المفكر السياسي المتقدم الخاتم عدلان نموذجا ..

قليلون هم من يجيدون القفز في الافكار للوصول لنتائج ايجابية تسهم في قراءة الواقع وتحليله والتنبوء بالمستقبل واستشرافه مع تقديم الحلول للمشكلات التي تعترض طريق البحث في القضايا الفكريةوالسياسية والاجتماعية والاقتصادية خاصة لواقع معقد كحالة السودان هذا البلد المترامي الاطراف والمتعدد الثقافات والاثنيات والاديان واللهجات واللغات والمأزوم منذ سنوات طويلة ويرزح في دائرة الحرب والتخلف الاقتصادي ويعاني من ازمة عميقة في الحكم وتوزيع السلطة والثروة ويحيط به الفقر والمرض وحالات النزوح المستمر ونزاع المركز والهامش .. ولعل واحدة من عميق ازماته والتي اسهمت في تخلف هذا البلد ووقوعه فريسة للديكتاتوريات العسكرية والحكومات الشمولية والاصولية الاحادية هي تخلف البنية والتركيبة السياسية للاحزاب والحركات افكارا وممارسة وتنظيما! , ولا ادلّ علي ذلك ان المبرر الاساسي لقيام كل الانقلابات العسكرية تقريبا في السودان والبند الاول في اي بيان عسكري تتم اذاعته واعلانه للمواطنين هو فشل الاحزاب في ادارة الحكم في البلاد والوصول بها الي ما يتمناه المواطن ويرجوه من العيش الكريم والامن! , ولعل الفشل الذي لازم التجارب الديمقراطية للحكم في السودان علي قلتها طوال تاريخه يعود بنسبة كبيرة للتخلف والجمود الذي يلف مجمل التنظيمات السياسية في السودان وافتقادها هي نفسها للديمقراطية داخلها لذلك عجزت عن تقديمها او تطويرها بما يسهم لحل مشكلات الحكم في السودان وادارته وفقا لدستور ديمقراطي مستدام يعمل علي انتقال الحكم بشكل سلمي وديمقراطي دونما تدخل للعسكر واصحاب الاجندة الاصولية والاحادية للاستيلاء علي السلطة كلما مرة ويصبح دور الاحزاب بدلا من الحكم وممارسة الديمقراطية وتطويرها كنظام للحكم في السودان يصبح دورها محصورا في كيفية استعادة السلطة والمعارضة لاسقاط الحكومات الشمولية والديكتاتورية في اعادة كلما مرة لانتاج الازمة وفي الجانب الاخر تعمل الانظمة العسكرية علي تكسير الاحزاب وزيادة تخلفها الذي هو في الاصل موجود من الاساس! , واذا اخذنا تجربة اليسار السوداني في الممارسة السياسية نجد ان راس الرمح فيه يتمثل في الحزب الشيوعي السوداني والذي ظل لسنوات طويلة الاكثر تنظيما والاوفر قدرة علي احداث التغيير الايجابي لانه كان يمثل جانب الاستنارة الوحيد وسط احزاب اخري ورغم شعبيتها الا انها لاتخرج عن الطائفية والاقطاعية والعشايرية اوتلبس عباءة الدين للوصول لاهدافها السياسية دونما رؤية او برامج حقيقية للتغيير الاجتماعي يلعب فيه الرجال والنساء ذات الدور مع وضع خاص لقضايا المراة والشباب والعمال والطلبة والمثقفين , ولعل ما ساهم في ان يلعب الحزب الشيوعي السوداني في زمان سابق هذا الدور هو تميز كادره بالاضافة لاستناده علي منظومة الاحزاب الاشتراكية العالمية في وقت ان كان للمعسكر والفكر الاشتراكي دوره وسطوته وصولجانه وتوهجه العالمي في ستينات وسبعينات القرن الماضي! , وكان ذلك برغمي عدم الشعبية الكبيرة التي يجدها الحزب الشيوعي داخل السودان كغيره من بقية الاحزاب ولعل كان لذلك اسبابه اهمها الحاجز النفسي بينه ومابين السودانين وقضية الدين وموقف الماركسية من الدين والدعاية المضادة التي كان يقوم بها خصومه اليمينيون من التيار الاسلامي السياسي وتدعمها سياسة المعسكر الراسمالي الغربي في ذلك الزمان! , ومع ذلك ظل تأثيره قويا في مجمل المشهد السياسي والاجتماعي والوطني في السودان! , ولاكن متغيرات كثيرة حدثت بعد ذلك لهذا الحزب وكل المنظومة الاشتراكية وبدأت مرحلة الاضمحلال داخليا وخارجيا التي ادت لتراجع الحزب وتأثيره وفقدانه لبريقه السياسي وتميزه الفكري والتنظيمي! , ولعل داخليا بدأ ذلك منذ المغامرة التي قام بها الحزب نفسه في انقلاب يوليو 1971 كعملية اشبه بالانتحار السياسي والتي افقدته كوادر بقامة عبد الخالق والشفيع وجوزيف قرنق وهاشم العطا و غيرهم وكان قبلها الانقسام الشهير وخروج مجموعة اخري وقفت مع مايو ايضا بها عناصر قيادية وكادر متميز وتوالت الضربات بعد ذلك علي جسد الحزب اعتقالا وتشريدا اثناء الحقبة المايوية وانكفأ الحزب علي نفسه منذ ذلك الزمان تقريبا وغرق في دوامة العمل السري الشاق وادي ذلك الانكفاء للمزيد من العزلة الداخلية وتراجع التطور الفكري والتنظيمي والذي كان لغياب عبدالخالق الدور الكبير فيه لانه كان الاكثر اسهاما في هذا الجانب! , واصبح هم الحزب الاكبر هو البناء مجددا والبقاء! , استمر هذا حتي انتهاء عهد مايو ولم ينعم الحزب بالكثير من الوقت حتي انقض الاسلاميون الاصوليون الدّ خصومهم علي الحكم بانقلابهم العسكري وتزامن هذا مع الانهيار لكامل المنظومة الاشتراكية العظمي بطريقة اغرب لذوبان قطعة بسكوت في كوب دافئ من الشاي اوالكابتشينو!, ولعل ذلك ما شكل هزة عنيفة للحزب لم يستطيع الفكاك منها حتي اليوم! , فكل بنائه وبرنامجه الذي كان يقوم علي النظرية الماركسية ومدلولاتها واصبح علي المحك لفشل النظرية نفسها في التوقع والتنبوء بماءلات المستقبل ولتقديمها نتائج خاطئة وتصورات لا تلامس الواقع! .. في ظل كل هذا الخضم كان لابدّ من اعادة لدراسة الواقع الجديد واعادة صياغة حزب اصبح وجوده في مهب الريح بناءا ومصداقية وطريقا للتغيير والتطور! , فانت لايمكن ان تقدم للناس ماثبت خطأه وانت لايمكن ان تواصل في ترديد مقولات اكل عليها الدهر وشرب وانت لايمكن ان تصر علي انك في طريق التطور وانت قد فارقت محطته بسنوات وتعيش علي ما انتجه الماضي! استشعر الحزب خطر ماهو به لان الذي حدث اشبه بالزلزال العظيم! وهو الاان لايصارع سلطة تستهدفه فقط ولاكنه يصارع نفسه لتغيير ثوبه الذي اصبح ممزقا باليا واكثر قصرا وضيقا عليه! واصبح الحديث عن حتمية التغيير والتجديد الداخلي ليس مجرد صراعا فكريا يديره بعض الاعضاء والفروع وبعض مثقفي الحزب كما كان يحدث في السابق ولاكنه من المفترض ان يكون برنامج لتلك المرحلة وتديره القيادة ويعمم علي كل الاعضاء والفروع فكان ان دعت القيادة ولجنته المركزية للمناقشة العامة واقرتها للحزب قي 1991 لكل الهئيات والفروع والاعضاء ان يشاركوا فيها وفتحت صحافته الداخلية لذلك الامر! , وقدم العديدون اسهاماتهم في ذلك الشأن إلا ان لعل اكثر المساهمات وجدت جدلا كثيفا داخل الحزب وكان لها ما بعدها هو ما قدمه الراحل الاستاذ الخاتم عدلان والذي قدم انتاجا فكريا ورؤية متميزة ومتقدمة جدا تعكس الواقع الحقيقي للحزب والمرحلة التي وصلها من الجمود وحتمية التغيير وكان ان جعل لها عنوانا كثيفا معبرا عن ذلك وهو اان اوان التغيير وهي المساهمة الاشهر في ظني والاعمق منذ وثيقتي الماركسية وقضايا الثورة السودانية ووثيقة اصلاح الخطأ اللتان قدمهما الراحل الاستاذ عبد الخالق محجوب ولعل هنالك تشابه في ان كليهما يعتبران من مفكري الحزب والسودان القلائل جدا! تجمع بينهما العبقرية والرؤية والقدرة علي التحليل والقفز فوق الافكار وتقديم الحلول للمشكلات والمقدرة علي التنبؤ , كان نقد الخاتم للحزب مبني علي قراءاته العميقة للواقع الداخلي والخارجي وكان من اكثر من استفاد من تجربته ومجمل تجربة الحزب في محاولة للامساك بالمعوقات داخل الحزب والتي جعلت منه بدلا ان يكون قوة حقيقية وكبري ان يتحول لحزب يحاول البقاء فقط! , وكان نقده العظيم في ظني للمركزية الديمقراطية هو فتح لطريق يجب كان للحزب ان يسلكه للتخللص من الجمود الداخلي والانكفاءة والعزلة, بالاضافة لنقده المباشر لنظرية الحزب الماركسية والتي كانت تمثل عظم البناء الحزبي وكل خلاياه! وانها فشلت في تقديم الطبقة العاملة كمعول وحيد للتغيير يجب ان يسود في الاخير وتكون له الغلبة علي بقية الطبقات وهذا ضد الواقع وحري بالقول انه في ذلك تساوي مع اخرين قدموا ذات النقد للماركسية, وكذلك انتقد سياسة القيادة لتي نتجت عن المركزية واختزال الحزب في اشخاص وغياب الديمقراطية وخروج وهروب الكوادر المتميزة عن صفوف الحزب نتيجة للسلوك القيادي هذا واقترح ان يكون المؤتمر الخامس هو اعلان لحزب جديد لا يسترشد بالماركسية ولا المركزية الديمقراطية وتغيير اسمه وضم العناصر والقوي الديمقراطية التي كانت الماركسية والمركزية حاجزا لدخولها للحزب! وقدم جهدا متميزا جدا وفكرا حرا لاشاعة الديمقراطية الحقيقية داخل الحزب بدلا عن الذي كان يحدث باسم الديمقراطية! , ولعل المحاربة التي تمت له نتيجة لهذا النقد والسلوك من العناصر المتحجرة والجامدة دفعه للخروج والاستقالة عن الحزب في موقف ينسجم مع تفكيره ومحاولته لتحقيق حلمه في مشروع حزب ديمقراطي حقيقي في 1994 وكون حركة القوي الجديدة للديمقراطية حق مع اخرين في الخارج وانضم له من الداخل , وبغض النظر مماحاق تجربة حق مابعد الخاتم الا انه يعتبر حفر عميق في طريق كان هو يؤمن به يفتح افاق ونوافذ جديدة بدلا عن تحنيط فكره ونفسه في حزب انتهت صلاحيته التاريخية ولايمكن ان يقدم تغيرا حقيقيا واقعيا بما كان عليه! , وبالاضافة لهذه المساهمة كانت للخاتم عدلان الكثير من الاراء والافكار الشجاعة والبناءة مثل موقفه من طريقة اسقاط النظام وانها يجب ان تكون بالانتفاضة المحمية بالسلاح وقد عارضه الكثيرون ولاكنه وضح انه السبيل الوحيد لاسقاط نظام يتمترس بالقوة والبطش ضد كل من يعارضه! , كذلك كانت له رؤيته الوحدوية وايمانه بالدولة المدنية العلمانية وقد قدم في ذلك الكثير من الاراء لسودان المستقبل في نظره وفقا لخصوصية تركيبة السودان وتعدده الثقافي والاثني والديني! .. يعتبر الخاتم عدلان نموذجا حقيقيا ومشرفا للمفكر السياسي المتقدم والايجابي والبناء! , عاش كل حياته القصيرة نسبيا لقضايا البلد متخفيا ومعتقلا ومناضلا جسورا, بذل حياته حتي مماته لخدمة مشروع البناء والتغيير والعدالة الاجتماعية والديمقراطية وحارب وصارع من اجل كل هذا لاخر لحظة في حياته صارع الاعداء والاصدقاء القدامي والرفاق والمرض اللعين! وكما قال عبدالخالق انه قدم الوعي بقدر ما استطاع للشعب السوداني فإن الخاتم عدلان قال في ااخر ايامه وهو يصارع سرطان البنكرياس انه عاش كل عمره يحارب الخرافة ويقدم الاستنارةواذا تبقت له دقيقتان فقط من عمره لن يتواني في تقديم الاستنارة فيهما وقد صدق الرجلان!..
[email][email protected][/email]
لكن ما أعرفه أن الخاتم عدلان قد انسلخ عن الحزب الشيوعى و فند أفكاره بعد أن اتضح له خواء أفكار هذا الحزب، فهل أنا غلطان؟ و أذكر انه قد دخل فى مناظرة على قناة الجزيرة مع أحدى زعيمات الأحزاب الشيوعية من احدى الدول العربية لا أذكرها على وجه التحديد و كانت المناظرة عن الشيوعية كفكر و تطبيق، و قد هزمها الخاتم عدلان شر هزيمة فى تلك المناظرة القوية لأنه كان عالماً بنظريات و أفكار الحزب مما مكنه من دحض جميع ما طرحته تلك المناظرة له من أفكار.
اقتباس” النظرية نفسها في التوقع والتنبوء بماءلات المستقبل ولتقديمها نتائج خاطئة وتصورات لا تلامس الواقع! “. لم تقدم النظرية اجابات خاطئة ، من قدم الاجابات مجتهدين معرضين للخطأ و الصواب . وليس هنالك نظرية تموت بهذا المعنى ، النظرية تتطور بالجهد المبزول من المهتمين بها و تساهم مع مجموع الفلسفات و الاديان و الاساطير في تصور حياة تليق بالبشر كل البشر. وتهدي متضامنة مع مجموع مصادر الخير و العدل و الجمال، لمسالك تقود للنعيم الارضي.