توقيعات المعارضة السودانية مع نفسها ومراجعات المفكر حيدر إبراهيم

تمخض الملتقى السياسي الوطني السوداني المعارض، الذي انعقد في العاصمة الألمانية برلين، وتحت رعاية الأخيرة بالاشتراك مع قوى دولية أخرى ضمن خطة دولية لمساعدة مجهودات الرئيس ثابومبيكي، قصد ترتيب وتنظيم وضبط إدارة تقاطعات المجتمع السياسي السوداني في قواه المختلفة، لفائدة صناعة السلام السوداني المعقد في جميع أبوابه وفصوله ومباحثه ومطالبه وفقراته التفصيلية، إلى إعلان جديد آخر، نعت بـ»إعلان برلين»، شاركت في توقيعه القوى الوطنية المكونة «لنداء السودان» التي تمضي نحو امتلاك المشروعية الوطنية، كممثل شرعي ووحيد للشعب السوداني، وسحب البساط من شرعنة القوة ومذهب الخداع الذي يدير به الرئيس السوداني البلاد من دون أدنى قيمة إنسانية.
وبالرجوع إلى «إعلان برلين» أو قل الجديد فيه، أولا أنه حدد آلية لاسترداد الدولة السودانية عبر الطريق إلى «الانتفاضة» الشعبية، ومن دون إشارة، عمليا عمل على تجميد فاعلية القوى المسلحة، بل تجريدها رمزيا من دورها في الفعل السياسي وقوتها المعارضة المؤثرة. وبالعودة إلى الانتفاضة والقياس عليها، بناء على أرشيف التاريخ السياسي السوداني، يعني إحلال نظام محل نظام آخر فقط.
قد تختلف المواصفات والمعايير والبنية عما سبق، ولكن حتما لا تخرج من العباءة المركزية للتسلط السوداني، ومن ثم قد نشهد تدويرا للتاريخ، أي عودة ذات اللافتات القديمة بأخرى جديدة، كالافتات التي آثرت سقوط نظام مايو جعفر نميري عام 1983، وقد نرى بعد ذلك تصفية آثار يونيو، على غرار تصفية آثار مايو، ومحاكمة صورية «لليونيويين» مثل رصفائهم «المايويين»، من دون تغيير جذري في البلاد، رغم أن هناك نظاما ديمقراطيا حاكما وقتئذ، وكانت ديمقراطية مسطرية لم تكن صلبة ولا ناضجة ولا متماسكة، بسبب الالتفاف الإسلاموي عليها مبكرا، لخطفها حتى تم وأدها، في مشهد مشابه لما يجري في دول الربيع العربي اليوم، والسبب في ذلك يعود إلى الطريق المعبدة التي أنشأها رئيس الحكومة الانتقالية الجنرال سوار الذهب لفائدة الجبهة الإسلامية، التي كان يتزعمها آنذاك الترابي، فالجنرال سوار الدهب المعروف في الإعلام العربي بأنه من الرؤساء الذين سلموا السلطة للمدنيين الديمقراطيين، إلا أنه في الحقيقة سلمه للإسلامويين مدنيين وعسكريين، وتداعيات هذه الخطيئة الوطنية ماثلة في ورطة الدولة والشعب السوداني، حتى يومنا هذا. هكذا نلحظ أن الإعلان رغم أداته الواقعة حقا، على سبيل الحصر، أغفل الحديث عن «ثورة جماهيرية» سودانية، حتى تمنع التحول الجذري واستعاضته بعملية استبدال وإحلال، أي بمعنى تغيير الشخوص، عوض ثورة ذات دلالة، بمعنى تغيير البنى الفوقية والتحتية، ومن ثم يتقدم الشعب لاستلام السلطة وصياغة أوضاعه السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولا يمكن وقوع ذلك إلا بتغيير بنيوي في بنية مؤسسة السلطة والتمركز والامتثال لقانون توازن القوى الاجتماعي الجديد في البلاد، هذا من دون أن ننسى أن هذه الأداة الحصرية تقابلها أسئلة ملحة مثل، من يمتلك مفتاح الانتفاضة الشعبية السودانية؟ وما مدى تجاوب الشعب السوداني معها؟ وهل الانتفاضة هي مادة خام جاهزة الاستعمال يمكن التلويح بها واستعمالها في أي لحظة في وجه حكم البشير؟ إلى ذلك، هل بعد توقيع «إعلان برلين» لو وجهت قياداته نداء وطنيا للشعب السوداني بتدشين الانتفاضة، هل سوف تخرج الجماهير السودانية وتكتظ في الشوارع، أم أن الأمر معقد وأن تغييرا كبيرا أصاب بنية المجتمع السوداني وتغيرت ولاءاته ومفاهميه وارتباطاته، مما يستدعي توليد الابتكارات والاختراقات التي تُمكن الشعب من استرداد دولته والتحكم في مصيره ومستقبله، الذي وضعته سلطات البشير التدميرية ضمن المبني للمجهول، حتى لا يعرف للمعلوم اتجاه؟ قصدنا بهذه الأسئلة المفتاحية إخراج «الانتفاضة» كفعل عام وطني من دائرة الخطاب السياسي واشتغالات القوى السياسية عليه، إلى دائرة الفعل المادي على الأرض للاختبار والتحديد لمعرفة مكامن القوة والضعف، لأن هناك قولا يرى أن الحالة السودانية تحتاج لوسائل أخرى أكثر تقدما، وأن الخرطوم لا تغيير فيها إلا عبر الوسائل الأفريقية المعروفة، وليست الوسائل العربية كما يشير الدكتور محمد جلال، وأن التخوفات المطروحة ليس لها مبرر ولا تسندها حقائق موضوعية بل هي تكهنات لا أكثر.
وعلى الصعيد ذاته دعوني أقدم توصيفة المفكر السوداني حيدر إبراهيم في مقالته المهمة إن لم تكن المفصلية في التاريخ السياسي، التي جاءت بعنوان « المعارضة السودانية بين العقلانية والخرافة» والتي يتساءل فيها?» يقبع ثلاثة من قيادات المعارضة التي وقعت النداء- في إشارة إلى نداء السودان، في السجون ولم تخرج مظاهرة من 50 شخصا وتطالب بإطلاق سراحهم، فالمعتقل الأول فاروق أبوعيسى هو رئيس قوى الإجماع الوطني، فأين هي الأحزاب التي يرأسها؟ ويمضي متسائلا، وأين القوى السياسية التي وقعت النداء، ألا يستطيع حزب واحد (?..) أن يخرج 20 محتجا من لجنته التنفيذية أو مكتبه السياسي؟ ألا تستطيع واحدة من منظمات كونفدرالية المجتمع المدني إخراج 30 شخصا من جمعيتها العمومية إلى الشارع للدفاع عن رئيسها؟ يقول في رصده وتحليله لهذه الوقائع، «اخشى ان أبدأ بالقول إننا أمام مجتمع فاشل وليس دولة فاشلة?».
متابعا في فقرة أخرى، هذا ليس موضوعي وهمي الأساسي، فهذا النظام يعرف ماذا يفعل وماذا يريد؟ ولكن السؤال كيف تعامل المعارضون والرافضون مع هذا الفجور واستباحة الوطن تماما من قبل هذه الطغمة طوال ربع قرن?.. إن أي تحد عظيم أو خطير يجب أن تقابله ردة فعل تجاهه من طبيعته وطريقته نفسها، لذلك فالنظام العنيف والشرس لابد أن تواجهه مقاومة عنيفة مثله وأكثر.. وأن خضوعنا لهذا النظام لأكثر من 25 عاما عار مقيم يدين السودانيين، أحزابا وقوى سياسية ومجتمعا مدنيا ونخبة.. والمشكلة في أن السودانيين لا يقبلون النقد من الآخر.
وفي الوقت نفسه لا ينقدون ذاتهم?. إلخ، داعيا في الأخير إلى تقييم جديد لعمل المعارضة السودانية بأنواعها، وفي كياناتها المختلفة، على ضوء أسئلة التاريخ، لأنه يقود بالتأكيد إلى النقد والنقد الذاتي، وهو مخرج الخلاص الوطني، إن أراد السودانيون استئصال الديكتاتورية، حيث الخيار المقابل لها هو الاستسلام إليها.
أما الجديد الثاني الأكثر أهمية في ملتقى برلين فهو مقترح إعادة هيكلة المعارضة السودانية، في خطوة شاملة لتوحيد المعارضة وتنظيم العمل في إطار مؤسسي يخضع لضوابط ونظم لفاعلية ودينامكية أكثر، هذه الهيكلة في عنوانها العام أمر مطلوب، ولكن تبقى إشكاليات التفاصيل، حيث يلحظ أن هناك مساعي لرسم سياسي مغاير لهذه الهيكلة أو انحرافا عبر أطراف وتحالفات بين قوى وأجنحة في قوى أخرى، قد تكون الأيديولوجيا ليست حاضرة، ولكن مصالحها الإستراتيجية متقاربة في تضاريس اللعبة السياسية القائمة في البلاد، وبالتالي مثل محاولات كهذه قد ترمي في النهاية إلى إعادة تأهيل ذات القوى بإعادة إنتاج جديدة، وهذا معناه استبعاد مكونات قوى التحول الثوري العسكري، الذي هو تحول تاريخي ثقافي اجتماعي من سيرورة المرحلة القائمة، بالمفاهيم نفسها التي تم لفظــــها، ومن أجلها قدمت الكثير في ساحة النضال الوطني، وبالتالي نعتقد أن هيكلة المعارضة السودانية بالضرورة يجب أن تستجيب وتتلاءم مع خريطة الحراك الثوري السوداني، وهذا يضع استحقاقات وطنية مهمةُ وقد تكون مُرة على جميع القوى المكونة لنداء السودان، علما بأن أدبيات التاريخ السياسي السوداني المعارض يفيدنا بمحايذه إن كان في تجربة الجبهة الوطنية في سبعينيات القرن الماضي، أو تجربة التجمع الوطني الديمقراطي في تسعينيات القرن الماضي، كلتاهما أفرزتا جراء خلل عدم ملاءمة الهيكلة لمعطيات ومتطلبات المجال السياسي إلى تسويات ثنائية مع الديكتاتوريات ولو بشروط أقل من المطــــلوب، وهو محل التخوف الذي يجب أن تنتبه إليه قوى المعارضة مجتمعة.
كاتب سوداني مقيم في لندن
“القدس العربي”