قراءة أولى في رواية (البقعة)

قراءة أولى في رواية البقعة ( ب )
للروائي “الحسن محمد سعيد”

و أنا أعبر بوابة الفصل الثامن إلتقيتُ ب “الخضر ود حمد” في قلب أم درمان وقد إستعاد وضعه التجاري السابق إبان مجد المهدية ، بل فاقه بأن أصبح صاحب وكالة ضخمة لإستيراد السكر و السيجار و تصدير الصمغ و الجلود ، مدعوماً من “ود الحسين” بإيعاذ من مكتب السكرتير الإداري !!!!….
ظل الحوار بين “ود الحسين”و “ود حمد” يدور حول ما هو الأنفع للناس الجامع أو المدرسة و هل الأجدى لحفيده “أنور” أن يعاونه في تجارته أم ينخرط في سلك التعليم لينفع بني جلدته بعلمه !؟
* * *
حينما أبلغ “ود الحسين” “الخضر ود حمد” بصدور العفو العام عن “الشيخ الناير” ، كاد أن يطير من الفرح ، بينما ظل حفيده “أنور” يناطح في ناظر المدرسة الوسطى التي عين بها حول وجهتي النظر المتباينة بين التقليد و التحديث ( ليس كل ما أتى به الإنجليز شر ) !!!!؟….
كان “أنور” يولي الأنشطة المدرسية إهتماماً بالغاً يتعارض مع توجهات الناظر الذي يرى فيها مضيعة لوقت الطلاب فيما لا يفيد ؛؛؛؛
و مع مرور الزمن أحدث “أنور” بفكره المستنير تغييراً إيجابياً في مفردات المدرسة بما في ذلك شخصية الناظر المتعنتة !!!؟؟…
* * *
إحتفل “الخضر ود حمد” بقدوم
شقيق الهوى و المرام ، أيما إحتفاء ،
أرسل له سيارته (الفورد) الفخيمة في معية حفيده “أنور” و خادمه “مجوكل” و سائقه الخاص لإستقباله في محطة السكة الحديد بالخرطوم ..
سعد “الشيخ الناير” بحفاوة الإستقبال ، و لكنه و السيارة (الفورد) تنساب صوب (البقعة) دخل في حال من التوجس ( ما هذا التغيير الذي طرأ علي معالم الخرطوم ، أصنام منصوبة في قلب الشوارع الرئيسية، قال عنها حفيد “ود حمد” إنها تماثيل للقادة البريطانيين (غردون و كتشنر و و ..)
أذهله إنقلاب الأحوال ، لا سيما حينما عبروا كوبري النيل الأبيض حيث حي الملازمين ، و فرقة القرب الموسيقية تصدح بأنغام صاخبة ، كأن القادم فارس و ليس طريد الأنجليز العائد من منفاه !!؟…
كان لقاءً عاطفياً حاراً بين توأم الروح ، فرقت بينهما الأعاصير ، مما أثار حفيظة “أنور” و جعله يتوجس خيفة من تعارض أفكاره المستنيرة مع قناعات هذا الشيخ العائد الى (البقعة) عودة الظافرين !!!؟….
* * *
إقامة “ود حمد” في حي الملازمين في بيته الجديد ، أعادت “الشيخ الناير” مجدداً الى ذات المكان الذي أمات ضميره غسراً وهو لا يجرؤ على نجدة فارس المهدية “الزاكي طمل” من غياهب سجن الساير خوفاً و تجنباً لمخالفة سيده الخليفة التعايشي …
ما أتعسه و زاد من غبنه إجباره على إتخاذ موقف الضعفاء فاقدي الضمير
الوضعاء ، و ها هو إبنه من الزانداوية “جوزيف” يلقنه درساً في المعاملة الإنسانية للبشر بموقفه الصارم بعدم غفرانه له لإتخاذ أمه مجرد جارية ، بل وعاء للمتعة على الرغم من إقترانه بها ، لكنه لم يجعلها سكناً له كما حثه القرآن على ذلك ، و لهذا قال لأبيه (لن أذهب بإختياري إلى أرض أُمتهنتْ فيها إنسانية أمي) و كذلك لم يغفر لك يا “ود حمد” إسترقاق أمه !!!؟….
* * *
ثمة ما يحسب للروائي الحسن أن ُ يُحكي عن واقعة معينة مرتين ، مرة بضمير الغائب و مرة أخرى بضمير الأنا، فتختلف الروايتان وفقاً لمزاج السارد ، بينما يصغي “ود حمد” الى ما يرويه شيخه “الناير” ، و الشيخ يتجلى ويتفنن في سرد التفاصيل
و كلا الشخصين يجيد دوره ، الأول
يستمتع بغواية فن الحكي و الثاني يستكين لهواية براعة الإصغاء !!!…
* * *
و لما كانت دلالة إسم “أنور” توحي بالإستنارة ، أعدته الظروف المحيطة به للقيام بتنوير الناس و إرشادهم الى صلاحهم و صلاح وطنهم ، فظل مسكوناً بنقل مفهوم الحكم الرشيد من خلال الفكر الغربي الى أهله عبر مقالات ينشرها في جريدة السودان ، مستشهداً ب (جون لوك و جان جاك روسو) و غيرهما من فلاسفة الغرب ، مما أثار حفيظة بعض المثقفين الذين تصدوا له ، و أتهموه بالعمالة للغرب المسيحي، من خلال تمجيده للعقد الإجتماعي ل (جان جاك روسو) الذي يتمثل في أنصع صوره بالإسلام عبر (البيعة) !!!؟….
كأني بالروائي يريد أن يرفد التيار الذي ينادي بأن يستوفي الوطن نصيبه من منجزات العصر و ينهض من وهدته من مفردة إستعمار التي لا تعني الإحتلال بل التعمير و تطوير مرافق الدولة و كأني به ثانية يطرح هذا السؤال :-
(ماذا كان سيكون مصير السودان لو إستمر النظام المهدوي يحكم البلاد ؟)
* * *
من جديد يصطدم “أنور” بالشيخ “الناير”
حينما رُشح لمنحة ، للدراسة في بريطانية ، بتخويف جده من ذهاب حفيده الى بلاد الكفر ، حيث النساء كاسيات عاريات و غير مختونات ، فضلاً عن أن حفيدك “أنور” (يا “ود حمد” أكثر ميلاً لحياة الخواجات ، ألا تخاف عليه أن يخرج من الملة) !!!؟….
حديث “الشيخ الناير” أصاب “ود حمد” في مقتل ، لذلك أصر ممانعاً على عدم سفر حفيده الى إنجلترا مبتعثاً لمنحة دراسية ، تزيد من علمه و ترفع من مقامه ….
لكن “أنور” كافح كفاح المستميت لإقناع جده ، مستعيناً بشتى الأطراف التي لها دالة عليه ، أمثال “ود الحسين” و أمه “سلمى” و غيرهما ، منتصراً بذلك على “الشيخ الناير” و أفكاره التي تجاوزها العصر !!!؟….
* * *
منذ الوهلة الأولى كعادة السودانيين حينما يجمع بينهم حيز ضيق كقمرة قطار ، يختلفون ويتصادمون و ربما يشتبكون بالأيدي ، ثم لا يمضي طويل وقت حتى يصيروا سمناً على عسل ، فينفتح بينهم هويس الحوار دون تحفظ ، فيتكاشفون ، كل يحكي عن مقصده و همومه و احلامه و مواجعه و المسؤوليات الملقاة على عاتقه و ما شابه ؛؛؛؛
و هكذا يظل الروائي يعكس صور حقيقية عن طبيعة السودانيين النبيلة و علاقاتهم ببعض و الغريب ، ليقول أن العنصر البشري في هذا الوطن المتشاسع لا ينقصه سوى الحكم الرشيد ليعلو مقامه فوق الأمم !!!؟…

فيصل مصطفى
[email][email protected][/email]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..