الدرس الذي أوجعني!

الدرس الذي أوجعني!
بقلم: الدكتور نائِل اليعقوبابي
*(لا تقل هذا شيء طبيعي،
كي لا تعوق سيرورة التغيير..).
– برتولت بريخت ?
من كتابه (الاستثناء والقاعدة)
.. كنت فتىً غرّاً، حين قصدت محطّة الميترو الباريسي برفقة صديقتي الفرنسية ذات صباح بارد، مددت يديّ المرتجفتين إلى جيبي وأخرجت بعض ما تبقّى من (الفرنكات) كي أقتني تذكرتين لي ولها كي لا يوصف السوداني بالبخل في آخر قلعة للدفاع عن حاتم طي.
فاجأني مدخل الميترو بأنّ أبوابه مخلوعة – بفعل تظاهرة لأبناء الضواحي وجلهم من أصول مغاربية – ابتسمت في سرّي وقلت لنفسي: «حسناً، سأحتفظ بهذه التذكرة – غير المقطوعة – لمشوار آخر… شكراً للذين جعلوني أقتني وسيلة نقل سريعة من دون ثمن أو مراقبة… شكراً لأبناء العم).
ما راعني أن صديقتي سرعان ما أمسكت التذكرة (التي اقتنيتها لها)، وشطرتها إلى نصفين- علامة على عدم استعمالها بعد الآن- ثم قالت :(هيّا افعل ما فعلته أنا الآن).
* لكنّ الباب مفتوح والرقابة غائبة، لنوفّر ثمن التذكرة إلى رحلة أخرى…!؟.
** أنا لا أقتني تذكرة خوفاً من أعوان المراقبة، بل احتراماً وتقديراً ومكافأة للعاملين والموظفين في هذه الشركة – حتى وإن كانوا غائبين أو مضربين-…. كيف لك أن تتمتّع بخدمة من دون دفع ثمنها…!؟.
أعترف أنّ هذه الحادثة قد غيّرت في نفسي مفاهيم كثيرة، زعزعت في داخلي ما تعلّمته عن الصعلكة، خجلت من استهتاري… وجعلتني أفكّر عميقاً في مفهوم المواطنة…. وأذهب عميقاً في دمي.
كيف يصبح الواحد شريكاً في وطن بطوع إرادته وقناعته، يبنيه ويبنى له من دون خوف من رقابة تردع قبل أن تعاقب.
كيف للواجب أن يستيقظ في غفلة عن كل العيون الساهرة عليه.
لن أحدّث صديقتي عن كل التجاوزات في منطقتنا العربية، ابتداء من انتهاكات قوانين السير والمرور… لن أحدّثها عن خرق الدستور للتمديد لرئيس مطارد دولياً حتى يظل كاتم على أنفاسنا مدى الحياة… لن أحدّثها عن الذين يخافون من جنائية لاهاي أكثر من خوفهم من الله ورسوله… لن أحدّثها عن العهر السياسي والنفاق الاجتماعي ونقد المواثيق والعهود، والكذب المغلف بسلوفان الدين، لن أحدّثها عن الزكاة التي أضحت ركن الإسلام الأول في ظل نظام الشعوذة والذل والدجل، حتى تموت الناس على عتبات دواوينها انتحاراً ومغصاً وكمداً.. لن أحدّثها عن حرق القرى والمدن واغتصاب الحرائر والقتل بدم بارد… لن أحدّثها عن الشيخ الذي يملأ لسانه بالله وتسبيحاته ويملأ تصوراته بالخوف منه ومن جحيمه، ثمّ يملأ أعضائه وشهواته بالكذب والخيانة والفساد والإفساد وأكل السحت الحرام ونهب أموال الشعب، والصغائر وعبادة الأقوياء فهو أكفر من أيِّ زنديق في هذا العالم… لن أقول لها إن هناك في وطني مَنْ يغضب لمنظر امرأة لا ترتدي حجاباً أكثر مما يغضب لمنظر طفل لا يرتدي حذاءً، لن أحدّثها عمن وعدوننا بالجنة ولم يعطونا على الأرض إلاّ جهنم، ووصولاً إلى ما لا يمكن لها أن تتخيّله.
لن أحدّثها عمّن ينظّف بيته ويوسّخ الشارع، لن أخبرها عن التلاعب بعدّادات الماء والكهرباء…. ولن أشرح لها فلسفة: (دبّر حالك).
ولكن… ما الذي جعلنا هكذا يا خير أمّة أخرجت للناس؟ ما الذي جعلنا لا نفرّق بين الدولة الثابتة والحكومة المتحوّلة.. فيمسي المحتجّ مثل ذاك الذي أراد أن ينتقم من خيانة زوجته فخصي نفسه.
ما معنى أن ينتقم السوداني من المرافق العامّة ساعة غضبه من مسؤول أو فاسد أو مرتش.
لماذا غاب الشعور بالجماعة أمام مصالح الفرد ونزعاته الخاصة؟.
لماذا صار راكب السيارة يعتقد أنه الأفضل، فيدوس على دوّاسة البنزين أمام مترجّل يعبر الطريق خائفاً مثل أيّ كائن آخر وضعيف…. ولا ينتمي للوطن.؟!.
لماذا قالت لي صديقتي الفرنسية: اقطع تذكرتك، حتى وإن كانت البوّابة معطّلة وأنت على منأى من رجال المراقبة؟
لماذا تردّدت في فعل ذلك…؟ هل لنقص في الموارد (الجيبيّة)، هل لبخل… أم لثقافة تعتقد أنّ شعرة من (….) الخنزير مكسب، كما تقول أمثلة العامة والمتّكلين على جهود الآخرين…. والمتربّصين للهفوات؟
ما زال سجال المواطنة يطرح ساخناً في منطقتنا العربية، لا لغياب الوعي وحده والإحساس بالمسؤولية، بل لخلل يحدّد هوية الملكيات، فيعتقد الواحد منّا أنّ حاوية القمامة لا تخصّه وأنّ الطريق العام لا يخصّه وأنّ عدّادات الماء والكهرباء والهاتف كائنات غريبة تنهش جيبه وتتربّص براتبه.
ما زال هناك خلل واضح بين الملكية العامة والملكية الخاصة نتيجة غياب الثقة بين الفرد والمجموعة… وهكذا يسرق المواطن السوداني من جيبه بتلذذ ومتعة من دون أن يدري.
ابتهجت حين بادر بعض الشباب التونسي أبان احتجاجاتهم إلى تنظيف ساحات اعتصامهم أثناء غياب عمّال التنظيف وسيّر بعضهم حركة المرور، حموا المرافق العامّة عند اختفاء رجال الأمن… وحين أحسّوا أنّ بلادهم تخصّهم وحدهم من دون غيرهم.
أقدم الزنوج في ثورتهم على حرق البصرة حين استقدمهم الخليفة العباسي لتجفيف مستنقعاتها، والعمل فيها من دون مقابل…. لأن البصرة لم تكن تعنيهم… ولأنّ العبد ليس له وطن…..
هكذا تسوغ العدالة وتغفر لأبنائها في ساعات الظلم أو القصاص، هكذا يعرف السوداني – بالغريزة- ويفرّق بين من سرقه ومن لم يسرقه…. فيعطى ما لقيصر لقيصر… وما لله لله.
بادرت إلى شطر تذكرتي إلى نصفين، وضعتها في جيبي حين نظرت إلى الأرصفة النظيفة، فأردت أن أكافئ عمّال التنظيف في غيابهم.
كدت أقول لصديقتي بعد تفكير طويل: (أوقفي هذا الميترو، أريد أن أنزل)… على غرار مَنْ قال: (أوقفوا هذا العالم، أريد أن أنزل).
[email][email protected][/email]
استاذي وصديقي الجميل دكتور نائل لروعة حضورك روح تعطر الكلمات وتمدها بالروعة والتواصل لذا نفتقدك حينما تتأخر بتواجدك لأنك علمتنا التواصل في الإبداع.
تبقى مفرداتك ماساً خام حتى تصقلها بأناملك لتكون تحفة نادرة فلك كل التقدير والاحترام.. يا أخي نائل
جميل ورائع يا نائل اليعقوبابي محبتي لك ولسمو إبداعك.
دعائي وتمنياتي لكم بالتوفيق.
برافوووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووو
واللهِ لم أقابل أحداً مهتماً بالثقافة، إلاّ دللته على د.نائل -الكاتب الاستثنائي- ذلك أنك لا تنتهي من كؤوسه الروحية المترعة إلا ودمعتين على خدك أو فكرة تثقب قلبك ووجدانك معاً..
نرجو منك أيها الألق المتجدد، يا ابن سنار الحضارة والتاريخ والشموخ، سليل رايات العز والكبرياء والصوفية حفيد السادة الأصلاء اليعقوباب.. الجعلي الفحل زميل الغربة والأيام الجميل أن تكتب لنا عن تجربتك وخبرتك التي أمتدت إلى ثلاث عقود ونيف حتى يتعرف عليها أبناء السودان من طالبي العلم والثقافة ، وأنتَ مشهود لك بذلك.
الدكتور نائل اليعقوبابي… مبدعٌ مثلك لا يحتاج إلى كلام مثلي (ولكن ما بداخلي هو) دمت مبدعاً كبيراً.
ولا أروع دمت بخير وبهجة