مساومة أم تغيير راديكالي جدل الحصان والعربة!

(1)
بينما تواصل القوى المعارضة بعثرتها للطاقة والجهد بكثرة المبادرات والإعلانات السياسية المفتقرة لآليات التنفيذ، يتسع الفتق بين مكوناتها، ويواصل النظام المتسلط ترتيب أوراقه، وحبك فصول مسرحية توحيد الصف الإسلاموي في عملية خداع مكررة، يقوم بها في كل مرحلة لإعادة إنتاج الذات، واسترداد الأنفاس، كسبا لمزيد من الوقت على سدة السلطة؛ لتبقى با نوراما المشهد السياسي السوداني على حالها، مرتجة بين تيه قوى المعارضة، وعجزها عن إحداث التغيير، وجنون النظام بالسلطة، وتمسكها بها رغم الفشل البيِّن، بينما الوطن يعاني سكرات التشظي واندثار معالم الدولة في انتظار رحمة السماء.
(2)
البون الشاسع بين تفريط قوى المعارضة، وعجزها عن الوصول لتفاهمات بينية، تقود لاتفاق مكوناتها على برنامج حد أدنى، واجتهاد النظام ونشاطه في جمع شعث تياراته التي يدب بينها الخلاف أحيانا على تقاسم (الأنفال)، يشير بوضوح لمكمن العلة الوطنية التي شوهت الضمير الجمعي، وقادت لاصطفاف سياسي أعرج، غابت عنه القيم النبيلة، واختلطت تحت غبار مجادلاته الرؤى والمفاهيم، حتى بات من العسير على المرء التمييز بين مناهج السياسة التي يمكن الاختلاف حول متغيراتها، وبين “الوطنية” كقيمة عليا ثابتة لا خلاف عليها. فمن المحزن حقا ألا تستطيع النخب السياسية التمييز بين مصالح أحزابها الضيقة، ومصالح الوطن العليا التي يفترض في الجميع الحرص عليها وعدم التفريط فيها.
(3)
المراقب لحالة تراخي الهمة الوطنية والعجز المقيم، يرى أنها علة لا يعاني منها النظام الحاكم وحده ولا تقتصر على مكوناته الإسلاموية فقط؛ بل تتعداه لتصيب كبد الصف المعارض، وتؤطر للخلاف المزمن المستعر بين أطيافه السياسية، وتياراته الفكرية المتناطحة على طبيعة التغيير المنشود، لدرجة أهملها للهدف الرئيس، وانصرافها لفسطاطين متناطحين، طرح كلاهما أوهن من بيت العنكبوت، يتبنى الأول حل الأزمة الوطنية بمساومة تاريخية كسبيل آمن للتغيير، بحجة الحفاظ على “كيان الدولة”، بينما يصر الثاني ويدعو لصراط التغيير “الثوري” الراديكالي، بذريعة أن قوائم المعبد القديم قد نخرها سوس الفساد ولا مجال لترميمها، وكلا الفسطاطين عجز عن تقديم مشروع مقبولٍ للشرائح كافة، وفشل منطقه في إقناع (الكتلة الحرجة) ولف قاعدة جماهيرية عريضة لها القدرة على المضي ببرنامجه نحو التغيير؛ لتظل القضية الوطنية المركزية -المتمثلة في ضرورة إزالة النظام المتسلط- معلقةً حائرة تتأرجح بين الفسطاطين.
(4)
لا اختراق سياسي أنجز، ولا مخرج مشرف من وحل الأزمة الوطنية تم الوصول إليه طوال ربع قرن، وقوى المعارضة في شتاتها تبدو مهتمة بما يفرقها، أكثر من اهتمامها بالذي يوحدها، ويدفع بعجلة التغيير قدما للأمام؛ فالانشغال بفرض الرؤى والتوجهات الحزبية بغرض كسب نقاط عجاف على حساب إنضاج اشتراطات التغيير، وضمان لحمة الصف المعارض، هو الشغل الشاغل لأطياف المعارضة كافة، وهو عبث لا يمت للسياسة الواقعية الرشيدة بصلة، وموقف يصب في صالح النظام الحاكم، يمده بالوقت اللازم لإعادة ترتيب أوراقه، والبحث عن حيل جديدة كالانتخابات المشكوك في نزاهتها، التي يصر على قيامها لمواصلة تفرده بالسلطة. وهذا لعمري دعم مجاني ظلت تقدمه المعارضة لنظام يعيش مترمما على تناقضات المشهد السياسي مستغلا تشاكس مكوناته مما ساعده على تنفيذ سياسة فرق تسد الاستعمارية.
(5)
بالنظر لطرحي قوى المعارضة السودانية، تجدر بنا الإشارة إلى أنه مثلما أن لنجاح التغير الثوري اشتراطات محددة يجب توفرها، كنضوج الظرف الذاتي والموضوعي، وانتشار الوعي، وقوة التنظيم وانضباطه، فإن نجاح المساومة السياسية يرتبط بتوفر اشتراطات محددة أيضا، وغني عن القول إن المساومات المشروعة تتطلب توفر قدر كبير من الحرية، وأجواء طبيعية غير مشروطة، وعزم صادق، واستعداد من جميع الأطراف على تقديم تنازلات متقابلة، بشرط أن لا تخرق هذه التنازلات حد المشروعية، ليظل كل طرف على يقين بأنه قد عقد صفقة رابحة، رغم ما قدمه من تنازلات، وهذا أمر ممكن متى ما صدقت النوايا، وخلصت لوجه الله ثم الوطن. والتاريخ يقدم أمثلة كثيرة على كفاءة المساومات كأداة لحل المعضلات السياسية، بشرط أن تكون المساومة مشروعة، حيث تعتبر من آمن وأنجع أدوات معالجة الاعتلال السياسي، وتفوق في شمول حلها للأزمات بقية أدوات التغيير التي تتضاءل أهميتها بضعف قدرتها على الوصول إلى حلول متكاملة وجذرية تمتاز بالديمومة والاستمرار.
(6)
أهملت القوى السياسية المعارضة قضية وحدة الصف وضرورة التفاف مكوناتها – بعيدا عن العصبية الحزبية- حول قيادة سياسية موثوق فيها لها القدرة على السير بحراك التغيير قدما بالشجاعة والحكمة التي تجعل من ضروريات اللحظة الثورية واقعا قابلا للتنفيذ، فأجهضت بهذا السلوك غير الراشد عملية إنضاج العامل الذاتي، وشلت يد الحراك الثوري الذي ظل يصفق بيد العامل الموضوعي وحده، ومعلوم أن اليد الواحدة لا تصفق، ولا يسمع لها رجزا، فحين استطاع النظام الحاكم وحركته الإسلامية جر قطاعات مقدرة من النخب المعارضة لمستنقع سياساته الجهوية والعنصرية، عوضا عن وقوف هذه النخب حجر عثرة في طريق تمدد هذه السياسات الخبيثة، انغمست بلا وعي حتى أذنيها في ذاك الوحل، وباتت تتعامل وفقا لها كردة فعل لفعل الإقصاء الذي مارسته السلطة، وأفضى لنسف استقرار ولُحمة المجتمع السوداني.
(7)
استفاد النظام من ركون القوى المعارضة للتعامل بردود الأفعال في إطالة عمر سلطته، وظلت خيل المعارضة تعرض وتدبك خارج حلبة الاشتراطات المطلوبة؛ لجعل أحد الخيارين هو المطلب الجماهيري الغالب؛ فقد افتقرت الدعوتان لآليات التنفيذ التي تجعل من تحقيق أي منهما واقعا ملموسا، وليس حلما طوباويا معلقا بأستار العدم. أما النظام الذي أتقن لعبة شراء الوقت، فقد ظل يضع العراقيل في طريق الوصول لأي تسوية تقود لعقد مساومة مشروعة، وآثر المناورة والالتفاف على تعهداته، ومن ثم نقضها، بينما القوى السياسية التي تبنت خيار المساومة عجزت -رغم التنازلات الكبيرة التي قدمتها – عن إرغامه على المضي قُدما في هذا الطريق، والإيفاء بما وعد، حتى فاجئها بإصراره على قيام الانتخابات في مواعيدها، متحججا بأن مواعيد إجرائها التزام دستوري لا يمكن الإخلال به، ومؤكدا بأن قيام الانتخابات لن يتعارض مع دعوته للحوار!. ورغم هذه الانتكاسة التي أعادت الكرة لمعلب دعاة التغيير الثوري، لم يحرك هذا الفريق ساكنا، ولم تبرح دعوته لانتفاضة شعبية الحناجر التي تصرح ليل نهار بقرب اندلاع عاصفة التغيير.
(8)
ملت الجماهير مماحكات المعارضة والسلطة معا، وانصرفت مكللة بالإحباط، ترى فيهما ما رآه المتنبي من نَقصِ القادِرِينَ على التّمَامِ، فغالبية أهل السودان على قناعة من أن المساومة المشروعة هي أفضل السبل لحل الأزمة الحالية، وترصين الصف الوطني، ثم الانطلاق إلى بناء البلاد على المنهج القويم، وهي ضرورة قصوى لما لها من قدرة على مخاطبة القضايا العالقة كافة، في مجتمع متعدد المعتقدات والأعراق مثل السودان الذي يعيش اليوم أزمات متوالية، ونزاعات متفاقمة، ، لكن يظل أمر نجاح المساومة مرتبطا ارتباطا وثيقا برغبة وتمسك طرفي النزاع وقناعتهما بضرورة انجازها، واستعدادهما لتقديم أقصى التنازلات المتقابلة، وهو الشرط المفقود اليوم بسبب تعنت النظام الحاكم، وتشبثه الأخرق بالسلطة، الشيء الذي يدفع خيار المساومة المشروعة للتراجع، ويجعل من التغيير الثوري الراديكالي رغم المخاطر الجمة التي تحيط به الخيار الوحيد المتاح أمام الجماهير، بعد طول انتظار تجاوز الربع قرن.
الديمقراطية قادمة وراشدة لا محال ولو كره المنافقون.

تيسير حسن إدريس 10/11/2014م
َ

تعليق واحد

  1. خطاب الإسلاميين قد تجاوزه الزمن إذا توحدوا أو تفرقوا فقد ذهبت ريحهم. المحزن ضعف المعارضة وضعفها يأتي من أن الريادات الوطنية غير واعية بحركة وإتجاه العالم. المعارضة نفسها تطرح خطاب أفقر من خطاب الإسلاميين وهذا الفقر في الخطاب سواء كان خطاب الحكومة أو المعارضة يجعل الوطن يقبع تحت دوائر مفرغة ومحكمة الأغلاق.ولسؤ الحظ صادف فقر خطاب الحكومة والمعارضة حقبة قد أصبح فيهاالعالم كله يتخلق ليولد من جديد بمفاهيم تحتاج لنخب لماحة تعرف الى اي إتجاه سيتجه العالم على الأصعدة السياسية والإجتماعية والإقتصادية.

  2. اطفح الكيل و تم اغتصاب الشعب كله. ماذا ننتظر؟
    على الشباب كل الشباب بما فيهم الطلبة ، ترك اماكن العمل و مقاعد الدراسة. لينضم من يسطيع الالتحاق بالحركات المسلحة . على سكان المدن تكوين خلايا المقاومة المسلحة بالاحياء. على الحركات المسلحة تسريب عناصرها لداخل العاصمة. وعلينا جميعا ان نشعل حرب عصابات المدن اتحرير شعبنا. من اين نجد المال للشرب و الاكل و التسلح؟ من المصارف و خزن الشركات و خزن البيوت بالقوة المسلحة و فرض الاتوات. السلاح من مخازن القوات النظامية بالقوة و بعضة بالشراء من العساكر المحتاجين و الضباط المرتشين.
    وثورة حتى النصر.

  3. بدون زعل و انفال , اطلب منك سيدي المتابع ان تقراء هذه الهضربة بكجة عين و غقل نافذ الي صلب الموضوع بامانة و موضوعية , و سامحني في ورود بعض الاخطاء الاملائية و الفكرية و لربما البنيوية , كل هذا لاسياب نفسية سببها حال البلد !!!! و اللبيب بالاشارة يعلم.

    اولا – علينا ان نعترف بهوان الحالة التي نمر بها كالمعارضون, هذا بالاضافة الي وجوب معرفة ماهية القوي التي تريد التغير الحقيقي و ماهي ملامح السودان الجديد … و ماهي خاصية الحركاتنا التي تريد التغير , ولماذا حالات الانقسامات المستمرة, علينا ايضا ان نتسائل هل هي قادرة علي التغير الذي ننشده؟؟؟؟؟ الجدير بالذكر انني لا اتكلم عن اي حزب من المركز.

    ثانيا – ماهي اثار اقتيال القائدين قرنق و خليل ؟؟؟ و لماذا هما بالذات ؟؟؟؟؟

    ثالثا – يا ناس هوي هل تجميع ما تبقي من الحركات الثورية و الجماعات الثورية المعارضة التي غير منسجمة مع بعضها البعض في يد غير امينة علينا , عبر تجارب طويلة و متعدده ستحقق لنا سودان جيد افضل من سودان الانقاذ؟؟؟ الاجابة بسيطة لا اظن ذلك و اضيف ما يقوله عمنا كرناف في رواكيب مايو جنوب الحزام ….لماذا لان هذه الشظايا ذات الاطراف الحادة جدا فتخايل معي فاذا و ضعت اجسام حادة الاطراف مجتمعة في يد طفل لعوب _

    فهل تنتظر منه ان يصنع لنا تمثال جميل للجبهة الثورية القوية و المتحدة ……_اكيد ان هذا غير ممكن لان هناك احتمالين فقط .؟؟؟

    الاول :::: ان تتمزق يده الغضة بفعل حدة اطراف هذه الشظايا النشطة الايونات ..التي قد تنفجر في اي وقت محدثة له بذلك عاهة دائمة او انتشار مرض سرطاني يمزيق ما تبقي من جسد السودانات من ثم سنبكي كثيرا علي اطلال السودان القديم و اهرامات السودان الاقدم. الله يستر !!!!!

    الثاني :::: ان يالجاء صاحبنا الي اسلوب مركزه القديم بممارسة تكتيكه المعهود من تهميش الاخرين او التلاعب بهم , و ان يقوم بتفعيل سياسة فرق تسد فيضرب هذا بذاك, بينما يقوم سريا بالتقرب زلفا الي مركزه و اهله , لعل هذا اقل مايدور في عقله الباطن و نفسياته . من ناحية اخري سيتقل فوضي تلاطم امواج المتعارضين لكي يظفر بجذء من جيفت بقايا جثت الوطن و لو علي سيبيل التعوضات او مركز وهمي كوزير خارجية مثلافي الوقت الذي يستمر فيه وكيل الوزارة القديم و هو بالضرورة من سدنة الدولة العميقة , هنا تخيل معي كيف يكون حال السيد الوزير و مدي تاثيره .

    لا حظ معي هذه الورطة التي نحن فيها ان كثير من قادتنا ليس لديهم الخبرة في التعامل مع المركز و مريكز الهامش برغم صدق توجهاتهم , انا ليس لدي الحق في التشكك في ثوريتهم ,الا ان غياب التنظيم الحقيق اقعدهم و لا ننسي ان طريق النضال كان و مايزال طويلا. لكن من المؤسف اذا كان بدون خطط لانه سيرهقهم لا محال في ذلك , وسوف ينزل البعض في اول محطة , للاسف تامبيكي عملها فينا فالكل الان مشغول بشلته و بلورات ثلجه .. المكسرة باتقان الاستخبارات . مؤسف جدا يا اصدقاء,

    اما ما اصاب هذه المنظومة في مقتل او قل اطلق عليها رصاصة الرحمة الاخيرة , هو الدستور الوهمي الجيد بدل من المنفستو الذي ضحي من اجله عدد ضخم من المواطين العسكرين و المدنين علي امتداد الوطن , من كل اثنياته . هذا الوطن المنكوب الذي مزقته اظافر الانتهازين من النخب الحنوبية و الشمالية الحالمين باقتسام ثروات الشعوب ..عملا بنظرية كل ياكل اهلوا فالتقوا واتفقوا في نيفاشا و بها نجحوا في الافلات من العقاب عن جرائمهم ضد الانسانية نعم كل هذا وفق نيفاشا لا اعدها الله في ثوب ثاني و هذا ما اخشي ان يعد له في اديس اببا…. اتبهوا يا اهل السودانات

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..