الإغريقي نيكولاس الذي أحب الخليفة

الإغريقي نيكولاس الذي أحب الخليفة
عرض لمقال بقلم جراسيموس ماكرس
بدر الدين حامد الهاشمي
هذا عرض مختصر لما كتبه جراسيموس ماكرس في مجلة الدراسات السودانية (والتي تصدرها جمعية الدراسات السودانية في بريطانيا) الصادرة في عام 2008م، عن أحد الإغريق (الأغاريق) اسمه نيكولاس، كان قد أتى للسودان في بدايات الثورة المهدية وكان له في المهدي وفي خليفته عبد الله التعايشي – كما بدا من مخطوطة مذكراته التي عثر عليها مصادفة جراسيموس ماكرس- رأي مغاير ينحو نحو الحب والتعاطف، خلافا لما هو متوقع. وفي هذا الجزء يصف الكاتب أيضا بعضا من صور الحياة في أمدرمان في تلك الأيام.
وسبق نشر هذا العرض قبل سنوات في الجزء الأول من كتاب “السودان بعيون غربية” للكاتب.
كنت ? بدافع الجهل ليس إلا- أوقن بأن كل من شاء حظهم (العاثر) من البيضان الأوربيين أن يقعوا في أسر المهدي ومن بعده خليفته عبد الله التعايشي، كانوا للمهدية وحكمها من الكارهين… وزاد من هذه القناعة ما قرأناه في كتب هؤلاء القوم ومذكراتهم عن بؤس الحياة وسوء المعاملة وقسوة الأوضاع التي كانوا يكابدونها وهم قيد أسر أولئك ” الوحوش البرابرة”، مثلما جاء في كتاب سلاطين باشا الأشهر “السيف والنار في السودان” وكتاب “سجناء المهدي” لمؤلفه بايرون فار ويل و”الدرويش” لفيليب وارنر و”أم درمان” لفيليب زيقيلر….وغيرها. بيد أنه تصادف أن وقع في يدي مقال في مجلة “دراسات السودان” صدر في عام 2008م عن جمعية الدراسات السودانية ببريطانيا سطره قلم جراسيموس ماكرس عن أحد الأغريق (الأغاريق) كان له في الخليفة عبد الله رأي مغاير ينحو ? خلافا لما هو متوقع- نحو الحب والتعاطف… وكان أول ما خطر لي وأنا أقرأ عن تعاطف الرجل وحبه لآسره هو : أتري كان ذلك الحب والتعاطف هو ما يحس به بعض المخطوفين والأسري تجاه خاطفيهم ( ويسمونها في الغرب “متلازمة ستوكهولم”، ويفسرها علماء النفس بأنها تنشأ مع لحظة الميلاد الأولي وفيها يرتبط المولود عاطفيا بأقرب بشخص بالغ ليجد عنده الحماية والرعاية والأمان)… فلندع ذلك للمتخصصين…
ترك الإغريقي ب. نيكولاس لأحفاده في أثينا مخطوطة مذكراته التي فاق عدد صفحاتها ثلاثمائة صفحة عن حياته في أسر المهدي وخليفته من بعده عبد الله التعايشي. وجدير بالذكر أن الكاتب ما كان له (وللعالم) أن يعلم عن هذه المذكرات إلا بعد صاهر عائلة ب. نيكولاس… فأنعم بها من مصادفة سعيدة ونسب معتبر!
قصة هذا الإغريقي تصلح ? في نظري المتواضع- كشريط (فيلم) سينمائي تحشد له عمالقة الفن السابع من كل حدب وصوب ففيها كل عناصر الدراما و التشويق والإثارة وعبق التاريخ (وهو حمال أوجه)!
وخلص الكاتب أن نيكولاس قد توخى الإنصاف للمهدية وقادتها (خلافا لما هو متوقع من إغريقي يعيش في كنف المستعمر البريطاني) فأتت مذكراته متزنة منصفة. وكانت أعداد الإغريق في عهد الحكم البريطاني تتزايد باضطراد حتى بلغ عددهم نحو سبعة آلاف في الخمسينيات. وعمل معظمهم بالتجارة وأثروا ثراء عظيما. بيد أنهم لم يكن ليخادعون أنفسهم بأن لهم في السودان نفس مكانة البريطانيين والأوربيين الآخرين، ولا عجب، فقد كان البريطانيون يلقبونهم على سبيل التبخيس بـ “العرب البيض”!
وبدأ نيكولاس مذكراته بالحديث عن رحلته من جزيرة ساموس اليونانية إلي ميناء سواكن علي البحر الأحمر، ورحلته في شهري مايو و يونيو 1881م إلي الخرطوم، ولم يكن عمره يتعدى آنذاك الحادية عشر ربيعا. وكان أهله قد بعثوا به للسودان للتعافي من مرض كان قد ألم به، وكان من المأمول أن يؤوب لموطنه فور تماثله للشفاء، إلا أن قيام الثورة المهدية قضى علي تلك الخطة العائلية… وقضى أمر الله أن يظل الرجل وأولاده و أحفاده في السودان لمئة عام أو تزيد.
وبعد أن سجل نيكولاس تفاصيل رحلته من سواكن للخرطوم قام بتقديم وصف تفصيلي عن الإغريق المتواجدين في السودان في عام 1881م، والذين كان عددهم 193 فردا، منهم 132 في الخرطوم وحدها، وكانوا يمتلكون ويديرون المحلات الخمسة الكبرى في الخرطوم وغالب مخابزها وبقالاتها الصغيرة. وتخصصت محلاتهم في بيع التبغ والخمور والحلوى والأجبان والخبز. وبالإضافة إلى ذلك كانوا يديرون أربعة قهاوي. ولا حظ نيكولاس أن الغالبية العظمي من الإغريق في السودان كانوا يعملون بالتجارة الحرة، ولم يلتحق منهم بخدمة الحكومة إلا النفر القليل. واتخذ كبار تجار الإغريق في الخرطوم وكلاء لهم من بني جلدتهم يديرون أعمالهم في الأقاليم.
وأفاض نيكولاس في وصف ما أعقب معركة استيلاء جيش المهدية علي الأبيض يوم الجمعة 19/1/1883م، ووصف معاملة المهدي لمن أسرهم من الأجانب باللين والرفق. وذكر الكاتب أسماء خمسة من الإغريق (سماهم بأسمائهم كاملة) قال أنهم لعبوا “دورا بارزا” في تلك المعركة (دون الإفصاح عن ذلك الدور البارز). وأمر المهدي بجمع المسيحيين من السوريين والإغريق والايطاليين (وكانوا قساوسة وراهبات). وكان من بين السوريين تاجر أسمه جورج إستنبولي ومعه زوجه وأطفاله الخمسة استسلم مبكرا للمهدي فكافأه بعدم المساس بممتلكاته في المدينة، بينما صودرت ممتلكات الآخرين وضمت لبيت المال كغنائم حرب.
ووصف نيكولاس في صفحات ثلاث صورا تكاد تنطق بالحياة للقاء المهدي بأسراه من الإغريق والسوريين وخطبته فيهم التي طالبهم فيها بالتخلي عن ديانتهم والدخول في الإسلام. ورحب بهم في بداية اللقاء وأخبرهم أنه لا يلومهم ولا يحملهم أي مسئولية “عما حدث”. وقال أنه يعلم أنهم مسيحيون بيد أنهم جاهلون بالإسلام ولا يعلمون عن تعاليمه التي تبشر بظهور المهدي. لذا فإن لهم ? في نظره- العذر في عدم تصديق ونصرة المهدي ساعة ظهوره. وطلب منهم النطق بالشهادتين حتى يتسنى لهم الانضمام لركب المهدية والظفر بجنة الخلد برفقة المؤمنين. وأكد لهم المهدي أن المهدية لا تهدف إلا لنشر الإسلام وإدخال اليهود والنصارى في دين الله، وبشرهم بأنهم هم السعداء لأنهم دخلوا الإسلام قبل جماعتهم الآخرين. ثم أمرهم في نهاية الخطبة بأن يرددوا خلفه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأضاف أيضا: ومحمد أحمد المهدي خليفة رسول الله. ردد الأسري الشهادة فباركهم المهدي وتمنى لهم كل خير وأخذ منهم بيعة الولاء للمهدية، ثم أطلق كل واحد منهم اسما جديدا كان عليه استعماله منذ تلك اللحظة. وأمر بصرف قليل من المال لكل واحد منهم لشراء زي “مهدوي” وبيت في “الديم”. لم يك سعر المنزل يتعدى 50 أو 60 قرشا إذ أن كل المنازل كانت مبنية من الخشب والسعف. وأمر المهدي أيضا أمير بيت المال بصرف راتب شهري قدره 15 ريال لكل فرد من الأسرى لمقابلة احتياجاته حتى يجد له عملا يرتزق منه.
ولابد من الإشارة هنا إلي أن الأسرى لم يتم ختانهم إلا بعد مرور سنوات علي ذلك اللقاء. فلقد أمر الخليفة عبد الله في عامي 1891م و 1892م بختان كل الأسرى، وعهد بتلك المهمة للحلاق حسن ناني. واستغرقت فترة البرء والنقاهة من تلك “العملية” ثمانية أيام عند الصغار وعشرة إلي اثني عشر يوما عند الكبار.
وفي موضع آخر من مذكراته أشار نيكولاس إلي اللقاء الثاني للمهدي مع أسراه من الذكور. وأخبرهم المهدي في ذلك اللقاء أولا أنه وبمقتضى الشرع الإسلامي فلا يجوز أن تظل الراهبات دون زواج، وثانيا أنه يفضل أن يتم زواجهن من النصارى الذين تحولوا للإسلام حديثا وليس من بقية المسلمين. وعين المهدي الشيخ الهرم الفكي عبد العزيز لمباشرة إجراءات تزويج الراهبات ولتعليم الأسرى النصارى بعضا من تعاليم الإسلام مثل كيفية الوضوء وقراءة بعض قصار السور القرآنية. وعبر الأسرى عن عظيم امتنانهم وتقديرهم للمهدي وقبلوا عرضه شاكرين. وكتب نيكولاس أن المهدي كان تحت ضغط قوي من رجاله الذين كانوا يرغبون في نكاح أولئك الرهط من الراهبات، لذا قال لهم إنه يفضل أن ينكحهن للنصارى الذين تحولوا للإسلام حديثا. ولم يفسر نيكولاس في مذكراته موقف المهدي في هذا الأمر، بيد أن مرد موقفه هذا قد يكون عاطفة حقيقية نحو أولئك الأسرى، أو انتهازية سياسية لكسب ودهم، أو لدرء احتمال تعريض أمن جيشه ومعسكره للخطر عند تزويج أولئك النسوة (الأجانب) لأمراء الجيش وقواده.
وما أن صرف المهدي الإغريق الأسرى ووجدوا أنفسهم بمنجى من أذن وعين الرقيب حتى خاطب عبد الله (ديميتريس سابقا) زملائه قائلا :” إن هذه المخلوقات الضعيفة … عرائس اللورد عيسى أمانة في أعناقنا يجب علينا حمايتها بكل ما لدينا من قوة حتى يمن الله علينا بالحرية”. وطالبهم بالتفكير مليا وعدم الإقبال علي الزواج من أي واحدة منهن إلا إذا ضمن أنه سيسيطر علي نفسه ولن يلامس الزوجة “الراهبة”. وأقترح الإغريق أن يتولى السوريون والقساوسة تلك المهمة (إذ أنهم كانوا علي نفس الملة الكاثوليكية). فقبل القساوسة تلك المهمة بيد أنهم أشاروا إلي أن هنالك عدد قليلا من الراهبات سيبقى بعد أن يتم تزويجهن للمتطوعين. وهنا التفت عبد الله (ديميتريس سابقا) نحو السوريين والذين سارعوا بالقول أنهم يرحبون بالتطوع بيد أنهم لا يستطيعون ضمان السيطرة علي أنفسهم عند إتمام زواجهم من الراهبات. وعند ذلك تقدم أحمد ترمباس وآدم كوكوريمباس وإدريس بيلايتس للزواج من ثلاث راهبات، وبقيت ثلاث أخريات وجدن في نهاية المطاف من يقبل بالزواج منهن.
ونقل خبر توزيع الراهبات علي الإغريق إلى الفكي عبد العزيز فبارك الزواج الميمون، ونقل الخبر إلي المهدي والذي أعاد تذكير الفكي بضرورة معاملة أولئك “المؤلفة قلوبهم” بمزيد من العطف والحنان، وأكد له أنه لا يود سماع أي مظلمة أو شكوى من أحد منهم.
وقسمت الراهبات كما يلي: كانت الأم سيوبييور تريزا من نصيب عبد الله (ديميتريس سابقا) والذي تجب الإشارة إلي أنه لم يستطع كبح شهوته و”حماية” الراهبة طويلا! بينما تزوج أحمد ترمباس من كاترينا ونجح في السيطرة علي نفسه و”حمايتها” إلي حين “استرداد” السودان وبذا استحق وسام إمبراطور النمسا فرانسيس ? جوزيف. وتزوج إدريس بيلايتس من فرشيونا و”حماها” حتى توفي في أثناء حكم المهدية، خلافا للإغريقي إيدرو الذي فشل في “حماية” من زوجوه إياها وكان أسمها كونتستا، وماتا قبل الفتح الثنائي في 1898م. وتزوج جوزبي من بتينا ومارجريتا ولم يمسسهما حتى أطلق سراحهم جميعا في 1893م.
ولم يتطرق نيكولاس في مذكراته لتفاصيل الحياة الخاصة لمن تزوجوا غير رواية القصة التالية: أتى الخليفة عبد الله يوما، ودون سابق إعلان، لزيارة منازل العرسان الجدد لتقديم التهاني والتبريكات. ولسوء حظ العرسان تصادف أن كان خدمهم من الرقيق قد أوشكن علي الانتهاء من صنع البيرة المحلية (المريسة). فما أن سمعن أصوات الرجال في موكب الخليفة وهو في طريقه للدور حتى أصابهن الفزع فدلقن المريسة في حفر المراحيض. وفاحت رائحة المريسة وملأت المكان فتصايح من كانوا مع الخليفة مطالبين بإنزال أشد العقاب بالفاعلين. وهنا وقف الخليفة مهدئا ثورة الغاضبين وقال لهم: “هل أتينا هنا لنهنئ العرسان الجدد أم لهداية من دخلوا في الإسلام حديثا، أم لنبحث عن المريسة؟”
وأشار نيكولاس إلي قصة أخري ذكر فيها أن المهدي طالب القساوسة بالدخول في الإسلام اسميا والحرص علي إعلان ذلك أمام أتباعه وقال لهم: “يمكنكم الإيمان في دواخل أنفسكم بما تشاءون فلن نشق قلوبكم”. يثبت هذا (في نظر المؤلف) أن النظام أثناء فترة المهدي كان متسامحا وعمليا فيما يتعلق بالأسرى المسيحيين.
ولفت نظر نيكولاس أن المهدي لم يكن لينظر لكل الأسرى لديه نظرة واحدة كمجموعة من الكفار، بل كان يفرق بين الإغريق والسوريين من جهة، وبين القساوسة الإيطاليين من جهة أخرى. وكان يفرق أيضا بين الإغريق والسوريين. إذ كان المهدي يرى أن الإغريق “مجرد تجار” لا يتحملون أي مسئولية تجاه التطورات السياسية والاجتماعية التي حدثت، وكانت تلك دوما هي نظرة السودانيين تجاه المستوطنين الإغريق. وتعلق الإغريق بتلك الفكرة، بيد أنها لم تترجم أبدا إلي واقع ماثل. وتساءل نيكولاس عن السبب الذي به يظن المهدي أن الإغريق هم “مجرد تجار” بينما يعلم الجميع أنهم كانوا ضمن القوة المدافعة عن الأبيض إبان هجوم جيش المهدي عليها. وتتعقد الصورة أكثر عندما تمر الأيام ويتضح أكثر دور التجار الإغريق في حملة “استرداد السودان” عام 1898م، وعن علاقتهم مع السلطات الاستعمارية في ما أقبل من أيام. ويبدو أن “أيدولوجية الحياد” و”نظافة اليد” كانتا عنصرا مركزيا في الصورة الذهنية للمستوطنين الإغريق عند السودانيين، رغم أنه من العسير موائمة ذلك مع التطورات السياسية.
وعلي وجه العموم يرسم نيكولاس ب صورة إيجابية للمهدي وحركته، خاصة عند مقارنته للحكم المهدوي بالحكم التركي، والذي كرهه السودانيين لطغيانه واستبداده. ففي صفحة 178 من المذكرات يصف نيكولاس موقفا للخليفة عبد الله حدث بعد زمن قصير من قضائه علي تمرد الخليفة شريف. يقول نيكولاس أن الأنصار كانوا قد درجوا علي إظهار عدم الاحترام للمصريين والأتراك والسوريين والأوربيين الذين أدخلوا/ دخلوا في الإسلام. فلقد كانوا ينادون حتى من يعرفون أسمه بألفاظ مسيئة من شاكلة “يا غنيمة” أو “يا ود الريف” أو “يا قاقراوي? “، بل ويرددون أمامهم أغنية فيها الكثير من الإساءة والتحقير. وكان الأجانب يكرهون علي وجه الخصوص مناداتهم بـ “أولاد الريف” لأنها – كما فهموا- تنطوي علي معنى مبطن يفيد الجبن والخنوع.
ووقف الخليفة يوما بعد نهاية إحدى الصلوات في الناس خطيبا وقال للناس فيما معناه: أيها الإخوان: “منذ اليوم سيكون كل الأنصار أسودهم وأبيضهم أخوة متحابين. ليس لأحد من ميزة أو فضل علي الآخر. إنني أمنع أي فرد فيكم نهائيا من التفوه بكلمات من أمثال “ود الريف” أو غيرها، ومن يعص أمري فسوف ينال العقاب الشديد. من لم يكن في عروقه دم من “الريف” فهو عبد.” وبرر نيكولاس مقولة الخليفة الأخيرة بأنه يظن أن الخليفة كان يقصد أن السودانيين أصولهم عربية (أي من “الريف”). ومنذ تلك اللحظة توقفت الإساءات، وصار الأنصار من غير السودانيين ينادون بكلمات مثل ” الأخو” أو بأسمائهم مجردة.
ورغم أن نيكولاس كاتب المذكرات يورد ما قاله الخليفة دون أن يعلق عليه وأن يشككك في مراميه، فإن جراسيموس ماكرس يرى أن الخليفة لم يظهر هذا التسامح واللطف مع الأجانب بسبب “طيبة قلبه”، بل لأنه أراد تقليل فرص الاحتكاك والتوتر في عاصمته خاصة وأن الوضع العام فيها لم يكن مستقرا تماما. وكان الكاتب يعتقد أيضا أن نيكولاس لم ير شيئا فيما قاله الخليفة يفهم منه غير ظاهر ما قال. وكان نيكولاس علي قناعة بأن الخليفة كان “يحب” بالفعل أسراه من الأجانب. ويعود نيكولاس لذات الموضوع بعد خمسة وعشرين صفحة من حديثه عن الخليفة، وفي هذا الجزء من المذكرات يذكر نيكولاس بعضا من جوانب العلاقة بين الخليفة وإدارة حكم المهدية من جهة وبين الأسرى من جهة أخري.
ومرة أخري يكرر نيكولاس (فيما يشبه “البرمجة المنظمة” فيما يقول جراسيموس ماكرس) رأيه في أن الخليفة محب للأسرى خاصة الإغريق والإسرائيليين (هل يقصد اليهود؟ المترجم) والسوريين، ويكن حبا خاصا للإغريق، ويعامل أسراه من المصريين الأتراك بعطف خاص. وأشار نيكولاس إلى أن الخليفة كان شديد الحرص علي إظهار هذه المشاعر الطيبة لجموع الأنصار في مرات عديدة. ففي ذات مرة قام الخليفة خطيبا بعد أحدى الصلوات فقال ما يفيد بأن “الأسرى من المصريين والأتراك هم خير من بعض السودانيين، إذ أن أسوأ ما يمكن لهؤلاء الأسرى أن يفعلوه هو محاولة الهروب من أمدرمان واللحاق بأهلهم في وطنهم الأم، بيد أنهم لا يفكرون البتة في إيذاء حكم المهدية. ولكن أنظروا لأعداء المهدية من السودانيين… من تلك القبائل التي تحارب المهدية وليس لديها من هدف سوى القضاء المبرم علي دولة المهدية”. ويقول نيكولاس كاتب المذكرات: “أليس هذا هو أعظم تعبير عن الحب؟”
و أشار نيكولاس أيضا إلى شاهد آخر علي حب الخليفة للأسرى هو أن كل من يخاطب الخليفة من السودانيين كان يلزم بأن يطأطئ رأسه وأن لا ينظر للخليفة في عينيه وهو يخاطبه، بيد أن الأجانب من السوريين والإسرائيليين (؟) والإغريق لم يكن ملزمين بذلك الأمر.
ويصف نيكولاس موقفا آخر للتدليل علي حب الخليفة لأسراه وهو أنه، وبعد صلاة العيد، فقد كان الخليفة يجلس قرب المحراب وهو محاط بالأسرى الأوربيين وسط العلماء والقضاة، وينتصب واقفا لحظة دخول الأسرى ويحيهم قبل أي قادم آخر، ويتبادل معهم التحايا والتبريكات المعتادة ثم يبدأ الحديث معهم مبتدأ بأكبرهم سنا. وفي أحدى المرات وفي حضرة مجلس الخليفة قام أحد الأسرى الإغريق (و اسمه جورج كو…كس؟) بالحديث مع جار له بلغته الأم، فأنتهره أحد الأمراء وبعنف بائن. ولكن تدخل الخليفة وطلب من الأمير أن يدع الأسرى يتحدثون بلغتهم إن شاءوا، والتفت إلي الأسير الإغريقي وقال له ما معناه: “إنني واثق من صفاء قلبك وحبك الجم لي”، ثم التفت إلي الأمراء والقضاة والكبراء وقال لهم: “هؤلاء الناس تجار وأجانب وليسوا موظفين (في الحكم السابق) ولهذا فإنني أثق فيهم وأحبهم”. وكتب نيكولاس أن الخليفة كان يتوقع بالطبع أن يحذو جميع من كان في المجلس حذوه. ولزيادة التدليل علي تسامح الخليفة مع أسراه ذكر نيكولاس أن أحد عواجيز الإغريق ( واسمه اف أيسدور) كان لا يستطيع بسبب المرض القيام بحركات الركوع والسجود في الصلاة، فطمأنه الخليفة بلطف أن بإمكانه الجلوس أثناء الصلاة تماما كما يفعل في داره.
ويكتب صاحب المقال جراسيموس ماكرس أن هذه القصص التي رواها نيكولاس عن تعاطف الخليفة مع أسراه من الأجانب (خاصة الإغريق) ربما تكون “رسائل سياسية” موجهة لجماهير الأنصار. بيد أن الأمور أخذت بعدا آخر حين كان هؤلاء الأجانب يقفون أمام المحاكم في مواجهة السودانيين الأصليين عند حدوث منازعات بينهم في أمور التجارة وغيرها. إذ كان القضاة يقفون في صف الأجانب (حتى عندما يكونوا مخطئين) وينصحون المتقاضيين السودانيين بالتنازل عن دعاويهم بذريعة أن هؤلاء “أجانب” و”حديثي عهد بالإسلام” ويجب التغاضي عن هفواتهم. وختم نيكولاس مقولته بالقول أنه ما من أحد من الأجانب تمت إساءة معاملته أثناء حكم الخليفة عبد الله، وكان يرى أن الخطأ الوحيد الذي اقترفه الخليفة هو عدم السماح لهؤلاء الأجانب بالأوبة لمواطنهم الأصلية.
وبعد فترة قصيرة من إعدام الخليفة لإبراهيم محمد عدلان في 21 فبراير 1890م، وبعد القضاء علي حركة الخليفة محمد شريف كرار والأشراف في نوفمبر 1891م ظهر في أمدرمان ثلاثة من الأوربيين محاطين بثلة من الأنصار المسلحين. وكان أحد هؤلاء الأوربيين رجلا ممتلئ الجسم يضع علي رأسه طربوشا أحمرا. ولم يكن واضحا تماما للأسرى الإغريق إن كان هؤلاء الأسرى الجدد هم مثل الإغريقيين من جزيرة كريت الذين تم أسرهما قبل شهور، أم أنهم مجرد رحالة. ومثل الأسرى الجدد أمام الخليفة وسط عدد كبير من الأنصار الذين كان يهتفون في وجوه الأوربيين: كفار كفار كفار. وأتخذ الخليفة مجلسه علي عنقريب ضخم أمام باحة بيته وأمر بإحضار مقاعد للأسرى.
وهرع ديمتري كوكابورس (واسمه الجديد هو الأمير عبد الله ديمتري) وجورج كلامانتوس (واسمه الجديد جابر جرقي الأنصاري) إلي المسجد لرؤية الأسرى الجدد قبل أن يقابلوا الخليفة وذلك لتقديم النصح لهم فيما يتعلق بكيفية الإجابة علي أسئلة الخليفة. وليس من الواضح إن كانا قد استطاعا مقابلة الأسرى أم لا. وعند مقابلتهم للخليفة سألهم إن كانوا يودون أن يطلق سراحهم ليعودوا لوطنهم فأجابوه في إصرار بأنهم ما أتوا إلا للانضمام له وخدمة الدعوة المهدية. وفرح الخليفة بهذا الرد فرحا شديدا وقال لمن حوله: “ألا ترون يا أحبابي. لقد هجرنا اثنان منهم … والآن رزقنا الله بثلاثة”. وكان الخليفة يشير إلي هروب اثنين من الأسري الأوربيين هما جيسبي وبول. ورغم إجابة الأسرى الجدد فلقد أصر الخليفة علي مواصلة الاستجواب فعرض عليهم أن يرسلهم لأوطانهم عن طريق مصوع وكانت تحت سيطرة الإيطاليين. ولكن أصر الأسرى على موقفهم، و قدموا بيعتهم للخليفة فصرفت لهم جبب مرقعة وبعض المال. وذكر نيكولاس أن عرض الخليفة للأسرى بإرسالهم لأوطانهم عبر مصوع كان حيلة بالغة الذكاء لمعرفة إن كان هؤلاء الرجال مجرمين هاربين من عدالة السلطات المصرية التركية. فإن كانوا كذلك فإن الخليفة كان سيقوم بمعاقبتهم بنفسه. وذكر نيكولاس (في ود شديد للخليفة) أن الخليفة لم يكن ليؤوي عنده مجرمين هاربين، فحكمه كان “من أجل أناس يمتازون بالطيبة ويحترمون القانون”. ودعنا هنا نتذكر أن مذكرات نيكولاس كانت قد كتبت بعد “استعادة” السودان في 1898م.
وتبين فيما بعد أن الإغريق الثلاثة كانوا قد أتوا من حلفا، وأنهم رجال أشرار متبطلون قرروا في لحظة طيش أن يسافروا لأمدرمان عندما قال لهم أحدهم (وأسمه ديمتيرو) أنه من معارف الخليفة عندما كان في بربر. ويبدو أن “الخلفاء” تشابهوا عليه فلقد خلط بين الخليفة عبد الله وبين تاجر في بربر يحمل نفس الإسم!
ولم يكن الخليفة عبد الله يرغب في إطلاق سراح أسراه والسماح لهم بالعودة لأوطانهم لأسباب عديدة منها أن وجود أجانب (صاروا “مسلمين وأنصارا”) في أمدرمان يؤكد الانطباع الذي تعطيه المهدية عن نفسها من أنها حركة عالمية لا تحصر نفسها في موضع جغرافي ضيق ولا تخص عرقا أو أعراقا بعينها، وأن وجود الأسرى الأجانب الذين يحسن الخليفة معاملتهم يظهر الخليفة بمظهر الرجل التقي الذي يشفق على رعاياه ويعطف عليهم، ويخص بالمودة الأوربيين الأجانب من “المؤلفة قلوبهم” بحسب مقتضيات الشريعة. وكان الخليفة أيضا يعتقد أن وجود الأسرى الأجانب قد يكون له في المستقبل فائدة ما.
هل كان الخليفة “يحب” أسراه الأجانب كما ذكر نيكولاس غير مرة؟ أكان تصرفه حيالهم من باب التقوى الدينية أم الاعتزاز القبلي أم النخوة و الشهامة أم هي نزعة عملية أم هي دهاء وحكمة سياسية أم أنها نظرة بعيدة ثاقبة؟ يكاد المرء يجزم بأن كل تلك العوامل كانت تصطرع في عقل الخليفة عبد الله وهو يتعامل مع الأسرى. لقد كان الخليفة دوما يشك في إمكانية “نكوص” الأسرى وتعاونهم مع العدو. ففي أحد أيام 1897م استدعى الخليفة عبد الله علي عجل الأسرى الأجانب. وأجلس الخليفة بالقرب منه قاضي الإسلام أحمد علي. كانت تلك دعوة غريبة ويزيد من غرابتها وجود القاضي. ملأ الرعب قلوب الأسرى. و عند مثولهم أمامه قابلهم الخليفة بالتحايا الطيبة وكان ودودا ولطيفا معهم (بأكثر من المعتاد). وبعد ذلك دلف الخليفة إلى سبب الدعوة العاجلة. قوال لهم بأنهم لا بد قد سمعوا بأن دنقلا قد سقطت في يد الأتراك، وهو ينصح الأسرى بعدم محاولة الاتصال بالعدو أو حتى الاتصال مع أقربائهم. ثم عبر لهم عن ثقته في أنهم لم ولن يحاولوا الاتصال بحكومة الكفار، وأنه ينبههم على سبيل الحيطة والحذر أن لا يتورطوا في أمر يعرضهم للمسائلة. ورد جابر كليمانتوس بأن أحدا منهم لم يحاول إرسال أي رسالة لأهله طوال فترة أسرهم. وأسرع الخليفة بالقول: وماذا إن أريتك الآن خطاب سطره واحد منكم لأهله؟ هل لي أن أقطع عنقه؟ وجم الأسري خائفين، وران علي المكان صمت عميق. وأصر الخليفة علي سماع ردهم. أخيرا نطق جابر كليمانتوس بهذه الكلمات:” إن كان الأمر كما قلتم، فإن هذا الرجل رجل أحمق أو مجنون. وبما أن سيدنا قد جمعنا اليوم لتقديم النصح لنا فنرجو منه السماح والغفران… وسنكون كلنا أكثر حذرا وحرصا فيما يقبل من أيام”. سر الخليفة بمقالة جابر وقال له: “هذا ما قلته لنفسي أنا أيضا”، ومضي يحذر الأجانب من التوقيع علي أي مكتوب باللغة العربية. وانتهى اللقاء بشكر الأجانب للخليفة علي تسامحه وعطفه، واتخذ نيكولاس هذا الموقف دليلا آخر علي حب الخليفة لأسراه.
وظل الخليفة يردد القول بأنه: “يحب هؤلاء “المسلمون الجدد” وإلا لكان أمر بحز رقابهم منذ أن علم عدم التزامهم بالشريعة”. وكان يعلم بالطبع أن رجالا في أعمار الأربعين و الخمسين والستين لم يكن ليبدلوا دينهم، ولكن كان هنالك أمل في أطفالهم. وكان يعلم تماما أنهم كانوا يؤدون الصلوات دون وضوء، وكانوا يتعاطون التبغ والمشروبات الكحولية، بل وكان بعضهم منغمسا في الخيانة الزوجية. ولم يكن يهمه كل ذلك، بل كان مبلغ همه أن لا يقوم هؤلاء الأسرى بالاتصال مع أقربائهم خارج البلاد وأن لا يختلطوا مع الأهالي. وكان يريد أن يراهم الناس وهم يرتادون المساجد ويشاهدهم أعدائهم.
كان الخليفة يخشى من أن يكون سلاطين (والذي هرب في أخريات حكم الخليفة) قد اتفق مع بعضا من هؤلاء الأسرى علي تسريب أخبار الأنصار، إذ كانت الشائعات تملأ الأجواء بأن الجيش الفرنسي سيغزو السودان من جهة الكنغو، وأن السنوسي سيأتي من طرابلس، وأن الزبير باشا سيأتي عن طريق دارفور، بيد أن هؤلاء الأسرى كانوا بالفعل يترقبون ويصلون من أجل نجاح الحملة القادمة من دنقلا.
التاريخ يعيد نفسه، نفس السيناريو اليوم بتعيدو داعش.
التاريخ يعيد نفسه، نفس السيناريو اليوم بتعيدو داعش.