لجنة 14+صفر

عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كيف بكم وزمان أوشك أن يأتي، يغربل الناس فيه غربلة لتبقى حثالة من الناس قد مرجت عهودهم وأماناتهم، واختلفوا فكانوا هكذا “وشبك بين أصابعه” فقالوا كيف بنا يا رسول الله قال تأخذون ما تعرفون وتذرون ما تنكرون وتقبلون على أمر خاصتكم وتذرون أمر عامتكم.. رواه أحمد وأبو داود والنسائي.
خطر في بالي هذا الحديث الشريف وأنا أتابع اجتماع الجمعية العمومية للحوار الوطني الذي انعقد مساء أمس بقاعة الصداقة، فحقيقة هالني فيض من العجب بل والحيرة في أمر هذا المسمي “الحوار الوطني” حيث أنه لا هو بـ حوار ولا هو بـ وطني. فكثيرون ذهبوا الى أنه لا يعدو كونه سياسة يتبعها المؤتمر الوطني من أجل مضيعة الوقت حتي تأتي الانتخابات بغتة وهم “الأحزاب” لا يشعرون، وآخرون يرون أنه وسيلة للبحث عن صبغة تضفي شي من الشرعية لتمديد أجل النظام الحالي بعد فشله في ادارة البلاد في الفترة الأخيرة.
أما رؤيتي الخاصة جداً هي لا هذا ولا ذاك، لان المؤتمر الوطني الأن أضعف بكثير من أن يخطط أو يضع سياسات بعد أن أُبعدت كل القيادات صاحبت الفكر والرأي وأصبح يدار بثلة من صغار الموظفين ومعاشيي القوات النظامية. لكن الأمر باختصار يتمثل في أن هنالك تفاهم جديد أفضي الى تقارب بين القصر والمنشية، برزت انعكاساته في إبعاد أبرز قيادات الحزب الحاكم القدامي، والظهور المفاجئ للشيخ الترابي في الساحة منذ اجتماع “الوثبة” الشهر وحتي يوم أمس، كل ذلك يقرأ مقروناً بضعف وهشاشة وهذال الأحزاب السياسية في الساحة، وما زالت الأيام حبلي بالكثير المثير الذي سوف تكشف عنه مقبل الأيام.
ومن خلال متابعتي للجزء الأخير من اجتماع الحوار الوطني أمس توصلت الى ثلاث نتائج هي: أولاً: لا المؤتمر الوطني ولا المجتمعون يعرفون ماذا هم يفعلون الآن ولا الى أين هم ذاهبون. ثانياً: اذا لم تفلح الحكومة في استقطاب الحركات المسلحة وبقية الأحزاب والشخصيات المعارضة “الحقيقية” يصبح كل ما يجري هذا مجرد لعب عيال واهدار للوقت والمال. ثالثاً: الانتخابات مؤجلة لا محالة. وفيما يلي نناقش هذه النتائج باختصار:-
أولاً: كيف أن الجميع لا يعرفون ماذا يجري؟ أقول: بدأ هذا الحراك بلقاء سموه اجتماع المائدة المستديرة، ومن المعلوم بروتوكولياً أن لقاءات المائدة المستديرة دولياً أو وطنياً تعني أن يجلس المؤتمرون في حلقة واحدة يتساوي فيها الجميع وليس هنالك أى مظهر يدل على أن هذا رئيس وهذا مرؤوس حتي يرفع الحرج وتسود الآراء بكل حرية وشفافية. لكن ما حدث في هذه الاجتماعات تحول الى ما يشبه اجتماع الحزب الحاكم لعضويته حيث ترأس البشر كل الاجتماعات وسيطر على توزيع الفرص والتعليقات على كل مداخلة، بل حتي المجتمعون أكثرهم بدأ أكثر كرماً عندما طفق يهم بتفويض الرئيس باتخاذ ما يراه… أجل لماذا انتم هنا؟؟؟ حدث هذا في الاجتماع الأول عندما اقترح أحد الأعضاء أن يختار الرئيس شخصيات 7+7 . أما في اجتماع الأمس فكان العجب العجاب!! كل وصلات مكبرات الصوت موضوعة أمام الرئيس وبدأ الحضور كأنهم تلاميذ أمام مدرسهم، لا تعقيبات، لا ملاحظات، لا تحفظات، وهنا يلح التساؤل المحوري: اذا انتم تمثلون الشعب السوداني حقيقة، ومتفقون الى هذا المستوي، اذن علام الحوار؟؟ وفيم اهدار وقت ومال الشعب؟؟ والطريف في الأمر أن أهم ثلاث مواضيع شغلت الساحة السياسية في اليومين السابقين وكان ينبغي أن تسود هذا الاجتماع وهي: مسألة تعيين الولاة، وتأجيل الانتخابات، وميثاق باريس. وردت هذه الموضوعات الهامة في الاجتماع على هامش ثلاث مداخلات هزيلة جداً وحسمها السيد الرئيس في الحال بدون أخذ رأي المجتمعين وهذا يقودنا الى سرد مشاهدات كوميدية من الاجتماع:-
بعد أن قدمت التقارير الثلاثة ومن ضمنها خارطة الطريق للحوار، ونص الاتفاق الذي وقعة مبعوثو آلية الحوار مع الحركات المسلحة في أديس أبابا، فتح الرئيس البشير رئيس الاجتماع باب النقاش لاجازة التقارير أو رفضها، وحقيقة اجتهد الرجل ايما اجتهاد في أن يجد شخص يعترض على فقرة أو نص أو أي شئ يشير على أن هذا الذي يدور هو “حوار”، لكن لم يجد الا رجل ستيني قام يلوح بورقتين كان يحملهما في يديه ويهمهم بكلمات سمعت منهن عبارة “نؤيد التقارير” و “ندعو جميع الأحزاب” ذكرني بالطرفة “فلان يرثي ابنه وهنالك تمر للبيع”. ومن المواقف الطريفة: بعد حديث الرئيس عن الضمانات الممنوحة للحركات المسلحة الآتية للحوار قال الرئيس في معرض حديثة “إن الشعب السوداني هو الذي يعطي هذه الضمانات” كعبارة سياسية تقال عادة في مثل هذه المواقف. لكن أحد “الزعماء” قام مقترحاً أن يمنح هذه الضمانات فخامة الرئيس..موضع الطرفة هنا أن هذا الرجل فقط يسعي لكي يقول شيئاً يظهر به أمام الرئيس ليس الا، أو انه لا يعرف ماذا يقول. أم انه كان يظن أن الشعب السوداني ال 32 مليون شخص سوف يأتون ليمنحوا هذه الضمانات؟؟
بالنسبة لمسألة تعيين الولاة قام شخص “وبالمناسبة كلمة شخص هذه ليست من باب التقليل من شأن أحد لا سمح الله، لكن حقيقة معظم المجتمعون لا يعرف عنهم الشعب السوداني شي، بل هم من صنع الـ بضع وثمانون حزب المسجلة عبثاً في السودان” ذاك الشخص بدأ غاضب وثائر في بداية حديثه عن تعيين الولاة الذي سوف يتجه اليه الحزب الحاكم، وقال انها رجعة للديكتاتورية الى هنا قلنا “حسناً” هو رأي مقبول. لكن الرجل اتضح ان برفقته امرأة كان يريد تسويقها لدي الرئيس اذ قال: “ان حزبنا يقدم للسودان هدية وهي السيدة فلانة سوف نقدمها مرشحاً لولاية الخرطوم…”
أما بالنسبة لتأجيل الانتخابات فقد قال الاستاذ الطيب مصطفي وهو “حسب رائي” هو السياسي الوحيد في هذا الاجتماع الذي يحمل فكراً ورأياً ومبدأ سواء اتفق معه الناس أو اختلفوا، قال بانه يجب ايقاق الاجراءات التي تسير الآن بخصوص الانتخابات حتي ينتهي الحوار الى قرارات بشأنها، فكان الرد الحاسم من الرئيس بأنه لا يجوز هذا، لان الحوار لم يُعرف الى ماذا سيفضي، لكن اذا توصل الحوار الى تأجيلها فلا مانع، لتستمر بذلك الحلقة المفرغة الفارغة وهي: المعارضة تقول يجب أن تؤجل الاتخابات حتي ينتهي الحوار، والرئيس يقول يجب أن يستمر الحوار حتي ينتهي الى تأجيل الانتخابات..
أما بخصوص ميثاق باريس فلم يجرؤ أحد للحديث عنه الا شخص واحد ويبدو أنه من الأكاديميين المثقفين حسب تقديري حيث قال ” يجب أن نتعامل مع ميثاق باريس بصورة أفضل في اشارة له بضرورة تأييد الميثاق لكن بالطبع عجز عن قولها صراحة. فكان الرد القاطع من الرئيس كاشفاً أن الميثاق يسعي الى اسقاط النظام بالقوة واتخاذ الفاشر عاصمة مؤقتة وتقديم السيد الصادق رئيساً باعتباره شخصية قومية، وبدأ سيادته مستنكراً هذا الأمر ورافضه رفضاً تاماً، في حين انه كان من الأفضل أن يأخذ رأي المجتمعين علماً بانهم سوف يوافقونه الرأي لكن من باب “المجاملة” و”حفظ ماء الوجه”. والحقيقة لله أن هذا كله ليس فيه جديد مع أن الرئيس قال للمجتمعين “نحن الحكومة وعندنا المعلومات” ما يمكن أن يفهم بأننا نعرف وانتم لا تعرفون شيئاً. لكن ليس هذه بمعلومات تُخفي على أحد، وهل المتمردون تمردوا اعجاباً منهم بركوب الصحراء ومواجهة نيران الحرب؟ بالطبع انهم يريدون اسقاط النظام ومسألة تحديد العاصمة المؤقتة وهذه الامور كلها تكتيكات تضعها حتي الاحزاب السياسية، والحقيقة أيضا انه ليس هنالك الان رجل في السودان مؤهل لرفض وادانة الاستيلا على السلطة بالقوة لان جميع من هم في الساحة فيهم من سن سنة الاستيلا على السلطة بالقوة وبيعها “حزب الامة” وفيهم استولي على السلطة بالقوة ” المؤتمر الوطني” والبقية اما ساندوا أو ايدوا مغتصبو السلطة “الحزب الاتحادي وغيره”.
النتيجة الثانية هي ما لم تستقطب الحكومة الحركات المتمردة والقوي السياسية الحقيقية لن يفض الحراك الحالي الي شي سوي تجديد الازمات وتعقيدها ومزيدا من السقوط. فالذي هو بائن بيان الشمس في وضح النهار هو أن هذه المسمي “أحزاباً مشاركة في الحوار” هي في الحقيقة لا أحزاب ولا مشاركة في الحوار، فهي مجرد ظل للمؤتمر الوطني لذلك رأينا أن تكون لجنة الحوار 14+صفر باعتبار أن أحزاب الحكومة 14 والمعارضة “لا شي” بدلاً عن 7+7 المزعومة. لأن الحزب السياسي وكما درسنا اياه برفيسور البوني في “أولي جامعة” هو منظومة تضم محموعة من الأفراد لهم ايدلوجيا “فكر” يسعون الى تطبيقه في المجتمع بعد توليهم السلطة. فهذه الأحزاب جميعها أحزاب فردية أسسها شخص واحد وفي الغالب بهدف الحصول على منصب يقتات منه هو ومن حوله الذين غالباً ما يكونوا ثلاثة الى عشرة أشخاص في معظم الأحيان. وبالتالي فهي لا تقوي على معارضة الحزب الحاكم “ولي نعمتها” وأنا رأيت بنفسي كيف تتم مشاركة هذه الاحزاب في السلطة، حيث مجرد لقاء في المركز العام للوطني يخرج بعده افراد هذا الحزب الصوري وزراء ولائيين أو معتمدين أو مستشارين أو عندما نفدت المناصب وأصبحت ترهق كاهل الدولة أصبحوا يألفوا مناصب جديدة من شاكلة “خبير وطني” مستشار والي” الخ.. لذا فهذه التكتلات ليست لها قواعد جماهيرية ولا علاقات دولية ولا رؤي مقبولة اذن كيف ستحل أزمة البلاد..لكن اذا حدث حوار حقيقي بالتالي سوف تخرج عنه مخرجات مقبولة وسوف تقبلة الحركات المسلحة وقبلها سوف يدعمه المجتمع الدولي “وهنا لا بد من الاشارة الى أن مسالة تدويل الحوار الذي ترفضه الحكومة علناً وتضطر الى اللجؤ اليه في الخفاء وعلى استحياء هو أمر حتمي في زماننا هذا حيث لا انفصام بين الدولي والوطني في الواقع، وخصوصاً لدولة مثل السودان الذي يلجأ الى دول أفقر منه لحل كثير من الأزمات.
أما النتيجة الثالثة: فهي حتمية تأجيل الانتخابات. وهذا أصبح أمر شبه مؤكد خصوصاً بعد أن صرح به الشيخ الترابي قبل أيام، وأكدته اجابة رئيس الجمهورية في اجتماع الأمس حيث لم يرفضه وكذلك مسألة تعيين الولاة أصبحت شبه مؤكدة بعد طلب الرئيس من البرلمان تعديل الدستور وهذا بدوره يقود الى تأكيد فرضية الانتخابات… كل هذا وأنا لا استبعد وجود علاقة قوية جداً بين ظهور الشيخ الترابي والطلب الأمريكي بتأجيل الانتخابات وقيام حكومة مؤقتة برئاسة البشير، وسير الحوار بهذه الطريقة… لكن دعونا نتفاءل خيراً .
وأخيراً ذهب الجميع لتناول وجبة العشاء ليكون بينهم “ملح وملاح” أو كما قال، لكن ليتني أعرف ماذا دونت سكرتارية الاجتماع في محاضرها كخلاصة وقرارات الاجتماع، لكنني متأكد أن من يقرأ المحضر يجد قرارات وتوصيات وعبارات بناءة لكن متي قيلت؟ ومن قالها؟ الله أعلم.
اعتقد ان السكرتارية لها من سعة الخيال ما يفوق سعة معرفة الاعضاء و لها من الوطنية ما يجعلها تتغني “لكن الجمال الاصلي في السودان” والرئيس سيرقص كثيرا حتى يشرطه الضحك.
14+ صفر تعبير جميل تشكر عليه