عربي جوبا والجلابية والحنة) ..دولة الجنوب… تهديد ثقافة (الجلابة)…؟!

ساعة اليد في معصم بعض الزعماء الجنوبيين تعني أكثر من مجرد أداة لمعرفة الوقت وضبط إيقاع الحياة على دقاتها، فوضع الساعة على المعصم الأيمن بالتحديد، يرمز إلى رفض وضعها على (الشمال)، رفض لكل ما هو شمالي، ولو كان عضواً في جسد صاحبه، فهذا التقليد المناهض للشمال وعاداته وكل ما يحيل إليه انتظم النخب السياسية الجنوبية لعقود خلت منذ أيام جبهة الجنوب التي قادها أبيل ألير ومعه بونا ملوال، وقادا بالتالي موضة ربط ساعة اليد في المعصم الأيمن، كناية عن الاختلاف مع الشمال، ورفض أي وجه شبه معه.
…
المغايرة التي أرادت بعض النخب الجنوبية تأكيدها بواسطة الحرص على مظاهر وتقاليد مختلفة عن تلك العائدة للشمال، ليست مجرد رسالة اختلاف ثقافي فحسب، لكنها تستبطن اختلافاً واحتجاجاً سياسياً في المقام الأول، تعود جذوره إلى شعور هؤلاء بأن الشماليين خدعوهم، ولن يمنحوهم ما يريدونه سواء كان فيدرالية أو حكماً ذاتياً، ما تسبب في عزوف سياسي لهم عن الشمال وطوائفه الحزبية المتعددة، ومن ثم عزوف ثقافي ولغوي ونفسي، يخشى كثيرون أن يقود في حالة نشوء دولة جديدة في الجنوب إلى طمر مظاهر الثقافة الشمالية ذات الطابع العربي الإسلامي التي تأثرت بها جماعات غير قليلة من الجنوبيين داخل الجنوب وخارجه، ويقضى على تلك الرغبة الشمالية الدفينة في نشر الثقافة العربية الإسلامية في أفريقيا عبر نوافذ السودان الجنوبية المفضية إليها.
العزوف عن ثقافة الشمال، وللمفارقة، ربما كان تقليداً شائعاً بين النخب لا غير، فذات أوجه الشبه مع الشمال التي يحرص بعض السياسيين الجنوبيين على بتر البارز منها بالفعل، وعدم نشوء أخرى جديدة، يحرص عليها في المقابل وبشكل لافت جنوبيون كثر في الأوساط الشعبية، فداخل الجنوب نفسه، في المناطق المتاخمة للشمال على وجه الخصوص تنتشر بشكل كثيف مظاهر ثقافة (الجلابة) وحياتهم وطريقة أكلهم ولباسهم، فمن يزور مدينة الرنك في شمال ولاية أعالي النيل يكاد يجزم أنها شمالية، وكلما مضيت جنوباً كلما غابت المظاهر الشمالية رويداً رويداً لتحل محلها الثقافة المحلية بطابعها الإفريقي، والثقافة الاستعمارية بطابعها المسيحي الأنجلو ساكسوني، لكن حتى في وسط وجنوب أعالي النيل يمكنك أن تجد الكثيرة من الجنوبيين الذين يؤدون الصلوات في المسجد، ويرتدون الجلابيب ناصعة البياض ويعتمرون العمائم، بل غير بعضهم اسمه وتسمى بآخر يتسق مع ديانته الإسلامية الجديدة.
في جوبا نفسها وغيرها من مدن الاستوائية الكبرى يوجد مسلمون جنوبيون، ومساجد، وجلابيب وعمائم، وإلى جانب هذه المظاهر الشمالية الثقافية كلها يوجد ما هو أكثر شيوعا وشهرة وتأثيراً، الأثر الثقافي الشمالي الأبرز في جنوب السودان، اللغة الشعبية الأولى التي تتواصل عبرها مختلف القبائل في الجنوب : عربي جوبا الذي يمتاز عن اللغات الشائعة كلغات الدينكا والنوير بأن أناساً كثيرين من قبائل مختلفة يفهمونه وينطقونه بسهولة، ويقول د.أبينقو أكوك كشوال الأكاديمي المتخصص في القضايا الثقافية والاجتماعية أن الثقافة جوهرية في حياة الناس، وتلعب فيها البيئة دوراً كبيراً يجعل المرء يتأثر بما حوله ويتفاعل معه، ويدلل على تأثر الجنوبيين بالثقافة الشمالية بالقول أن الراحل جون قرنق كان يخاطب جنوده في الغابة بعربي جوبا المشتق من العربية، لكنه يشبه في طريقة نطقه لهجات الجنوب المحلية، ويتوقع د.أبينقو أن تبقي اللغة العربية لغة الشارع الحي حتى إن وقع الانفصال واتخذت الدولة الجديدة لنفسها توجهات ثقافية أجنبية، ويقول: (السودان تركيبته فريدة، وحتى إذا انفصل الجنوب فإن اللغة العربية ستبقي هي لغة الحياة اليومية في أسواق وأزقة جوبا).
الجلابية والإسلام وعربي جوبا ليست كل شيء فيما يتعلق بتأثير الشمال الثقافي على الجنوب الذي أغلقه المستعمر البريطاني في وجه الثقافة الشمالية وحظر مظاهرها كالجلباب والأسماء العربية، فالتأثير الثقافي الشمالي اتخذ طابعاً نسائياً أيضاً، فأعداد متزايدة من السيدات الجنوبيات المقيمات بالشمال وحتى الجنوب بتن يتخضبن بالحناء على أيديهن وأقدامهن أسوة بنظيراتهن الشماليات، بل أكثر من ذلك، تخلت بعض العائلات الجنوبية المقيمة بالمدن عن عادة دفع مهور العرائس عبر تقديم الأبقار، وانتقلت هذه العائلات إلى (الشيلة) السائدة أكثر في الشمال، فضلاً عن (التوب) الذي أصبحت الكثير من النساء الجنوبيات يجدن ربطه أو لفه على أجسامهن، ناهيك عن (شيل الفاتحة) بواسطة العديد من الجنوبيين عند أدائهم واجب العزاء في أحزان أصدقائهم وزملائهم وجيرانهم الشماليين.
دولة الجنوب الجديدة إذاً لن تؤثر على تفاعل المحيط الأفريقي مع الثقافة العربية الإسلامية، ليس فقط لأن الأثر الشمالي سيبقي قوياً على الجنوب، فالثقافة العربية لم تدخل إلى منطقة القرن الأفريقي وجنوب شرق أفريقيا عبر السودان بل عبر البحر الأحمر والمحيط الهندي كما يؤكد البروفيسور حسن مكي المؤرخ والمفكر الإسلامي، لكن ذلك لن يمنع بدوره انتشار الثقافة الإسلامية جنوباً عبر تيار النيل الذي أغلقه المستعمر البريطاني بواسطة سياسة المناطق المقفولة كي لا يلتقي مع تيار البحر الأحمر، ويتنبأ مكي بأن تيار النيل سيلاقي تيار البحر، وأن الثقافة الإسلامية ستستمر في التغلغل جنوباً، ويقول: (إذا كان النيل يمضى شمالاً فإن الحضارة تمضى جنوباً، ستبقى العربية لغة التواصل بين الجنوبيين، والإسلام موجود في جوبا الآن أكثر مما هو موجود في بانكوك مثلاً ).
هذه الطمأنينة التي يبدو إسلامي كالبروفيسور مكي وحتى أكاديمي جنوبي مثل د.كشوال غارقان فيها وواثقان بأن عربي جوبا سيبقي لغة الحياة في جوبا وغيرها من المدن، وأن مظاهر التفاعل الثقافي بين الشمال والجنوب ستتصاعد وتزداد عمقاً، يحذر البعض من أنها قد تكون طمأنينة زائفة في عصر تمت فيه عولمة كل شيء حتى الثقافة، فالبعض الآخر يشعر بقليل من الطمأنينة إزاء مستقبل مظاهر الثقافة الشمالية في جنوب السودان الذي باتت أعداد السيارات القادمة من الشمال بمقود ناحية اليسار فيه تتناقص شيئاً فشيئاً أمام أرتال السيارات الوافدة من يوغندا بمقود ناحية اليمين، وبات بعض شبابه وفتياته يرتدون أقصر وأضيق ما أنتجته مصانع العولمة من أزياء، لدرجة حملت جنرالاً علمانياً من الجيل القديم كالفريق سلفاكير على الشعور بالقلق من قوة تلك الموجات الثقافية الأجنبية التي تضرب الجنوب، والبحث عن إجراءات سريعة تحافظ على ما تبقي من موروثات قبل أن تلتهما العولمة.
الرأي العام