العنف والضبط في حدود دارفور – تشاد (1909 ? 1956م): مراقبة حدود استعمارية

العنف والضبط في حدود دارفور – تشاد (1909 ? 1956م): مراقبة حدود استعمارية
Violence and Regulation in Darfur ? Chad Borderland (1909 ? 1956): Policing a colonial boundary
كريستوفر فون Christopher Vaughan
ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذه ترجمة وتلخيص موجز لبعض ما ورد في مقال للدكتور كريستوفر فون (والذي يعمل الآن محاضرا للتاريخ في جامعة ليفربول ببريطانيا) مستل من بحث قام به قبل سنوات قليلة عن ثورات دارفور في سنوات الاستعمار الباكرة وقدمه لجامعة دارم البريطانية لنيل درجة الدكتوراه في عام 2011م. وقد نشر هذا المقال في مجلة “تاريخ أفريقياJ. African History ” في عددها رقم 54 لعام 2013م.
الشكر موصول للمؤلف على مدي بنسخ من مؤلفاته عن دارفور.
المترجم
******* ************ ********** ***********
حدث في عام 1924م والمفاوضات بين المسؤولين البريطانيين والفرنسيين حول التحديد النهائي للحدود بين السودان (البريطاني ? المصري) وأفريقيا الاستوائية (الفرنسية) تشارف على نهايتها أن عبر 200 من الرعاة من قبيلة السلامات العربية (مع نحو 4500 من ماشيتهم) ما ظنوه الحدود بين السودان وتشاد. وزعموا فيما بعد لمسئولي الحكومة السودانية أنهم عبروا الوادي الذي هو معلم الحدود عندهم، وبعد عبورهم لذلك الوادي – وبحسب لتقرير م. أ. أفندي عبد الرضي في دار الوثائق القومية- قالوا فرحين: ” نحن الآن في أراضي انجليزية ولا أحد بمقدوره إيذائنا”. ورغم ذلك فقد قام السلطان بخيت صيام سلطان دار سينار (وهي إحدى السلطنات الحدودية التي دانت للفرنسيين) بالهجوم على هؤلاء الرعاة السلامات بقوة ضخمة وقتل منهم ثلاثين رجلا وغنم ثلث ما كان معهم من ماشية (أي 1500 رأسا). وأحتج البريطانيون بالقول أن ذلك الهجوم وقع في أراض سودانية، وساندوا مطلب السلامات بدفع تعويضات مجزية. غير أن الفرنسيين لم يلقوا لتلك المطالبات بالا.
وتلقي تلك المجزرة وما أحاط بها من ظروف، والقضايا التي أثارتها نقاطا عديدة لها علاقة بالصورة الأشمل لتاريخ الحدود بين دول أفريقيا المستعمرة، ودور الزعماء المحليين في حراسة ومراقبة الحدود تحت ظروف موارد شحيحة، وحركة المهاجرين عبر الحدود (التي وضعها المستعمر) لما يحسبونه مناطق “العشب فيها أكثر اخضرارا”، والاحتكاكات والصراعات الناتجة عن التغول على المناطق التي تعيش فيها أو تسيطر عليها قبيلة أو قبائل بعينها.
ولم يجد ? وإلى الآن- تاريخ الحدود بين الدول الإفريقية اهتماما كبيرا من المؤرخين على الرغم من وجود عدد وافر من الدراسات حول الحدود بأقلام متخصصين في دراسات الانثربولوجي والتنمية. وتغير عند المؤرخين ? ومنذ ثمانينيات القرن الماضي- مفهوم تأثر وتأثير الحدود الاستعمارية ودورها في إفريقيا. فمفهوم “الوطن- الدولة ?nation ?state مفهوم غريب على أفريقيا، ولكنه يبدو وكأنه مفروض عند الجمهور من المؤرخين الآن، ولا يناسب في الواقع حقائق الأوضاع الاجتماعية والسياسية في أفريقيا. ولا ريب أنه، وعلى وجه العموم، فإن ما خلفه المستعمرون من حدود اصطنعوها بين الدول الإفريقية المستعمرة كانت له آثارا مدمرة على تلك الدول، ولم يلق لها السكان المحليون بالا في غالب الأوقات. إلا أن هنالك بعض الاستثناءات، مثل الحدود بين غانا وتوجو ، والتي لم يفرضها المستعمر، بل أتت بفعل إرادة الشعبين على جانبي الحدود.
إنشاء الحدود (1811 ? 1923م)
لم ترسم الحدود بين دارفور وتشاد بصورة اعتباطية كلية، فقد احتل البريطانيون والفرنسيون الدولتين حين كانتا محكومتين بدولتين وطنيتين منفصلتين تحت سلطة دارفور وسلطة وداي، وكانتا آخر الدول التي أحتلها مستعمر أوربي. فقد أحتل الفرنسيون سلطنة وداي في عام 1909م وأحتل البريطانيون سلطنة دارفور عام 1916م.
ولقد كانت تلك المنطقة هي منطقة حدود متنازع عليها بين دولتين متنافستين، وكان جزء كبير من تلك الحدود حدودا مخططة ومعروفة من قبل مقدم المستعمر الأوربي. وشهد كثير من الرحالة الذين عبروا دارفور في سنوات حكم السلطان علي دينار (1898 ? 1916م) على وجود صفين من التلال مقوية بالصخور والزرائب الشوكية (وتعرف محليا بالترجا tirja)، كانت تعد كعلامات للحدود بين سلطنات دارفور، خاصة عند المساليت المزارعين، والذين كان ولائهم موزعا بين سلطنتي دارفور ووداي. ولعل أول من ابتدع وضع تلك الزرائب الشوكية كمعالم للحدود هو الحكم المصري ? التركي لدارفور بين سبعينيات وثمانينات القرن التاسع عشر، رغم أن الرحالة الألماني جوستاف نايتنقيل (والذي زار دارفور ووداي قبل تلك السنوات) سجل أنه شاهد عددا من معالم ومحطات الحدود بين السلطنتين المتنافستين، كانت مهمتها تقدير وتحصيل المكوس والجمارك على البضائع العابرة للحدود، ووضع المرضى في “حجر صحي” قبل إدخالهم، والحفاظ علي الأمن في المنطقة. وكان الرحالة التونسي قد شاهد أيضا في عام 1811م مسامير حديدية ضخمة مثبتة في جذوع الأشجار كمعالم للحدود بين السلطنتين. وكانت تترك بين حدود السلطنتين (خاصة في مناطق المزارعين المستقرة) مسافة خالية كمنطقة عازلة ليست تحت سيطرة أي منهما، تعادل مسيرة يوم كامل. بينما لم تكن هنالك أي معالم للحدود بين السلطنتين في مناطق الرعاة الرحل في الأطراف الجنوبية والشمالية.
وكانت للعلاقات الجانبية لكل من سلطنتي دارفور ووداي مع السلطنات الصغيرة المجاورة ذات أهمية كبيرة في تحديد سلطة ونفوذ كل منهما على بقية السلطنات. ففي القرن التاسع عشر كانت دار سيلا مثلا تدفع جزية tribute لكل من سلطنتي دارفور ووداي، وتحتفظ في ذات الوقت بسيادتها واستقلالها عنهما.
وفي عام 1899م (أي قبل 17 عاما من احتلال البريطانيين لدارفور و10 سنوات من احتلال الفرنسيين لوداي) اتفقت بريطانيا وفرنسا على تحديد مراكز نفوذهما في المنطقة، آخذين في الاعتبار مطالباتهم بـ “حقوقهما” التاريخية. وكانت مراكز النفوذ تلك – ويحسب ما أورده ثيوبولد في كتابه عن السلطان علي دينار- تقضي في الواقع بفصل مملكة وداي ما كان يشكل في عام 1882م “مديرية دارفور”، وشكل ذلك اعترافا للسيادة البريطانية على تلك المنطقة بحدودها “الجديدة”. غير أن احتلال الفرنسيين لغرب دار المسلايت في عام 1911م كان قد أحدث تغييرات دراماتيكية على “النطاق الإقليمي territorial scope” لتلك السلطنة الحدودية.
وعندما حاولت لجنة الحدود في عامي 1922 و 1923م تطبيق اتفاق عام 1919م بشكل نهائي على الأرض، وجد وجهاء المنطقة المحليين الفرصة لإثبات مطالبهم (وحقوقهم المزعومة) في الأرض والسلطة استنادا على معرفتهم بالتاريخ المحلي للمنطقة. وبدا واضحا أن محاولة وضع حدود ثابتة وصارمة بين المستعمرتين البريطانية (دارفور) والفرنسية (وداي) ستفرض قيودا على الأنماط المرنة المتعارف عليها للحقوق المحلية المتعلقة باستخدام المياه والأراضي، بل وستهدد وجودها. ولكنها من جهة أخرى ستتيح الفرصة للنخب المحلية لتقديم أقصى ما لديهم من مطالبات وحقوق تاريخية في الموارد المتوفرة بالمناطق الحدودية ، والحصول على موافقة الدولة على تلك المطالبات. وكان المسؤولون يدركون تماما الطبيعة العملية والنفعية لتلك المطالبات التي تقدمها تلك النخب المحلية المتعلقة بالأرض والموارد المائية وغيرها.
وعلى الرغم من كل محاولات الدولة الاستعمارية رسم أو ايجاد حدود دائمة ومتفق عليها، إلا أن تلك المحاولات تعثرت كثيرا بسبب الخلافات المحلية والمطالبات المتضاربة والمزاعم المتباينة لمختلف القبائل في المنطقة.
الغزوات الحكومية وغير الحكومية
وكانت الدولتان الاستعماريتان (بريطانيا وفرنسا) قد توقعتا أن تخطيط ورسم الحدود بين دارفور ووداي سيجلب الاستقرار للمنطقة، كما يحدث عند غالب الدول المعاصرة بحدودها المخططة والمرسومة بدقة. بيد أن ذلك لم يكن ليحدث بين دارفور ووداي. فقد كانت قبيلة القرعان الرعوية المتنقلة (الرحل) في الصحراء الواقعة شمال منطقة الحدود، والكبابيش في كردفان (والذين كانوا يهاجرون موسميا للرعي في دارفور) في حالة اقتتال مستمر. وكان عام احتلال بريطانيا لدارفور (1916م) عام عدم استقرار وقتال مستمر في المنطقة وغزوات متبادلة خطف فيها عدد كبير من الأطفال والنساء، ونهبت فيها آلاف الماشية. وكانت هنالك مجموعة من القرعان (تحت قيادة محمد أربيمي) ضالعة في تلك الغارات مما دعا المستعمر الفرنسي لتصنيفها كعصابات متمردة. وكما ورد في وثائق فرنسية عام 1917م أتهم المستعمر البريطاني أولئك القرعان باللصوصية وبأنهم ” يتصفون بإستقلالية ووحشية، ولم يسبق أن خضعوا يوما لسيطرة قوة ما”. وسجل المسؤولون في وثائقهم أن عيش القرعان في أماكن نائية وعرة الطبيعة وشحيحة المياه ولم تستكشف بعد، قد جعلت عملية السيطرة عليهم أمرا متعذرا. وكان تنقل القرعان السريع وغير المتوقع من مكان لآخر يسهل عليهم تفادي حملات القوات الحكومية.
وكانت سياسة المستعمر الفرنسي تجاه مقاومة وعصيان القرعان (وغيرهم) هو الرد عليهم دون تساهل أو رحمة . فكان المستعمر الفرنسي يقيم معسكرات دائمة لقواته في منطقة وفيرة المياه والكلأ تنطلق منها حملات للمناطق المجاورة الأخرى التي بها آبار ومراعي كي “تلقي القبض على بعض النسوة والأطفال هنا، وتخطف بعض الإبل هناك … وربما تقتل بعض الرجال هنا وهناك”. وكانت تلك السياسات الفرنسية البالغة العنف تلقى القبول عند البريطانيين، إلا أن التعاون والقيام بأعمال عسكرية مشتركة بين الدولتين ضد المتمردين القرعان (وغيرهم) ظل في غالب الأحوال أمرا نظريا. وبقيت كل محاولات “تهدئة” أو حسم أمر تمرد القرعان تراوح مكانها، وظل القرعان، وحتى الخمسينيات يقومون بالهجوم على مناطق على حدود السودان. وفي عام 1917م استغل البريطانيون بقيادة الضابط سارسفيلد ? هول العداء التقليدي بين القرعان والكبابيش لتعبئة رجال من القبيلة الأخيرة للمساعدة في المجهود الحربي لقوات الحكومة ضد القرعان. فعسكر رجال الكبابيش في مناطق الآبار بجبل الميدوب، وهي المنطقة التي كان من المتوقع أن تتراجع إليها عصابات محمد اربيمي إن هوجمت. غير أن الكبابيش (كما كان يفعل الفرنسيون) قاموا بشن غاراتهم (الخاصة) على القرعان مستخدمين الأسلحة التي وفرها لهم البريطانيون، وغنموا منهم 300 من الإبل. وهنا يتضح أن “الدولة” استخدمت الممثلين المحليين (واستخدمت هي أيضا من قبلهم) في ما اسماه الكتاب جامي منسون “سياسة الأحلاف القابلة للاحتراق”. ويتضح من كل ذلك أن مناطق الحدود الشمالية بين السودان وتشاد لم تكن منطقة مقاومة للمستعمر فحسب، بل كانت تعج بداينميكيات عنف متبادل بين المتمردين والحكومة، وبين المتمردين وقبائل محلية متحالفة مع الحكومة.
وحتى سنوات كتابة هذه السطور (المقصود هو أعوام 2010 ? 2013م) ظلت مناطق الحدود الصحراوية شمال حدود السودان وتشاد مناطق نزاع وعمليات حربية للمتمردين تجعلها خارج سيطرة الحكومتين التشادية والسودانية.
مراقبة الحركة عبر الحدود
لم يكن العنف موجها فقط ضد الغزاة العابرين للحدود، بل كان موجها أيضا ضد الجماعات (غير المحاربة) التي كانت تعبر الحدود بصورة راتبة. وبذا أصبح الصيد عبر الحدود أمرا محفوفا بالمخاطر. فعلى سبيل المثال هاجمت القوات الفرنسية في عام 1925م مجموعة من الصيادين البقارة الذين عبروا الحدود السودانية إلى بانقي – شار Ubangi-Shar (وهي مستعمرة فرنسية في أفريقيا الوسطى) وقتلت عشرة منهم. ويزعم التعايشة الصيادون أن الجنود الفرنسيين كانوا يصوبون نيران أسلحتهم عليهم قبل السؤال عما إذا كانوا يحملون تصريحا بالصيد أم لا. ولذا لم هؤلاء البقارة ضرورة استخراج رخص للصيد والحال كهذه. وفي عام 1947م اشتكى التجار السودانيون للحكومة السودانية من سوء معاملة رجال شرطة وجمارك الحدود الفرنسية لهم في أبشي، والذين كانوا يجبرونهم بوسائل تعذيب شنيعة على الاعتراف بتهريب البضائع.
وكان البريطانيون ? بعكس الفرنسيين في تشاد- يرحبون بعبور البشر (دون كبير تدقيق) لداخل السودان من تشاد، إذ أن هؤلاء المهاجرين الاقتصاديين كانوا مصدر جيدا للعمالة والضرائب. وكان هؤلاء غالبا ما يستقرون في شرق السودان. غير أن الفارين من تشاد بسبب الاضطهاد الفرنسي (والذين كانوا يفضلون الاقامة في دارفور) كانوا يمثلون معضلة للمستعمر البريطاني لأسباب مختلفة.
وسمح الاتفاق بين الفرنسيين والبريطانيين المبرم عام 1924م للساكنين على جانبي الحدود السودانية ? التشادية بالعبور بحرية بين البلدين والبقاء في أي منطقة فيهما لفترة لا تزيد عن ستة أشهر. غير أن السلطات الاستعمارية الفرنسية تضايقت من نتائج ذلك الاتفاق إذ اشتكت من “الهجرات الجماعية” لسكانها في تشاد إلى السودان البريطاني ? المصري، مما يتسبب في حرمان الدولة الفرنسية المستعمرة من العمالة ومن الدخول المتوقعة من الضرائب. واشتكى المستعمر الفرنسي من أن جاره المستعمر البريطاني كان يبث “دعايات مغرضة” عبر عملاء له في تشاد لجذب “الرعايا الفرنسيين” لأراضيه، وحث السلطان بخيت لمنع تدفق سكان تشاد عبر الحدود لداخل السودان. ونتج عن ذلك معارك عنيفة قادها القادة المحليين التشاديين ضد من يحاولون الهجرة لداخل السودان، واستمر هذا الحال حتى أواخر الثلاثينيات.
وكانت هنالك أيضا موجة هجرة جماعية لسكان أفريقيا الاستوائية الفرنسية نحو السودان، حيث عبر كثير من هؤلاء الحدود السودانية بذريعة الذهاب لمكة لأداء فريضة الحج، بينما توجه قسم كبير منهم لمشروع الجزيرة للعمل فيه كأجراء. وكان من الصعوبة بمكان التمييز بين من كان يعبر حدود السودان بغرض العمل والكسب المادي، ومن كان يريد أداء فريضة الحج. وكان هنالك أيضا من عبر الحدود إلى داخل السودان لتفادي دفع الضرائب في منطقته الأصلية، ومن كانت هجرته للسودان بسبب اعتداءات المستعمرين الفرنسيين على السكان (خاصة النساء والأطفال) وقطعان الماشية. فقد نقل زعيم تشادي للمسئول البريطاني في دارفور في عام 1927م أنه وعمه و39 رجلا من عشيرته كانوا قد عقدوا العزم على الهجرة للسودان، ولما سمع الفرنسيون بذلك خدعوهم بالدعوة لاجتماع لبحث مشاكلهم في مكان حددوه. وهنالك قاموا بشد وثاقهم بالحبال وقتلوهم بالسكاكين، وتركوه هو ليحيا ويحكي القصة المرعبة للآخرين على سبيل العظة. وكرر تلك القصة ومثيلاتها للمسئولين البريطانيين عدد كبير من الشاديين الذين كانوا يرغبون في عبور حدود السودان. بل وصرح شيخ كبير من هؤلاء المهاجرين أنه “في دار الانجليز يمكن للرجل الفقير أن يعمل، وللرجل الضعيف أن يحمى”. ويبدو أن ذلك الضرب من اللغة والخطاب مع المسئولين البريطانيين كان محفوظا ومعادا عند الشاديين من راغبي الهجرة للسودان، وكان يجد منهم كامل التعاطف. فقد كتب مفتش بريطاني إلى رؤسائه قائلا إنه لا يستطيع ? من أجل الإنسانية المجردة- أن يعيد أولئك الراغبين في الهجرة للسودان إلى ديارهم وهو يعلم تماما ما سيحيق بهم عند عودتهم (من قبل الفرنسيين). وكتب السكرتير الإداري للمسؤولين بدارفور خطابا يذكرهم فيه بأنه ليس عليهم إرجاع المهاجرين الشاديين لبلادهم الأصلية، غير أنه ذكرهم أيضا بضرورة أن يعللوا ذلك بـ “عدم القدرة” وليس لـ “عدم الرغبة” في إرجاع هؤلاء المهاجرين!
ولكن ما أن تم الاتفاق على ترسيم وتحديد الحدود بين الدولتين (على الأقل نظريا) حتى أصدر حكام دارفور المتعاقبين (وبضغوط من الحكومة الفرنسية) أوامر صارمة للمفتشين البريطانيين بضرورة التشديد في أمر ضبط هجرة الشاديين للسودان. ومن بعد ذلك بدأ البريطانيون في ممارسة “عنف الدولة” والكتابة سلبا عن هؤلاء المهاجرين ومهاجمتهم. فقد وصف المفتش البريطاني في دار مساليت في عام 1929م المهاجرين الشاديين بأنهم مجهولي الهوية، ولا يدفعون أي عشور أو ضرائب، وليست عليهم أو لهم التزامات أو روابط عائلية (كالمساليت)، وبعضهم قد ينقل أمراضا معدية كالجدري، وبعضهم يشتغل بالإجرام، خاصة نهب الأبقار. وهنا يتطابق الموقف البريطاني مع الموقف الفرنسي (القديم) المعادي للهجرة عبر الحدود السودانية بدعوى أن المهاجرين ينقلون الجريمة والأمراض المعدية والفوضى للبلاد التي يهاجرون إليها. وقد حدث أن اتهم المستعمر الفرنسي في عام 1920م الرعاة والمزارعين السودانيين بذات الأوصاف. فقد هاجم الفرنسيون في ذلك العام رعاة رحل من قبيلة البديات عبروا الحدود من دارفور لتشاد وسلطوا عليهم جنودا لتخريب معسكراتهم وطردهم من تشاد. وقام البريطانيون في عام 1929م بإحراق عشر من القرى في مناطق الحدود مع دار مساليت. وقاموا في زالنجي بجلد العائدين من تشاد، ووضعوا “شعبة” حول عنق كل واحد منهم على سبيل التعذيب والإهانة. ورغم كل تلك الأصناف من “عنف الدولة” فقد كان الفشل نصيب تلك المجهودات المناهضة للهجرة، وكان ذلك لعدة عوامل منها قدرة المهاجرين على تفادي قبضة الحكومة، وطول الحدود واتساع رقعتها، وضعف امكانات الدولة. فكثير من المهاجرين الشاديين الذين كانت السلطات الاستعمارية البريطانية تلقي القبض عليهم وتحاول إعادتهم لبلادهم كانوا يفلتون من قبضوا الشرطة وهم في رحلة العودة لتشاد، وينتشرون مرة أخرى في تلك المديرية الواسعة وتصعب ملاحقتهم.
وأخيرا، وفي عام 1944م وافق الجانبان البريطاني والفرنسي على “السير مع التيار وليس ضده” فسمحوا في ذلك العام للرعاة من البديات والزغاوة بعبور الحدود الشمالية بين تشاد والسودان متى وأَنَى شأوا بحسب الموسم والظروف الاقتصادية والروابط العائلية، شريطة أن يدفع هؤلاء الرعاة ما عليهم من ضرائب ومكوس لشيخ قبيلتهم بغض النظر عن الجانب الذي يكونون فيه من الحدود.
وكان موقف السلاطين المحليين على طرفي الحدود بين تشاد والسودان مختلفا تماما. فقد كان موقف سلاطين الجانب السوداني ? على عكس نظرائهم في الجانب الشادي ? مرحبا بالمهاجرين وحاميا لهم. فقد لاحظ المسئولون البريطانيون في عام 1938م بمزيد من الارتياح أن سلطان اندوكا في دار مساليت (ولعله محمد بحر الدين أبوبكر. المترجم) كان يرحب بالمهاجرين من تشاد ويكرمهم، مما جعله (على الأقل في مخيلة البريطانيين) حاكما محبوبا عند شعبه، ومكروها عند المستعمرين الفرنسيين في تشاد، والذين اتهموه بأنه يشجع على الهجرة من تشاد بمنحه فترة إعفاء من دفع الضرائب والمكوس قدرها ثلاثة أعوام لكل من يصل لسلطنته. بينما رد البريطانيون على تلك “الفرية” بأن الضرائب والمكوس على البهائم والزروع كانت تقدر كل ثلاث سنوات على أية حال، وأن سلطان اندوكا (رغم ترحيبه بالمهاجرين) كان ينفذ ? وعلى الفور- أي أمر يصدر له من السلطات البريطانية بإعادة أي مهاجر تحدده الحكومة لبلاده الأصلية.
وعلى وجه العموم كانت الدولة الاستعمارية في السودان لا ترغب في التدخل بأكثر مما يجب في شئون دارفور، وكانت تكل أمر إدارتها المحلية للزعماء الوطنيين، خاصة في ما يتعلق بحفظ الأمن والسلم والهجرة والتجارة عبر الحدود وغيرها. كذلك يجب القول بأنه لم يتم عمليا أي ترسيم حقيقي أو مراقبة فعالة للحدود بين الجارتين: السودان وتشاد طوال فترة الحكم الاستعماري وذلك لأسباب عديدة تم ذكر بعضها في ما سبق. .
اقتباس:
( وكان البريطانيون ? بعكس الفرنسيين في تشاد- يرحبون بعبور البشر (بوثائق ثبوتية أو بدونها) لداخل السودان من تشاد، )انتهى الاقتباس.
لا افهم كيف كانت تصدر اوراق ثبوتية عند العقدين الاول و الثاني من القرن الماضي. اي قبل و بعد حكم علي دينار. ممكن المترجم يفهمني ؟؟؟؟؟؟
قضية اخرى تثير فضولي من زمن وقد وجدتهاقصصا ثم في احد قصائد الشاعر عالم عباس وهي معركة تسمى دروتي حيث حاول الفرنسيون اجتياح غرب دارفور و ضمه الى تشاد فتصدى لهم السلطان بحر الدين و هزمهم. ليس للانجليز اي دور او دعم للمواطنين في تلك المعركة.
الصرعات الحاليه اوضحت بجلاء ان معظم غرب السودان ودار فور جماعات وقبائل متعددت الولاءات.
حيث تجد لكل من الزغاوه والمساليت وغيرهما من القبائل الموجوده هناك نفس القبائل على دول تشاد وافريقيا الوسطى والنيجر وباقي دول غرب ووسط افريقيا.
يعني بالوااااااااااااااضح كده لا جئيين نازحين متعددي الشرائح. يجو السودان سودانيين يروحوا تشاد يصبحو تشاديين يذهبوا النيجر نيجريين.
السودان بلد غريب!!!!!!
محمد الفيتوري
مقتل السلطان تاج الدين
-1-
فوق الأفق الغربى سحاب أحمر لم يمطر
و الشمس هنالك مسجونة
تتنزَّى شوقاً منذ سنين
و الريح تدور كطاحونة
حول خيامك يا تاج الدين
***
يا فارس
سرج جوادك ليس يلامس ظهر الأرض
و حسامك مثل البيرق يخترق الظلمات
يا فارس
مثل الصقر اذا ما أنقض
بيتك عالى الشرفات
نارك لا تخبو .. لا تسود
و جارك موفور العرض
يا فارس..
حتى مات!
-2-
كان السلطان يقود طلائعنا
نحو الكفار
و كان هنالك بحر الدين
و اطل بعينه كالحالم..
ثم تنهد:
(( الحرب الملعونة
(( يا ويل الحرب الملعونة
((أكلت حتى الشوك المسود
لم تبق جدار لم ينهد
(( و مضى السلطان يقول لنا
و لبحر الدين:
– هذا زمن الشدة يا أخوانى
هذا زمن الأحزان
سيموت كثير منا
و ستشهد هذى الوديان
حزن لم تشهده من قبل ولا من بعد
***
و أرتاح بكلتا كفيه فوق الحربة
و رنا فى استغراق
نحو وجوه الفرسان
كان الجو ثقيلا، مسقوفا بالرهبة
و بحار من عرق تجرى فوق الأذقان
و سيوفهم المسلولة تأكلها الرغبة
و الخيل سنابكها تتوقد كالنيران
و مضى السلطان يقول لنا
و لبحر الدين:
– هذا زمن الشدة يا أخوان
فسيوف الفرسان المقبوضة بالأيادى
تغدو حطبا مالم نقبضها بالإيمان
و السيف القاطع فى يد الفارس
كالفارس يحلم بلقاء الفرسان
***
و ترجل تاج الدين
جبل يترجل مزهواً من فوق جبل
و ترجل بحر الدين
و حواليه عشرة الاف رجل
سجدوا فوق رمال((دروتى)) لله معه
و أطلَّت كل عيون الطير المندفعة
فى هجرتها من أقصى الغرب لتاج الدين
فعلى أفق الوادى الغائم
تتمدد رؤوس و عمائم
و بيارق يشبهن حمائم
… ثم إرتجفت أفواج الطير
وراء السحب المرتفعة
-3-
– يا تاج الدين
الأعداء أمامك.. فارجع
لهب..و قذائف حمر..
و خوذات تلمع
و الحربة مهما طالت
لن تهزم مدفع
لن تهزمهم يا تاج الدين
بسلاح كزمانك مسكين
و كعاصفة سوداء تلفت تاج الدين
فى سخط الجبارين تلفت تاج الدين
و أطل على وجه القائل
و كانت شفتاه رعودا و زلازل
و كانت كلمات السلطان
سلاسل
– يا ويلك لو لم تك ضيفى يا عبدالله
ما اقبح ما حركت به شفتيك
ما أبشع ما منيت به عينيك
عار ما قلت..
و عار أن نستمع اليك
فأثن زمام جوادك
و خذ الدرب الآخر
يا بحر الدين اعده للدرب الآخر
-4-
و تدفقت الرايات
و غطى الأفق صهيل الخيل
و ((دروتى)) العطشى مازالت
تحلم بمجئ السيل
و تحدر من خلف الوديان المحجوبة
علم قانٍ..و مدافع سبعٍ منصوبة
و حرائق و ضجيج شياطين
هاهم قدموا يا تاج الدين
فانشر دقات طبولك ملء الغاب
حاربهم بالظفر، وبالناب
طوبى للفارس
إن الموت اليوم شرف
داسوا عزة أرضك
هتكوا حرمة عرضك
عاثوا ملء بلادك غازين
غرباء الأوجه سفاكين
فاضرب..اضرب..يا تاج الدين
اضرب..اضرب..اضرب..
-5-
– يا مولاى السلطان
سلام الله عليك
قتلى أعداؤك مطروحون
لدى قدميك
أسرى مغلولون و خدَّام بين يديك
أكلت نيران مدافعهم نيرانُك انت
بالسيف و بالحربة
وبإيمانك قاتلت
يا فارس تسحق أعداءك
أنى أقبلت
حين استبقوا نحوك
بإسم بلادك ناديت
((لن يحجبنى عن حبك شئ))
((إنك ملء دماى و عينى))
((يا دار مساليت أنا حيّ))
-6-
و هجمت فأجفل قائدهم
و انشق ستار
كان ستار الرصاص
كان ستارا من نار
نصبوه فى وجهك صفين
كى لا ترى قائدهم بالعين
لكنك يا فارس أقدمت
فوق المدفع بالسيف مشيت
ولحقت بقائدهم فانهار
القائد ذو الجبروت انهار
ذو المركبة النارية و الخوذات انهار
أحنى رأسا ماتت فى عينيه الرغبات
مدَّ يديه يبكى فى حشرجة الأموات
عرَّ صدراً دموياً أعشب فيه العار
هذا الصدر العارى المنهار
من قبل لقائك زانته نياشين الأكبار
لكنك يا فارس آليت
أن لا تهب الكافر صفحك
أن تسقى من دمه رمحك
أن تصلبهم عبر الفلوات
أن تجعل موتاهم مثلاً
لزمان عبر زمانك آت
-7-
تحت الراية غرقت رأس القائد فى الدم
أرخى عينيه فى رعب..
ثم أستسلم
سلمت كفك يا تاج الدين
فأقض على احلام الباقين
صاروا بعد القائد
قطعان غنم
طاردهم بجنودك
عبر الفلوات
عبر ((دروتى)) عبر الآكمات
قتلاك من الاعداء مئات
و الأسرى ملأوا الساحات
و القائد ملقى فى الطرقات
سلمت كفك يا تاج الدين
-8-
لكن الشمس المسجونة
و الريح الحبلى الملعونة
مازالت مثل الطاحونة
تجرى.. تجرى حول خيامك
تجرى من خلفك و امامك
– يا تاج الدين
– يا تاج الدين
مازال عداتك مختبئين
ايديهم راعشة..و رصاص بنادقهم
يتزاحم فى بطء نحو جبينك
يا فارس خذ حذرك
من طعنات طعينك
يا فارس خذ حذرك
يا فارس خذ حذرك
ليتك لا تتحرك
فبنادقهم لا زالت راكضة إثرك
أترى تثقب رأسك
أترى تثقب صدرك
يا فارس خذ حذرك
ليتك لا تتحرك
..و تحرك تاج الدين
كانت عيناه حينئذ
تقفان على جرحاه
و الراية فى عينيه
قد لطخها الدم
و أتت ريح خريف
تتراكض خلف خطاه
و تجهم وجه ((دروتى)) بالسحب و أظلم
و أتت بضع رصاصات
خجلات مضطربات
أقبلن من الظلمات
فرأينا تاج الدين
يبدو و كأنْ قد مات
يا تاج الدين سلمتْ
مزق أستار الصمت
عد من وديان الموت
أو تذهب حتى أنت
و تساقط تاج الدين
لم يقو الفارس أن يرجع
لبكاء الشعب عليه
فرصاصات خمس صدئات
تسكن فى عينيه
لكن أحداً لم ير رايته
تسقط من كفيه
“سياسة الأحلاف القابلة للاحتراق”.
أليست هذه هي الأصل في تفريخ الجنجويد الآن وتأليب القبائل على بعضها، الفرق إن الإنجليز حاولوا استخدامها بشيء من الحكمة والتحكم، لكن جماعتنا تعمدوا أن تكون منفلتة وهمجية حتى تولد الخوف وترهب القبائل غير المرضي عنها أو حتى تجبرها على الهروب من أراضيها وحواكيرها، والبؤس في أننا لا نقرأ التاريخ ولا نعتبر ختى بتاريخنا الخاص كشعب.
شكراً لك استاذ الهاشمي على هذا الجهد الضخم والمتواصل
شكرا لك الأستاذ الدكتور الهاشمي. الغريب في الأمر أن هذه الحدود لم يتم ضبطها حتى يومنا هذا. بعض هذه القبائل قد تسودنت بالكامل. فمثلا القرعان في كل من دارفور وكردفان لا يتحدثون لغتهم الأصلية كأهلهم في التبستي شمال تشاد وجنوب ليبيا بل انقطعت صلتهم بديارهم الأصلية أو كادت.السلامات والزغاوة (البديات خاصة) قبائل مشتركة بين السودان وتشاد ولهما وجود في القطرين. غارات قبائل البقارة الرحل (من تعايشة وغيرهم) على افريقيا الوسطى من أجل صيد الأفيال والحصول على العاج لا تزال مستمرة وقد شاهدت قبل شهرين تقريبا برنامج وثائقي على احدى القنوات الفرنسية تم تصويره قبل عامين تقريبا عن الصيد الجائر لأفيال الغابات الاستوائية (النوع الموجود في مناطق نهر بانغي وهو يختلف حجما وهيئة عن أفيال السافنا الموجودة في جنوب السودان وشرق أفريقيا) وفي هذا البرنامج الوثائقي قتلت قوات حرس الصيد في أفريقيا الوسطى المدعومة من فرنسا حوالى سبعة من الصيادين وقبضت على أربعة أحياء أحدهم جرح جرحا قاتلا وكانوا يتحدثون اللهجة السودانية الخاصة بالرحل في تلك الأصقاع ويلبسون الملابس السودانية واعترفوا بأنهم سودانيين. الوحشية الفرنسية تجاه رعايا فرنسا في المستعمرات الفرنسية في أفريقيا قد وثق لها القساوسة الفرنسيون أنفسهم في غرب أفريقيا ولقد كانت من الوحشية والسادية ما يجعل الاستعمار الانجليزي كنزهة على الشاطئ. هنالك قاسم مشترك بين كل الاستعماريين من أصول لاتينية من حيث الوحشية والقسوة (أشبه بأجدادهم الرومان فيما يبدو) فالاستعمارين الأسباني والبرتغالي في الدنيا الجديدة وأفريقيا والايطالي في أفريقيا والفرنسي في أفريقيا وآسيا وجزر المحيط الهادي كلها مجتمعة ارتكبت فظائع يندي لها جبين الشيطان الرجيم. شكرا لك دكتور الهاشمي فقد ابدعت ,اثريت المكتبة السودانية بنفائس من الدر لغة وترجمة وتجويد صنعة. تبارك الله.
this article is really very good refelecting very important part of the history
يكن العنف موجها فقط ضد الغزاة العابرين للحدود، بل كان موجها أيضا ضد الجماعات (غير المحاربة) التي كانت تعبر الحدود بصورة راتبة. وبذا أصبح الصيد عبر الحدود أمرا محفوفا بالمخاطر. فعلى سبيل المثال هاجمت القوات الفرنسية في عام 1925م مجموعة من الصيادين البقارة الذين عبروا الحدود السودانية إلى بانقي – شار Ubangi-Shar (وهي مستعمرة فرنسية في أفريقيا الوسطى) وقتلت عشرة منهم. ويزعم التعايشة الصيادون أن الجنود الفرنسيين كانوا يصوبون نيران أسلحتهم عليهم قبل السؤال عما إذا كانوا يحملون تصريحا بالصيد أم لا.>. وفي عام 1947م اشتكى التجار السودانيون للحكومة السودانية من سوء معاملة رجال شرطة وجمارك الحدود الفرنسية لهم في أبشي، والذين كانوا يجبرونهم بوسائل تعذيب شنيعة على الاعتراف بتهريب البضائع.
بارك الله فيك يا بروف ومتعك الله بالصحة والغافية
أنا بصراحة بتابع ترجماتك التاريخية بشغف في كلمة واحدة بتوزن الكلام دا ما عارفها شنو
ولذا لم هؤلاء البقارة ضرورة استخراج رخص للصيد والحال كهذه