجل انتقل إلى الدار الآخرة ولم تبق إلا شهادة التاريخ، ففي خلال العشرين يوما التي قضاها معنا كان مهموماً بقضية دارفور أيما هم واهتمام فأرسل إلى عدد محدود من أبناء دارفور كنت ضمنهم، تحدث الراحل في قضايا اساسية تؤكد ان الرجل سوداني وحدوي وله قناعة وفكر بالمبدأ، أولاً تحدث عن التنوع وقال بدون تنوع ليس هناك قيمة وضرب مثلاً بشتلة زهرة أمامه وقال من كم نوع تتكون هذه الزهرة، وأردف قائلاً طبعاً من عدة ألوان لو الزهرة دي مكونة من لون واحد أبيض أو أسود ما بتكون لها قيمة، ولكن قيمتها في تنوع ألوانها وهذا هو السودان. النقطة الثانية ركز على أنه سيحل مشكلة دارفور بصفته نائباً أول كما حل علي عثمان مشكلة الجنوب بصفته نائبا أول. النقطة الثالثة قال لن نسمح لجيش الحركة الشعبية أن يقاتل أبناء دارفور ولذلك تركيزنا على أن الحوار هو الذي يحل مشكلة دارفور، وأخيراً وعد بزيارة دارفور ولكن العمر لم يمهله ليكمل مشواره. أعتقد ان الأقدار ساقت أن يصل السودان إلى هذه المرحلة وبالكيفية التي تمت ولولا ذلك لعاش جون قرنق لنرى ماذا يفعل؟.. وفي الأثر النبوي فإن لو تفتح عمل الشيطان، فلنغلق هذا الباب، ونركز على الاستفتاء ومخرجاته. نقول رغم خلافنا وغضبنا وتحفظاتنا على قطع جزء اساسي من الوطن دون مبرر، إلا اننا نتفق ونشيد بالطريقة التي تمت بها مراحل الاستفتاء ، وهذا ما ذكرناه في مقال سابق قبل الاستفتاء بأكثر من شهر من انه لابد أن تبدأ مراحله بطريقة حضارية وتنتهي كذلك. وقلت بالحرف يجب أن نجئ للجنوبيين من «قدام» لا هم قنعانين منا ولا نحن قنعانين منهم ، بغض النظر عن آراء المرتدين القلة لأن ما يجمع بيننا أكثر مما يفرق. وسبحان الله النيل يربط بيننا ويجري شمالاً، وكل مقومات الجغرافيا لا تسمح لبترول الجنوب أن يجري جنوباً إلا شمالاً، وان قبائل التماس تقطع رقابهم ممكن ولكن لا يمكن أن تقطع ارزاقهم في فترة الصيف في الجنوب، اضافة إلى التصاهر والصداقة والمحبة التي حصلت في القرون الماضية. لقد قال لي القائد سانتيو دينق القائد العسكري لولاية شمال بحر الغزال عقب زيارتي الأخيرة لتلك الولاية، قال مهما تكن من نتائج انفصال أو وحدة فإني لن أنسى للشماليين صفتين الأولى مرحب تفضل تعالى جاي لو جئت في نصف الليل كضيف لا تسمع إلا هذه الكلمة. ثانياً الفصل بين الجنسين يعني النسوان براهم والرجال براهم في جميع المناسبات. وهذا وحده يكفي من تلاقح للثقافات والتلاقح هو الذي يجر المرتدين والمترددين. وإلى الامام في السلوك الحضاري.

الرأي العام

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..