حلّة البطاطس المحترِقة

كان عصام , يتابع بدهشة طفولية , أعمدة دخان سيجارته , وهي تصّاعد في خطوط عمودية نحو الأٌفق , ثم تتلوى في حركات حلزونية راقصة لتختفي تدريجياً في فضاء شرفته المطلة على الشارع . كان يقارن ذلك بواقع حاله وأفكاره التي سرعان ما تذروها الرياح كلما شرع في تنفيذها على أرض الواقع . كانت سيجارته في رمقها الأخير عندما همّ بإشعال الأُخرى , مؤمناً بأن إشعال سيجارة إثر أُخرى سوف يدعم بنات افكاره التي كان يقطع تسلسلها رنين الهاتف من وقت الى آخر . في سره يصب جام غضبه على الهاتف ؛ هذه الآلة التي لا تحمل في طياتها سوى ? الهوا ? . ولا ينسى تفريغ ما تبقى في جعبته من لعنات الى صندوق البريد الذي لا يأتي الا بالفواتير , في بلد يأخذ بشماله ما يعطيك إياه بيمينه بكل ظرف ولطف . مع نفسه يدندن : يا زمن وقف شويه واهدي لي لحظات هنية . يردد هذا المقطع عدة مرات ، مرسلاً نظراته الملتاعة , الى ساعته الحائطية , التي تتلاقى عقاربها لدرجة الالتحام , ثم ما تلبث أن تفترق , لتنفرج زاويتها شيئاً فشيئاً كأنها تسخر منه ضاحكة , دون أن تستجيب لنداءاته المستحيلة . كان المقطع , يخرج من دواخله بحشرجة تثير الشفقة ، ومن أعماقه يضحك على صوته الأجش , وترجع به الذاكرة الى سني المرحلة الإبتدائية , عندما تقيأ يوماً خجله , وتطوع بكل حماس بتلحين نشيد إسماعيل والقط وما لاقاه من زملاء صفه من موجة ضحك وسخرية ، وأخيراً , حكم الإعدام الذي اصدره مدرس اللغة العريبة : صوتك يا عصام يذكرني , بطاحونة قريتي . انصحك بعدم تكرار هذه المهزلة !!
( يا زول أمريكا دي إما بزنس إما دراسة !! ) ? عبارة , طالما سمعها مراراً وتكراراً . بعد كل جلسة نقاش مع الأصدقاء ، فآمن بها إيماناً مطلقاً وأضحت شعاراً , يحمله بين ظهرانيه , اينما حلّ . لكن أنىَ له بالبزنس أو الدراسة , مع التزاماته المادية تجاه أهله , و? طائشة الضفائر ? التي تنتظره منذ سنوات لإقتحام القفص الذهبي ؟ . كانت المعادلة صعبة , وجد حلها أخيراً بعد اقتناعه بنظرية , خاله ? ابو شنب ? . فأرسل له من ? دم قلبه ? آلاف الدولارات , لشراء سيارة ? أمجاد ? , علها تغنيه , عن التحويل الشهري . وقبل أن يلتقط عصام أنفاسه , ويتنفس الصعداء , تتوالى عليه الإتصالات الهاتفية من السودان , تخطره مرة , بهروب السائق بالايراد الشهري , ومرة بعطب السيارة , والحاجة الفورية الى قطع غيار , وأخيراً وليس آخر استشهاد أمجاد في حادث حركة مروّع , أرسلها ? مأسوفاً عليها ? الى زريبة الحلبي بأُمدرمان !! . وقبل أن يفيق عصام من صدمته تتوسع دائرة الطلبات و تأخذ طابعاً آخر هذه المرة , حينما يطالب , بمضاعفة ما كان يرسله بحجة انهيار الجنيه السوداني أمام الدولار الامريكي !!! وتنقضي خمس سنوات حسوما بدون بزنس أو دراسة أو ? بطيخ ? , بل تنقلات ?مكوكية ? من شركة الى أُخرى , وتساؤلاتٍ متكررةٍ , من الأُم : متى تعود يا عصام للزواج ؟ اريد أن افرح بك , قبل أن اموت !!
تساؤلات صعبة , يبحث عن اجاباتها , في لفافات السيجاير , فلا يجدها الا دخاناً يتلاشى في فضاء الحيرة والضياع . رائحة حريق , تنبعث من داخل المطبخ , تعقبها صافرة انذار , يقفز على إثرها عصام , من مقعده كالملدوغ , ويندفع كالقذيفة نحو الموقد , ليجد ? حلة البطاطس ? قد احترقت قبل أن تنضج أفكاره المشتتة.
[email][email protected][/email]