نمر.. اخر ملوك شندي (6)

مافعله نمر في شندي.. وخروجه منها بعد حملة الدفتردار الجائرة، وتحركاته في سهل البطانة والمنطقة الشرقية وداخل حدود الحبشة..كانت الصخرة التي سقطت من عل على سطح البحيرة الساكنة فحركت مياهها واتسعت الدوائر حتى شملت المجتمع الدولي والاوربي وحركت الجيوش واطاحت بالرؤوس وعزلت الحكام واشعلت النيران في المنطقة.. ولم يكن موت باشا وخروج زعيم قبيلة ميمماً شطر بلاد النجاشي.. وتوقف السرد واصبح الصباح وتوقفت شهرزاد عن الكلام المباح.. فما هو المسكوت عنه في سيرة المك حتى تظل سجينة(موت باشا.. وخروج مك).
جاء الباشا بنفسه متفقداً املاكه في بلاد الذهب والعبيد، وكانت زيارته للسودان حدثاً كبيراً، فقد كانت زيارة تفقدية بعد ان هدأت العواصف، لكنه سرعان ما خاب امله في جني المزيد من جحافل العبيد وجبال الذهب وحصيد حقول (النيلة) الممتدة على مرمى البصر.. عاد (بفلوسه التي اتى بها من اجل التنمية في السودان، وامتطى ميكافيليته وعاد صوب ام الدنيا).
محمد ود نمر في شندي
بعد مغادرة محمد علي باشا السودان عام 1839.. زار محمد ود نمر دار المك (شندي) خلسة، باحثاً عن الكنوز التي أودعها والده (البكمه).. حفر لها ودفنها حيث يكون العثور عليها دون توجيه صاحبها ضرباً من الخيال، خاصة وهي في منزل (النمر) الذي احتله بشير ود عقيد. كانت الحاجة ماسة للذهب المدفون لشراء الاسلحة والذخيرة التي طلبها الاحباش من الفرنسيين.. لم يعثر محمد ود نمر على شئ بعد أن سطا خورشيد باشا على كل (الدفائن).. ودارت الدائرة على ود عقيد وصارا هو وشقيقه من ضحايا الاتراك وانتهى به الحال من منزل المك الفخيم الى سجن الترك البهيم.
تسربت اخبار وجود محمد ود نمر في شندي الى احمد باشا الحاكم اثناء زيارته دنقلا فقطع جولته وعاد مسرعاً الى شندي للقبض على ابن المك.. وكان ابن الوز عوام، زوده الخروج الاضطراري بصحبة والده من شندي وسنوات التيه في الديار الغربية.. وجعله ذا حنكة ودربة فاستطاع التسلل من شندي بعد قتل نائب الحاكم وقصد درب التيه مرة اخرى ميمماً شطر بلاد الاحباش، قاصداً والده.
رحيل المك
في عام 1844 زار الدكتور ليبسيوس “المتمة”الاثيوبية واكد في كتاباته لقاءه بمحمد ابن المك مساعد هناك.. لعله كان من الناجين من مذبحة (الطريق الى الدندر) الذي لقي فيه والده المك مساعد حتفه مع زمرة من قومه بأيدي الاتراك.
وزار مانسفيلد باركليز المك نمر في عرينه الحصين في الديار الحبشية ووصفه بأنه قد صار رجلاً هرماً وضعت السنون بصماتها على ملامحه وجسده، وكسا الشيب رأسه المثقل بالخطوب وبدأ يفقد بصره.. مما جعل ابنه عمارة يتقدم خطوة نحو قيادة القبيلة التائهة وصار عمارة القائد الفاعل للجماعة اليائسة التي كانت تستحوذ سيرتها وسيرة قائدها المك نمر على اهتمام الناس في بلاد السودان والباب العالي وقصر النجاشي وردهات القصور الاوربية.
في عام 1845 غادر المك نمر هذه الفانية بعد رحلة تابعناها في حلقاتنا الماضية واقتفينا اثر سيرته منذ طفولته التي خدش براءتها الفونج وكبرياؤه الذي أراد اذلاله الترك.. ونيرانه التي أطفأت الحريق في صدره.. وخروجه الكبير الى ديار (المكادا) ومكايدة الاقربين.. والحراك االعسكري والسياسي الذي افرزه هذا الخروج.. ظل هذا الفصل من حياته مثيراً للجدل والخلط في الفهم والتعبير بين كلمتي (خروج) و (هروب) من قال ان المك!؟.. من قال ان المك!؟ و (أنا نمر.. المك وأبوك يا بنونة)ز
عمارة ود المك
نصب عمارة بن المك نمر نفسه ملكاً.. وتحالف مع ملوك الاحباش ضد الاتراك وراح ضحية التصعيد العسكري في المنطقة عدد كبير من الناس خلال تلك المعارك.
في عام 1850 هاجم عمارة مدينة كسلا بقوة عسكرية ضخمة قوامها الاحباش والنمراب.. تعدوها الى تخوم المدينة حيث مضارب الهدندوة.. ساقوهم الى سوق أب سن (القضارف) وهم يرسفون في العبودية والاغلال (وساموهم) هناك.. وتبادل عمارة والحاكم القبطي الياس بك تجارتهم وقدم الياس السلاح والذخيرة مقابل النساء الحبشيات اللائي ضمهن الياس الى “الحريم”.
لقي العديد من اتباع عمارة مصرعهم في معركة “ديرشبا” التي دارت رحاها بين رأس “يوباي” حليف والده السابق والرأس كاسا “ثيودور” الذي صار فيما بعد امبراطور وطاغية قاسياً.. تحالفت الدول الاوربية لاسقاطه حيث لقي مصرعه على قمة (مجدلا) منهياً بذلك حقبة مهمة من التاريخ الاثيوبي.
استطاع عمارة ان يجد مخرجاً من تلك المعركة المشؤومه وانسحب منها بعد ان فقد الكثير من اتباع في ذلك اليوم العصيب.. وكان كاسا يفكر جدياً في اعتقال عمارة وتسليمه للاتراك ولكنه لم يوفق في ذلك.
في عام 1857 واثناء زيارة سعيد باشا للسودان، اصدر عفواً عاماً على كثير من السجناء السياسيين من الجعليين، كما اصدر عفواً خاصاً لكل اسرة المك نمر.. وقبل ان تصل اخبار العفو لعمارة، قام بمهاجمة نقطة جمارك دوكة واستولى على خمسمائة جنيهاسترليني واعلن تبعية دوكة للحبشة.. ترى هل يعيد التاريخ نفسه بعد ان لوح ملك النيل الازرق الاسبق (والوالي الملهم) بتبعية ولايته لتكون واحدة من اعمال الزهرة الجديدة، فالمكايدات يمكن ان تؤدي بوطن بحاله ناهيك عن مدينة او اقليم.
لم يرض الانجليز والفرنسيون على (فعلة) عمارة واعتبروا ذلك عملاً غير شرعي وصنفوا عمارة (خارجاً على القانون) وصدر قرار من الحكومة بخروج الجعليين من مدينة القضارف الى موقع يبعد (40) ميلاً لجهة الغرب.
لم تتوقف هجمات عمارة في المنطقة وتكونت قوة تركية قوامها الفان من الجنود عقدت قيادتها للقائد محمد ود سيد وكلفت بالقضاء على عمارة. عبرت القوة الحدود الاثيوبية وهاجمت عمارة في موقعه الحصين في منطقة (ماي قوبا) واحتلوا القرية واضرموا فيها النار،واستطاع عمارة الهرب بالرغم من جرحه في المعركة.. وشوهد في مارس 1862 بصحبة السير بنجامين بيكر.
بعد ان وصل السير بيكر للخرطوم طلب من الحاكم العام موسى باشا العفو عن عمارة وقوبل طلبه بالرفض.. ولم يراع الموقف السياسي والعسكري الماثلين في المنطقة وازداد توتر العلاقات مع الاحباش وارسل الملك ثيودور للحاكم التركي بالسودان انذاراً مكتوباً لاخلاء القلابات وتسليمها له مع كل المناطق التي انسحب منها من قبل، منها نقاط جمارك الفونج وجلقا التي تقع داخل الحدود الاثيوبية غرب غوندار.
في اكتوبر عام 1862م قاد الحاكم العام موسى باشا حمدي حملة مدججة قاصداً معقل عمارة ولكن عمارة الداهية استطاع مرة اخرى الهرب بالرغم من جرحه الدامي.
حسن ود نمر
مات عمارة في البرية متاثراً بجراحه وقضى الجدري على الحاكم العام في قصره في الخرطوم.
قبل وفاة موسى باشا طلب من تبقى على قيد الحياة من النمراب، العفو عنهم. وسمح الحاكم العام لحسن ود نمر بالذهاب الى القاهرة لمقابلة نائب حاكم مصر. وبعد لقاء ود المك في القاهرة، منح النمراب عفواً عاماً وسمح لهم بالعودة الى (دار جعل) وتوفي في وادي حلفا وهو في طريق عودته الى الخرطوم.. ويدعي النمراب ان حسن ود نمر مات مسموماً نتيجة لحقد قديم وتصفية لحسابات بين والده وال الباشا محمد علي.. وحتى لايتبقى من ذرية نمر من تشرئب الليه الرؤوس قائداً لقبيلة الجعليين.
العودة الى شندي
عاد الى شندي حوالي مائة من اسرة المك واتباعهم واستقروا هناك وبقي من ذريتهم من اختار الحبشة موطناً له.. ومازالوا هناك يعرفون بالنمراب.. وبعد اندلاع الثورة المهدية انضم اليهم في بربر كثير من النمراب.
بعد ان أعاد اللورد كتشنر احتلال السودان، تقدم اليه الاحياء من اسرة المك نمر مطالبين باسترجاع املاكهم في شندي التي صادرها الحاكم العام وتأجل قرار اعادتهم حتى عام 1922م.. واعاد الحاكم الانجليزي المصري ترتيب الادارة الاهلية للجعليين وحرموا من (النظارة) التي تمنح عادة للقبائل الكبيرة التي تملك ارضاً وكثافة سكانية.
خاتمة
سيرة المك نمر تاريخ منسي، نبشناه في محاولة للتعريف بهذه الشخصية المثيرة للجدل التي وضعت بصماتها في تاريخ السودان والمنطقة.. تجاهله (منهج) التاريخ في جميع المراحل الدراسية وجاءت سيرته رواية مبتورة بدأت وانتهت بحريق الباشا وخروج المك.. لا نعشم كثيراً في اعادة قراءة التاريخ وكتابته، لان الذين يتحكرون على (الككر) كأنهم ملوك سنار، يظنون ان التاريخ بدأ بعد تحالف الفونج والعبدلاب.. وفي رواية اخرى بعد يونيو بعد يونيو 1989م وخلاف ذلك يجيب ان يذهب في غياهب التاريخ وذمته (مجروحة الشهادة).
ماورد في هذه المقالات أخذنا معظم المعلومات من المصدر المذكور في المقدمه و (اجتهدنا) لتكملة السيرة العطرة لاخر ملوك شندي من دراسة وبحوث قديمة ونحن نقتفي اثر الملك من خروجه من شندي الى ديار النجاشي.
وحرصنا على إعادة صياغة مامكتوب بالانجليزية لنقدمه الى القارئ بلغة نظن أنها يمكن قبولها غير “معسمه” بغلظة لغة الباحثين من الفرنجة.
إنتهت
أرجو التكرم بنشرها تباعاً
وشكراً
احمد طه (الجنرال)
مستشار تحرير صحيفة الصحافه
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. لعلك تقصد صمويل وايت بيكر وليس بنجامين بيكر، عموما شكرا على هذه السردية فهي على الأقل تتيح الفرصة للمناقشة والتوثيق والتصويب

  2. شكرا علي هذا السرد المهم .
    علي علماء التاريخ والباحثين اعادة كتابة تاريخ السودان لان كثير من الحقائق تم تغيييبها وطمسهاعمدا بواسطة جهات لها مصلحة في ذلك وهذه الحقيقة يعرفها غالبية اهل السودان.
    فترة الحكم المصري للسودان هي فترة استرقاق واستنزاف للموارد لابد ان نعمل في حصر كل اثار الحضارة النوبية التي سرقت من جانب المصريين لاعادتها .
    ولابد من اعادة النظر في جميع الاتفاقيات بين البلدين .
    ولابد من المطالبة باعتذار علني وتعويض الشعب السوداني عن فترة الاستعمار الجائر
    ومن ثم التفكير بمعزل عن الفراعنة لبناء السودان.

  3. سرد ممتع لبطل قومي .سمعت بان هناللك جهود من السيد صلاح ادريس لنقل رفاته لشندي ارجو ان يتحقق ذلك الحلم.

  4. يعني عماره ولد نمر المك الهارب كلما دخل معركه هرب في اخرها وانت تجملها باستطاع ان يجد مخرجا،من شابهه اباه فما ظلم ؛ ياخي رواياتك عن الجعليين كلها تلفيق واكاذيب وتجميل لقبيله صغيره لم تساوي شيئا في الماضي وبدأ تاريخها بتولي البشير واغاني الجعليين التي تبث بانتظام من 25 عاما لتعلي شأن قبيله ما كان لها سوى الخزي والعار وزراعة البصل ، ملوك الفنج والعنج وقبيلة العبدلاب ليسوا في حاجه لمن يكتب لهم ويكفي الذين يحتكرون الكركر انه ولمدة 500 عاما كانت قبيلتك تدفع لهم الجزيه ولان كتاباتك ملفقه فالقبيله الوحيده التي رفضت الاستسلام لاسماعيل باشا في شمال السودان هم العبدلاب وحاربوا حتى اخر قطره من دمهم وكان الجعليين والشايقيه والرباطاب والمريفاب والدناقله والمحس في معية اسماعيل باشا والجعليين لم يستطيعوا حتى حرب الشايقيه لانه حين دبر المك نمر مقتل اسماعيل باشا ورجاله وبعد ان تم ذلك قام المك نمر باخذ رجاله لبربر لقتال الميرفاب والحاميه التركيه الصغيره الموجوده هناك فاستنجد الاتراك بالباشبوزق الشايقيه ( خدم المستعمرين) الذين فكوا حصار بربر وقتلوا خلق كثير من الجعليين وفر المك نمر الى المتمه ( هذا الفرار الاول ) ثم سمع المك نمر بان الدفتردار في طريقه الى المتمه ففر الى البطانه ( هذا الفرار الثاني ) .نساء الجعليين اللاتي تركهن المك نمر من خلفه تم اغتصابهن من عدد كبير من الجنود المصريين والاتراك والمرتزقه في جيش الدفتردار ثم ارسالهن لمصر ليباعوا كسبايا يعني ابناء الجعليين الذين رجعوا من مصر بعد العفو هم نتاج لهذا الاغتصاب . الجعليين الحاليين ماعندهم علاقه بالجعليين القداماء لان جيش التعايشي قتل كل الذكور الجعليين والموجودين حاليا هم بقايا مغاربه وفلاته وغرابه يكونون قبيلة الجعليين .

  5. كنت افضل عندما يتم تناول سيرة احد الشخصيات التاريخية ان ينسب ما قام به من ادوار الى السودان ومقاومة الشعب السودانى للدخلاء والمستعمرين دون ذكر القبائل خاصة اننا نعيش فى زمن كئيب مما يعطى الفرصة لبعض الصعاليك من امثال الى سمى نفسه هيثم للاختباء خلف الكيبورد وشتم القبائل السودانية وطبعا كل اناء بما فيه ينضح ولهذا ليس لدى اى شك فى ان المدعو هيثم لا يعرف لنفسه اصلا ولا فصلا بل قد يكون لا يعلم من اين اتت به امه اصلا ! وكل انسان يعتقد الاخرين مثله بالاضافة لذلك اعتقد انه قد يكون احد الامنجية الذين يقومون بدور مرسوم فى اطار سياسة فرق تسد وذلك بنشر الكراهية والبغضاء بين السودانيين واتمنى على الراكوبة ان لا تساهم فى ذلك وذلك بعدم نشر تفاهة التافهين .وختاما التحية للاستاذ احمد طه على هذه السياحة التاريخبة الرائعة .

  6. البطل الهارب ..!!؟ الذي ترك نساء رعيته لعلوج الترك !!؟.. الجعليين يستحقون زعماء أفضل من هذا (النمير)

  7. ما ذكرت قيم الكرم والشجاعة والشهامة وأخلاق الفروسية في السودان إلا وكانت مقترنة بالجعليين وذلك ما يحق لهم الفخر به، أما المك نمر فهو قد ناقض أخلاق الجعليين وخرج منها بسلوكه، فالغدر مهما كانت الدوافع ليس من أخلاق الجعليين وليس من أخلاق الفروسية التي يتميزون بها:دعوة العدو لوليمة ومن ثم إحراقه، والجبن ليس من أخلاق الجعليين وهو ما تجلى في هروب المك إلى الحبشة، والتهور أيضا ليس من أخلاق الجعليين من حيث الإقدام على فعلة دفعت القبيلة ثمنها غاليا نتيجة لتعرضها لانتقام الدفتردار، لذلك أتمنى أن يعاد النظر في تقييم هذا الرجل ووضعه في مكانه الصحيح من حيث أنه خرج على أخلاق وتقاليد الجعليين وليس تحويله لبطل قومي فأفعاله أبعد ما تكون عن ذلك، والشجاعة هي في إعادة النظر لتاريخه وتسمية الأشياء بمسمياتها الحقيقية وليست محاولة إقناع الأجيال بأن الفيل يطير!

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..