دبايوا .. صلاح أحمد إبراهيم

«أوشيك» من قبيلة «الهدندوا»
«أوشيك» دون أن يكل يرصد الآفاق
من دغش الصبح الى انحباس الضوء في المساء
مفتشاً عن غيمة فيها سلام الماء
يرفع ساقاً ويحط ساق
كوقفة الكركى في المياه
مرتكز الظهر على عصاه
أهلكت المجاعة الشياه
ولم يَعُد «اوشيك» غير هذه النعال
صداره والثوب والسروال
والسيف والشوتال
وشعره المغوف الوديك والخُلال
وعُلبة التنباك
يراقب الزقوم والصبار والأراك
السلُّ في ضلوعه يفحُّ أفعوان
عيناه جمرتان
«في وحدة الرُّهبان» إلا أنه…
يُحب شرب البُن يمقت «الشفتة» و«الحمران»
دبايوا
يفتل ُ من ساعاته الطّوالْ
حبال صمتٍ تافه…جبال
ويرقب السماء
لو أنها تعصر في لسان أرضه قطرة ماء
لو أنها تبلل الرجاء
أهلكتْ المجاعةُ الشياه
لو يرحم الإله
وزوجتُه ذات الزمام الضخم والملاءة الحمراء
قضى عليها الداء
فزفرت أحشاءها دماء
وفوق صدرها «أوهاج» مثل هرة صغيرة عمياء
يمد في غرغرة الذماء
يدين كالمحارتين للأثداء
***
«أوهاج» لم يعد منذ مضى هناك
هناك في المدينة الباهرة الأضواء
تلك التي تعُجُّ بالشرطة والمقاهي
بالودك الجيد والظلال
(كيف ترى الجنة يا إلهى)
أوهاج قبل أن يُحقق الآمالْ
ويملأ التّكّة من سرواله بالمال
هوت على دماغه رافعةُ الميناء
فأنخبطت جُثتهُ في الأرض تحت أرجل العُمال
وامتزج اليافوخ بالدماء بالودك وبالقمل وبالخُلال
دِماؤُه تجمدت على حديد «البال»
مات لم يستلم الريال
واستأنفت أعمالها رافعة الميناء- ما الحمال؟
دبايوا؟؟
دبايوا
***
ابنته «شريفة»
مذ هربت بعارها من كنف الشريفة
وأخرست جفجة القطار صوت السيد الصغير والخليفة
جاءت إلى المدينة القاسية المخيفة
تقدم التفاح للرجال
لكل من جاء من الرجال
رائعة …رائعة – يقول لى صديق
يا خصرها ، يا عودها الفارع، يا لثغتها الظريفة
يا نهدها استقل، كاد أن يُطل من ثيابها الرّهيفة
وهى تضوع بالشذى، تموع كالقطيفة
تموءُ بالحروف مثل قطة أليفة
«يا سمسم القدارف»
تقدم البيرة واللفائف
والطشت والإبريق
ترفع او تُخفض المذياع
حتى اذا انهكها الامتاع
وأطفات مصباحها بعد انتصاف الليل
مر على خيالها «أوشيك»
وشعره الوديك
كأنه شُجيرة الزقوم
وصوتُ «أونور» اخضرار مضرب الخيام بعد السيل
وهو يمد صوته الجميل:
«أكودناى..أكّودناي…بادميما»
مرت على خيالها «ساكنة الضريح»
فطمسته نقرة لهفانة ببابها الصفيح
وصرخة جنسية تطلقها «ميزانُ» تحت صورة العذراء والمسيح
***
دبايوا…
هُناك في الخرطومْ
هُناك في البعيد من قذارة «الديوم»
هناك في البعيد من تلال بحرنا الأحمر من «سنكات»
ومن «عقيق»، ومن جبال «كسلا» و«اربعات»
ومن مصايد الغُيُومْ
«أوشيك» ليس إلا صورة طريفة تُباع في دكان
وتحت «أوشيك» تلوح كلمتان:
»Fuzzy-Wuzzy
هدندوا«
دبايوا
دبايوا
* قصيدة شاعرنا صلاح احمد ابراهيم- رحمه الله- دبايوا .. حال وقوع عيناي عليها لاول مرة بعمود العزيز الاخ حيدر المكاشفي احسست بيد تعتصر قلبي وبغصة تقف بحلقي لم استطع اثرها اكمالها! لذا ما ان ارغمت نفسي وبروح متوجعة اكملتها حتى وجدتني بخوف مبهم وقلب واجف ارفع راسي للسماء لادعو بجزع وحرارة قائلة:
ـ اسالك اللهم .. اسالك اللهم ان لا تولني امرا من امور خلقك يوما.
وكيف لا ادعو واسال جزعة خالقي تحقيق دعوتي هذه فاذا ما كانت تلك المراة دخلت النار لحبسها هرة لا هي اطعمتها ولا هي تاكل من خشاش الارض تركتها فماذا يا ترى سيكون حالك ايها الراعي المسئول عن رعيتك امام الله خالقك الذي لا محالة يوما سائلك .. حيث انى لك القبيلة والسلطة والمال .. انى!!
رندا عطية
[email][email protected][/email]
شكرا لك شكرا ايتها الرائعة الانسانة رندا..
قرأت هذه القصيدة قبل 40 عاما وانا في الثانوي العام.. وأذكر كيف انهمرت دموعي على الصفحات… وظللت أذكر منها أوهاج لم يعد منذ مضى هناك في المدينة الباهرة الاضواء ودماؤه تجمدت تحت حديد البال.. وربما كانت تلك القصيدة هي مصدر كرهي للمدينة .. أي مدينة.. يعتصرني الألم على مناظر البؤساء .. وكم بكيت وانا انظر الهيم.. واهرب مسرعا الى قرتي حالما قضيت حاجتي..
ومصير شريفة في المدينة .. وقد اصبح هذا الان مصير كل الشريفات وطالبات الجامعات والمهجرات بالحروب والمرغمات بفوهات البنادق في كل الارجاء والمناطق..
ولكن..
اسألي الله أن يوليك وامثالك الأمر ممن يحس ويعايش مأساة اوهاج وابكر ودينق والعوض
حينما ترنم المجذوب علي السجية كان شاعرا :
لو راءني الاعشي لنادمني
هزجا يدق بصنجة الطربٍ
لكن زمنه وواقعه المزري حوله لا الي شاعر وحسب وانما ساحر وحاوٍ يدخل جبالا من البؤس والمعاناة من خرم ابرة ولم تخذله شاعريته الفذة :
لولا الاسي لبدأت بالغزلِ
كالعهد من شعرائنا الاُوَلِ
سقيا لهم زالوا وما برحت
اصداؤهم تنداح في الازلِ
ثم
ابكي ولا ابكي علي الزمنِ
ابكي عذابَ الروحِ في بدني
وانفصم الفذ الاخر ود المكي برهة من واقعه المزري فكانت رائعته (بعض الرحيق) ولكنه سها في بعض ابياتها وانتبه لخرم الابرة فادخل جبلا ارعن جبسا :
من اشتراك اشتري مني ومنك
تواريخ البكاء واجيلب العبودية
من اشتراك اشتري
للجرح اغتية وللالام مرثية
من اشتراك اشتراني يا خلاسية
صلاح كان ذا شاعرية خصبة ولكنها كانت ثمنا غالٍ دفعه عن طيب خاطر للدفاع عن شعبه منافحا ومقاتلا , وحين نبهه صديفه الصدوف علي المك رحمه الله الي ان لشاعريته عليه حقا كتب بقلب طفل قصيدة ولا اروع ولكنها كانت اغنية بجعة بالنسبة له ( يقال ان البجعة تغني اغنية اخيرة قبل موتها) رحمة الله علي هؤلاء الافذاذ واطال اعمار بفية الرائعين مجملي حياتنا . حمي الله السودان كما تعود صلاح ان يذيل مقالاته
لم يمر ولن يمر علي السودان شاعر في صدق صلاح،عنبر جودة كان هناك،،اوشيك،خادم الله صانعة الكسرة في مجموعة قصصه القصيرة والحاجة،كرهته برجوازية الحزب الشيوعي لانه تطاول علي كبارهم لالتصاقهم بالاثرياء دون العمال فقالوا فيه ما قالوا ولكن سيظل شاعر الطبقة العاملة والمسحوقين