الذين عبروا البحيرة جنوباً

جوبا فرحة جزلة اليوم . وشقيقتها الخرطوم حزينة تبكى بدموع الرمد . و نيكيتا داو تبكى كما لم تبك من قبل . تأكد لديها الخبر الكبير . همست لنفسها : لقد فعلوها . الدماء التى سالت . والدموع التى انهمرت كانت تقول انهم سوف يفعلونها طال بهم الزمن ام قصر . هاهم يفعلونها . سيسيليا داو لن تكون حاضرة بجسمها الابنوسى الفاره فى يوم الاحتفال الكبير . لن تسمع ضحكاتها المجلجلة الى المحتفلين ، تضحك كأن الدنيا قد خلت من الاحزان . لكن تابان الصغير سيكون هناك . يشبهها الخالق الناظر ، لولا أنه يخلط الجد بالهزل. سيسيليا داو لم تكن تفعل هذا . قامت الى ناقذة غرفتها المتواضعة فى المنزل المهترئ القديم تفتحها على الفضاء العريض المشبع بالاخضرار . بدت لها الهضاب الداكنة من بعيد . الغمام يكسوها بقسوة شديدة . امتزج فى صدرها الفرح والحزن . فرح بالحلم القديم يتنزل من عوالم المستحيل . و الحزن القديم يبقى فى مكانه . فسيسيليا داو غائبة عن المكان . وعن المشهد الكبير . كانت ستلهب المكان بضحكها عالى النبرات . وهيجانها يخرج عن كل حدود عندما يحتويها الفرح . خارت قواها فجأة . تهالكت الى مقعدها القصير فى غرفتها المتواضعة فى المنزل المهترئ القديم فى الحى المكتظ بالاحزان والناس حتى شدقيه . اشعلت سيجارة كعادتها دائما عندما يستبد بها الرهق والاعياء . اخذت منها نفسا طويلا . نفثت من ثغرها الدقيق عمودا من الدخان الكثيف . وقفت تحدق فى عمود الدخان يتعالى فى ارجاء الغرفة الخالية من الاثاث . هاجر اهلها الى هنا فى خمسينات القرن المنصرم . وتركوا سيسيليا داو هناك فى رقدتها الاخيرة . وجاءت هى الى هنا . شبت هنا . تماهت مع بيئتها الجديدة هنا . صارت جزءا من محيط الحى و دكوره العام هنا . ذابت فى الخليط المتجانس هنا . عبروا بها البحيرة شمالا . لم يعبروا البحيرة جنوبا . شبت نيكيتا داو هنا . وشبّ معها ألق اهلها الاستوائيين هنا . أخذت منهم جمالياتهم . واطوالهم السامقة . تتشابى علوا مثل زرافة استوائية تشرئب بعنقها الى ذرى الاغصان . شبّ معها تبسمها المفرط فى وجه كل من تلقاه فى الطريق. تفعل هذا مع الجميع . لا تستثنى حتى اصحاب القسمات العابسة المكشرة ، لا تستثنيهم من تبسمهما المفرط . زاد تبسمها اليوم بمقدار . تأكد عندها الخبر . انقطعت عن حديث مع الناس . و تفرغت تستذكر احاديث أمها سيسيليا داو عن فردوس ساج تركته وراءها مختبئا خلف الهضاب الداكنة فى الرجاف . تتذكر حكايات أمها عن حكايات الكجور الكبير . رنة الحزن فى صوته المبحوح تنطبع فى الاسماع . تنهمر دموعه كلما رأى طيور السمبر وهى تغادر فى هجرتها الموسمية ، تعبر البحيرة جنوبا . مثل طيور السمبر كان يريد عبور البحيرة جنوبا . العمر لا يعين . ولا الظرف الاسيف . مقيل تحت شجرة الباباى السامقة هناك ، تزدرى ما حولها من شجر القرية المغبون ، حدّث نفسه ، لا يفوقه الا مقيل فى جنة الفردوس التى يحدث عنها عميده القسيس الاكبر . لقد كسبوا الرهان. عبروا البحيرة جنوبا . سيسيليا داو لن تعبر مع الرتل الكبير . لكن تابان الصغير سيكون هناك. يشبهها الخالق الناطق ، ممتلئا بالفرح والاحلام . بطبعها لا تحزن نيكيتا داو . و لا تبكى على ما فات . عندها القادم أحلى . لا تهوى رهق الانتظار فى الماضى . لكنها بكت تنادى سيسيليا داو فى يوم الرحيل الكبير . بكت نيكيتا داو كما لم تبك من قبل. حملت صورة شقيقتها الكبرى ، سيسيليا داو، حصدتها طلقة غادرة فى معركة النهر الصغير الذى لم يحفل بما حدث . نيكيتا داو لم تنس ذلك الارزام الثقيل . ولا المشهد . هاهى تبكى فى يوم الفرح الكبير ، تقول من بين دموعها : انظروا : الرصاصة الغادرة اسكتت النداء فى شفاهها الظامئة للانعتاق . انظروا الى الرتل الكبير : رصاص المكان كله لم يوقفه وهو يعبر البحيرة جنوبا .

د. علي حمد ابراهيم
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. يعبر البحيرة جنوبا !! وقفت عليهم وشهدت بام عيني في بلدة الرديس – جنوب النيل البيض وهم يحاولون عبور البحيرة شمالا !!

  2. شكرا أستاذي علي حمد على هذه الصور الرائعة عن أهل سودان الأمس سودان التسامح والسلام، ونحن أبناء جنوب النيل الأبيض حيث التعايش الحميم بيننا وبين إخوتنا أولاد المك كما كنا يحلو لنا أن ننده عليهم، كانوا يدخلون بيوتنا كنسمة في الصباح الباكر يرافقوننا إلى حقول القطن في مشروع جودة العدل حيث الكديب وحيث لا يقوى على حشائش السعدة إلا أمثال جون وجوزيف وهم يترنمون بأغياتهم التراثية التي كادت أذاننا أن تحفظها ،، يالها تداعيات نشتاق إليهاوتشتاق إلينا ،، كلما أشاتق لوطني تجدني أبحث عنه ولم اليوم إلافي تسجيلات عثمان حسين ووردي وكل أغنيات الزمن الجميل

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..