كيف تفرق بين الحق والباطل (6) المألوفات والفذلكات الإجتماعية..

مهما يتطور الإنسان ويحاول أن يصل للحقيقة مباشرة، لن يستطيع لأنه تبقى لديه عقدة ما يألف التي قد تدفعه للحياد عن الحق. وهذه العقدة تنحدر منها ما نسميه بالعادات والتقاليد.
فمن عادة الناس أنهم إذا سمعوا بأمر مخالف لما ألفوه أسرعوا بتكذيبه أو إنكاره ونعته بغير المعقول. ولكن ما يكاد يألفونه ويعتادون عليه حتى يصبح معقولا في نظرهم أو من المسلمات. وهو ما يمكن أن نسميه بنظرية المألوف وغير المألوف.
خذ على سبيل مثال المألوف من الإكتشافات. والأشهر هو كروية الأرض الذي عارضه رجال الدين والعامة من ورائهم. فهم إتبعوا المعلومة المألوفة لديهم. وخذ مثالا آخر بالمخترعات. فقد قال الناس قديما على إختراع التلغراف: كيف يدق إنسان على حديدة يسمعها الآخر على مسافة تقطع بظهور الإبل عدة أيام؛ إن هذا رجس من عمل الشيطان والعياذ بالله!.
والأخطر في هذا الأمر، المألوفات التي تتحول لعادات وتقاليد، منها على سبيل المثال لا الحصر: عادات الحركات الإسلامية والجماعات الطائفية والمذهبية التي يحورها البعض إلى مسلمات دينية. ومن العادات الإجتماعية: موضوع التفاخر القبلي والبذخي -البوبار- في الأفراح والمناسبات والتقليعات الغريبة التي نراها كل يوم والناس ترفل في الفقر.
إن ما يستند عليه الناس من حقائق لبرهنة ما يعتقدون في الغالب مألوفات إعتاد الناس عليها واتفقوا على صحتها. والخطير هو ما يظنون أنها حقائق وهي في حقيقة أمرها ليست كذلك وليس حق صحيح. وستجدهم يستشهدون بأن الله اعطانا العقل فكيف لا ندرك هذه الحقيقة الصحيحة. وفي سبيل هذا المألوف الخاطئ تجد العديد من الأشخاص يثبتون على ما عليه ويجاهدون بالنفس والمال لإحقاق الباطل.
إن العالم من حولنا ملئ بأمور كثيرة غير مألوفة، ولكن لإعتيادنا على رؤيتها صارت لدينا مألوفة. فالبذرة الصغيرة يمكن أن تنمو منها شجرة كبيرة وارفة الظلال. ولكن إذا جئنا بإنسان لا يعرف هذه المعلومة ولم يألف الأشجار في حياته لأنكر وأصر على إنه أمر غير معقول.
وهذا يؤكد ما ذكرنا بدوام الإنسان للسعي لمعرفة الحقيقة بالمنطق العلمي العقلي وليس المنطق العقلاني الثابت الذي يفشل في إدراكها. لابد من الإستمرار في البحث وكما يقول تعالى: ((وفوق كل ذي علم عليم)) [يوسف: 76]، ((وما اوتيتم من العلم إلا قليلا)) [الإسراء: 85].
قصة طريفة..
يحكي احدهم ان جده عندما سمع بأن العلماء تمكنوا من صنع عربة تطير في الهواء، إستنكر هذا الأمر إستنكارا شديدا ولم يصدق. ولكي يثبت لهم عدم صحة ما يدعون لجأ إلى نظرية المألوف وغير المألوف. فسألهم: من أي شئ مصنوعة؟، قالوا: من الخشب والحديد. ولحسن حظه كانت هناك مطرقة أمامه، فقام بأخذها وقذفها في الهواء، فسقطت. وكررها لهم، وسألهم: هل هذه المطرقة المصنوعة من الحديد والخشب طارت في الهواء، فأجبوا جميعا: لا. فقال لهم: كيف تصدقون شيئا مصنوع من حديد وخشب يمكنه أن يطير في الهواء. فوافقوا جميعا على صحة رأيه وأعتبروا خبر الطائرة مستحيلا.
ولكن لم تمضي عليهم بضع سنوات حتى رأوا تلك المصنوعة من الخشب والحديد تطير في جو السماء وتقذفهم بالقنابل أيضا.
إننا لا يمكننا أن نلوم ذاك الرجل وإستخدامه المنطق المألوف. ولكن علينا أن نلوم أنفسنا ونحن نعيش في هذا الزمان. فعلينا أن لا نعيش بعقليات السلف القديمة وتمنى العيش مثلهم، فتلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولنا ما سنكسب. المهم أن نكون جادين في عصرنا ونتحري الحقيقة أينما هي حتى نستطيع التفرقة بين الحق والباطل في كل الأزمنة.
إحذر الفذلكات الإجتماعية..
الحق لا يمكن أن يعرف بالإنطباع المسبق أو المألوف، أو ما يتعارف عليه الناس بأنه حقيقة. المجتمعات قديما إعتادت على أخذ إنطباعات على الأشخاص من االشكل الخارجي بحسب ما يشاع من مألوفات. فذاك الإنسان قبيح الخلق مثلا لأنه دميم الوجه. وقد يساعد المجتمع في نشر هذه الثقافة ويثبتها سيما إن أتبع متعلميهم جهل المجتمع. فالرازي مثلا لديه كتاب يدعي فيه أن شكل الإنسان الظاهر يدل على أخلاقه الباطنة بحسب ما كان متعارف عليه من عاداتهم الإجتماعية. فيقول فيه، على سبيل المثال: إن شديد إستدارة الوجه هو جاهل ونفسه حقيرة، وهذا الدليل مأخوذ من القرد. وكذلك صغير الوجه لشبهه بالنسناس. ومن كان أنفه مقوسا من إبتداء الوجه فهو وقح والدليل الغراب، وهكذا.
وهذه الأقوال موجودة في علم الفراسة القديم. وقد يكون ما ذكروه صحيحا بعض الشئ واغلبه ينطبق على الفقراء. فالأغنياء المترفين عادة يكونون اكثر وسامة ونظافة من الفقراء وذلك لانهم يختارون زوجاتهم من ذوات الحسن والجمال ويتركون القبيحات، وهذا الذي حسن شكل وجوههم على مرور الزمن. واضف لذلك التغذية الجيدة والعلاج السريع من الأمراض قبل ان تنقلب إلى عاهات. و إن حوجة الفقراء للمال وسد رمق جوعهم تضطرهم في بعض الأحيان لإنتزاع حقوقهم بالقوة، فينعتوا بالمجرمين وعديمي الأخلاق.
وكل هذا يشابه ما إنتشر في مجتمعنا بالفذلكات الفكاهية إلى نعت القبائل بصفات بعينها، وإن كان على سبيل الدعابة. فالشخص من تلك القبيلة معناه بخيل وحريص، أو من تلك فهو أحمق ومتهور. والأدهى والأمر هو التقليل من شأن البعض بالعرق القبلي. وتحولت هذه الفذلكات إلى نكات يتضاحك بها الناس على بعض.
والله تعالى يقول: ((يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون)) [الحجرات: 11].
وعموما فإن الأحكام المسبقة على الناس بالأشكال والقبيلة، دلالة عن عدم الجدية وسطحية للناس في التفريق بين الحق والباطل.
* الحلقة: كيف تفرق بين الحق والباطل (7) دروس التاريخ، والطغاة كنموذج..
الإثنين إن شاء الله.
[email][email protected][/email]
جميل والله ..