الإستشفاء بين القطاعين العام و الخاص

الإستشفاء أو العلاج بشكله الحديث لم يكن معروفاً في السودان قبل الحقبة الإستعمارية الأخيرة(الحكم الثنائي بعد إنتهاء المهدية).وكنا إلي عهد قريب نذهب إلي مشافي تتوفر فيها القليل من المعدات و الأدوية الأساسية .كانت لحكومة الإنجليز سياسات لا بأس بها حيث تُركز علي الوقاية و توفير العلاج للأمراض السائدة مثل الملاريا و الدوسنتاريا.وكانت خدمة مجانية و ظلت كذلك إلي زمن ليس بالبعيد بما في ذلك الدواء.
مر الزمان ومع كثرة السكان و عدم إستقرار الحكم الديموقراطي عقب الإستقلال عجزت الدولة في مواكبة التطور و من الطبيعي أن يتم سد الفراغ من قبل جهة ما- وجاءت المبادرات الأولي في التداوي الخاص ،و لعل أول مستشفي شيدها د.عبد الحميد صالح و أسماها دار الشفاء و ما زالت تُمارس عملها الدؤؤب في علاج المواطنين.
الآن إنتشرت المشافي الخاصة في كافة أنحاء البلاد و لكن أغلبها بالعاصمة ? الخرطوم.
لم أتمكن من زيارة إلا القليل منها: دار الشفاء، الزيتونة،آسيا ،شرق النيل، رويال كير ، إمبيريال- و أخيراًدار العلاج لزيارة مريضة و قد وجدتُ صرحاً جميلاً ، صُمم بدءاً ليكون مستشفي و هو أمرٌ نفتقده في كثير من المشافي التي تمددت بشكل عشوائي- حيث يصعب علي المريض التحرك أو تحريكه من موقع لآخر: من العملية إلي بنك الدم أو المعمل أو الأشعة او لجهاز الدوبلر- و هو عملٌ يحتاج إلي رؤية فيما يُعرف بالمعمار الطبي و هو من أمور ثقافة المؤسسات أو المعرفة و إدارتها في عصرنا هذا والأخيرة أضحت إدارة في كثير من الشركات أو المنظمات في الغرب عجوزه و حديثه !مفاهيم تحتاج إلي رواد في الأعمال لإدخالها و إلي إعلام مُقنع .
مما يُميز دار العلاج حجمها المتوسط و حسن تصميمها لتخدم عملية التشافي و رغم صغر حجمها ذي الأربع طبقات إلا أنها تستفيد من جوز مصاعد: أحدها للعامة و الآخر للمرضي و سلالم مُريحة- لكن تنقصها لافتات مُضيئآت لتسهيل الحركة عند الطوارئ، أمرٌ يسير ، لاحظتُ بعض الهنات الصغيرة و قمت بإبلاغها لإدارة المستشفي ! وقد تقبلتها بنفس سمحة رضية – إعترفت بها و أقرت و وعدت بالإصلاح و الإصلاح .و كما علمت هي مدركة لتلك المسائل و كانت لها توجيهات و لكن طباع البداوة عندنا غلابة ! تدرب و متابعة قد تصلح الأمور و تؤدي إلي التجويد المنشود.
وهنا يأتي دور الإعلام في نقل المعرفة و التجارب بين مكونات الدولة الحديثة: السلطة الحاكمة، السلطة الإدارية (الخدمة المدنية)، التشريع و أُس الحكم متمثلاً في السلطة القضائية و العدلية و العالم الخارجي ? شرقه و غربه .
التداوي في كثير من الدول من واجب الدولة لخطورته ، خاصة ما يتعلق بالأمراض النفسية و العصبية .
أدخلت الدول خدمة التأمين الصحي للمساعدة في هذه العملية من قبل الدولة أو الشركات و بما أن طبيعة هذه الخدمة تعتمد علي حجم المظلة أو أعداد المؤمنين ، قد يكون من الأجدي أن تقوم به الدولة و أن تشرف عليه حتي تدار موارده ليخدم كافة قطاعات الصحة و كل العاملين ?خاص و عام.
لذلك يلزمنا إعادة النظر في خدمة التأمين الصحي و توسيع مظلته و جعله مرناً ليلج المرضي كافة المشافي ? خاصها و عامها و توحيده ليصبح جسماً واحداً و ليستثمر أمواله أو بعضاً منها لتعود علي المرضي ? علاجة و عافيةً.و تسهيلاً للناس و لإدارة التأمين الصحي.مع ضرورة التخلي عن إدارة المستشفيات أو المراكز الصحية ? ليصبح القطاع الصحي كله في خدمة المواطنين و بذلك نحقق شيئاً من العدالة المفقودة.قد يجدي هنا إستحداث نظام جديد لتوفير تغطيات مختلفات و فقاً للطلب كأن يغطي التأمين 100% إلي 80% و إلي 40% من تكاليف العلاج .بدلاً من التمايز الحالي! وبذلك يتمكن القطاع الخاص من إستغلال إمكانياته في خدمة المواطن ! و بشكل إقتصادي و هو أمر يصب في إقتصاديات الصحة إن أردنا ترسيخها و نشرها!
و في ذات التوجه أدعو لإستخدام خدمات الطوارئ بالمستشفيات الخاصة لإدراكنا لسياسة الدولة في توفير هذه الخدمة مجاناً خلال ال 24ساعة الأولي ، علي أن تجري عملية تسوية شهرية للحسابات. وبذلك نطمئن إلي إلتزام الدولة فعلاً بل السعي إلي زيادة المدة لتصبح 48 ساعة! و بذلك نخفف الآلام و نسهل إنتقال المواطنين، بل ننقذ حيوات كثيرات ! و لمزيداً من التوضيح مع إلتزام الدولة بالعلاج المجاني للطوارئ يمكن للمواطن أن يذهب إلي أقرب مستشفي خاص أو حكومي تتوفر به خدمة الطوارئ ?علي أن ترسل إدارات تلك المستشفيات تكاليف العلاج لوزارة الصحة أو المالية لإسترداد أية مبالغ و بذلك تكون الدولة قد وسعت من خدمة الطوارئ بأقل تكلفة و هو وضع رابح للجميع .و من صميم إقتصاديات الصحة .نأمل في حكمة وزير الصحة أبو قردة و في تفهم وزير المالية.
المطلوب منح المواطنين مزيداً من الثقة في أمانتهم و كذلك المستشفيات الخاصة و أداراتها من الأطباء و غيرهم و هم جديرون بالثقة و لنا في الراعي الطيب عبرة ! علي الجميع حسن التصرف في المال الخاص و العام و كما رأينا لا فرق بينهما في المجتمعات الراقية و كان لأميركا درس للشعوب كافة ? حيث أقدمت علي إنقاذ الشركات الخاصة عند إفلاسها و و شوك بعضها علي الإفلاس و ذهب الكيد ببعضهم أن نعت أوباما بالشيوعي- كانت عملية أقرب للتأميم و لكنه تأميم مؤقت لمصلحة الجميع .المال كله للجميع و هو غادٍ و رائح .
الناس جميعهم يرغبون في خدمات جيدة لذلك قد يكون من العدل و الإنصاف عدم النظر إلي المشافي الخاصة كإستثمار مجزي- فهي جد مكلفة و يمكن للدولة المساعدة في تحديد تكلفة العلاج من مستشفي لآخر بواسطة المراجع العام و إدارة الإحصاء و من ثم دفع الفرق في قيمة العلاج لهذه المشافي كأحد أزرع الدولة في سياسات توطين العلاج بالداخل و تحقيق التميز في الخدمات الصحية بالفعل لا القول أو الشعارات!
كذلك يمكن للدولة سد العجز في التدريب ? لتدريب الممرضين ، عمال النظافة و الأطباء و في أساليب الإدارة الحديثة و في تشغيل الأجهزة و صيانتها و في إقتصاديات الصحة و في العمارة الطبية و كل جوانب المعرفة الضرورية.
يمكن للدولة و لمزيداً من التشجيع زيادة مساحات المستشفيات الخاصة لمقابلة التوسع المستقبلي و لإعداد الحدائق و أماكن للمرافقين ? ثقافة التكافل و التراحم ? إن منظر المرافقين و هم يتشتتون في الشوارع القريبة من تلك المشافي مما يحزن و يهم ! فلينظر وزير الإسكان و ليصادر الأراضي المجاورة و ليعوض في مواقع أُخري و هنا سنشهد علي عمل للمصلحة العامة !و ما أكثر الأراضي في بلادنا ! حلايب لو تعلمون أكبر من دولة قطر و من البحرين ! إمنحوا الأراضي للجادين و أنزعوها من المحتكرين !
السودان يمكنه أن يجذب سياحة ً علاجية إلي مشافيه العامة و الخاصة و يمكنه أن يصنع نموذجاً لا مثيل له ! مثلاً مستشفي البرعي الدولي بالزريبة إن قام يمكن أن يدمج الطب البديل مع الطب الحديث و التداوي بالقرآن ليصبح قبلةً لغرب إفريقيا! مع السعي لخلق صلات مع مؤسسات العلاج بنيجيريا وجنوب إفريقيا. هل يصدقن أحد إن قلت بأن بعض المرضي ، بل الكثير من المرضي يذهبون للعلاج في الهند و جنوب إفريقيا لتلقي بعض أنواع العلاج و الذي يحتاج لفترة إنتظار طويل قد تبلغ العامين في بريطانيامثلاً !
من الأفكار التي يمكن العمل بها، إستقدام إدارات كاملة لبعض المشافي ? تجربة لنقل المعرفة و التدريب. هل تعلم قارئ الكريم بأن الخطوط الجوية الإثيوبية تديرها شركة أمريكية؟ و هي ال تي دبليو أي TWA و رغم ذلك لم تمس روح إثيوبيا الجميلة و نكهتها.
لعل في تجربة المشافي التي بنتها الصين في القطاعين عبرة لنعمل علي إستخلاص دروسها ، تعزيزاً لإيجابياتها و تقليلاً لسلبياتها.
تم بناء مستشفيات ضخمة في أماكن لا حاجة لها في مثلها ، أحدها بمروي و الآخر قريباً من الهوبجي غربي النيل حولوها لأغراض أخري و وزعوا أجهزتها علي كافة المشافي ? خاصها و عامها ? هكذا تعمل الدول المتحضرة !
علي الحكومة أن تترك مأثرة واحدة تُعد في حسناتها إن كانت ثمةحسنات و ما أردتُ إلا الإصلاح.
وهنا علينا الإشادة بإعادة النظر في تكريم بروفسير جعفر إبن عوف- الطبيب الرقيق و الراقي- تلك مأثرة لا شك فيها ? جاءت بعد عثرات .
و أختم ،تُري هل ما زالت إدارات الإعلام تجمع القصاصات أم تراها تنظر في الأسافير؟ قصاصات رقمية من هنا و هناك قد تساعد في إصلاح خدمات الصحة.
مع قليل من العصف الذهني سيفضي لإنتاج أفكار قد تساعد في تجويد الآداء ، بديلاً للإجتماعات التقليدية- أعصفوا العقول و لا تعصفوا بها!
علي الدولة و تمثلها حكومة الأمر الواقع أن تجلس مع أصحاب هذه المشافي الخاصة و العامة لا تغفلها .جل هؤلاء من الأطباء و قدشاهدتُ في دار العلاج أحدهم وقد ناهز السبعين و هو يتجلي حكمة و قوة و هو يعمل بعد الخامسة مساء ! هل يريد ربحاً ؟ أشك في ذلك ! حبٌ للعمل و تواضع عظيم ! كان في وسعه و هو في هذه السن أن يذهب لشواطئ بعيدة يركب الأمواج أو يجلس مسترخياً ينظر لآفاق عريضة و يستمتع بالحياة الرغيدة التي يوفرها له راتب التقاعد المجز أومدخراته .و لكنه جاء ليخدم هنا و يصرف مدخراته و قد تضيع كلها ، بل أوشك أحدهم أن يبيع عربته للبنك ! و لكنه صمد و صبر .هؤلاء عبادٌ حببهم الله في الخير و حبب إليهم الناس و سخرهم لقضاء حوائجهم .
كان حري بالدولة القيام بهذا الواجب ! و لكنه قصور الهمة و قصور النظر .
يقول أحد رؤساء و لايات أميركا المتحدات ” من يريد أن يخدم نفسه فلا يقدمن علي العمل في السياسة” و يضيف ناقلاً عن غيره ” السياسة هي أفكار” أفكار لخدمة الناس .
دعوة لتحديد يوم 2 يناير من عام يوماً للعطاء و الإنفاق ? ليُقدم الجميع أطفالاً، شباباً ،نساءً و رجالاً علي تبادل الهدايا . إن العطاء يُدخل السعادة في القلوب و يُغزي الروح و يطيل العمر.هدية بسيطة: قلم، كراس ، ، كتاب ، مجلة أو حتي رصيد ? لنبدأ في يناير القادم و لنتذكر العطاء و الإنفاق.يوماً و ليس إجازةً.
[email][email protected][/email]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..