فصل الأخلاق عن الدين و السياسة (1)…

انما الأمم الأخلاق ما بقيت…
فان هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا…

ان التردي السياسي و الاقتصادي و الثقافي في الساحة السودانية قد فاقم من خطورته و عمق من أزمتنا و جعل حل هذه الاشكالات مستعصيا هو ذلك التردي الأخلاقي المصاحب علي مستوي الفرد السوداني و الذي يكاد يطغي علي كل هذه الأشياء مجتمعة تماما. علي هذا الأساس فان أي مشروع تغيير سياسي قادم لا يستصحب أهمية أو عملية اعادة تأهيل الفرد السوداني أخلاقيا و تغييره بالضرورة يعتبر مشروع ناقص أو فاشل تماما و لا يمكن المراهنة عليه في الأمد البعيد.
المصيبة الكبري انه عندما نتكلم عن الأخلاق يتبادر الي أزهان الكثيرين من بيننا مفهوم المخالفات الدينية و اعتبارها عملا لا أخلاقيا مما يجعلنا في حاجة الي اعادة تعريف الأخلاق من جديد و الفصل بين مفهوم القيم الأخلاقية الانسانية المجردة و منظومة المعتقدات الدينية و محرماتها. كما أنه لا يوجد تعارض أو تنافس بين المفهومين لأن الأديان جميعها أقرت بالنظم الأخلاقية الانسانية و لم تضف الرسالة الاسلامية الخاتمة لهذه النظم الأخلاقية الا القليل بغرض الاكمال و التكميل و التزكير و ليس الهيمنة و خلط الأوراق كما يحدث الان.
كما أن المفارقة العجيبة في زماننا هذا ان يتم وصف المخالفات الدينية الشرعية و ارتكاب المحرمات بأنها أعمال غير أخلاقية بينما يغض الطرف عن مفارقة مكارم الأخلاق الحقيقية المجردة و لا يتم اعتبارها عملا شنيعا أو معصية دينية كمفارقة الصدق و الحب و الأمانة و ممارسة الغيبة و النميمة و التجسس و غيرها و كانها ليس من الاسلام في شيء.
من جانب اخر فانه اذا قمنا باجراء اختبار عملي للمقارنة بالمطلق لقياس درجات الصدق و حب الخير و عدم الأنانية وسط النخب السودانية في الحكومة و المعارضة و وسط عامة الشعب السوداني فحتما ستوكن النتائج كارثية و محبطة للجميع.
هذا التردي الاخلاقي العام المقصود به و المسئول عنه أولا و أخيرا هو تلك الافة الحقيقية أس البلاوي السودانية و التي تسمي زورا و بهتانا بالنخبة المثقفة لأنه ليس من الانصاف و لا المنطق توجيه مثل هذا اللوم و تحميل المسئولية لمواطن في يعاني الأمرين في معسكرات النازحين أو تحت القصف الجوي في مناطق النزاعات أو تحت وطأة الفقر في أطراف المدن و الأرياف الفقيرة.
هذه النخب البرجوازية الصغيرة السودانية التي بدات غريبة و مأزومة و معزولة و يتيمة في نشأتها الأولي مع بدايات التعليم الحديث و الحكم الثنائي قد فاقم من محنتها الداخلية أمراض البرجوازية الصغيرة الموجودة في كل أنحاء العالم المتمثلة في الهلامية و الانتهازية و عدم الاستقرار الطبقي و قد ذاد علي طينتها بلة عندنا عدم وجود قيم أخلاقية مهذبة أو رادعة لها و عدم وجود تنويريين حقيقيين و فلاسفة و هيومانيستس سودانيون ينادون بغرس هذه القيم الأخلاقية المجردة الي الان.
لذلك فان أي مشروع سياسي سوداني مستقبلي لا يرتكز علي اعادة تأهيل هذه النخب المثقفة تحديدا تأهيلا أخلاقيا و تنويرها تنويرا حقيقيا و غرس قيم الخير و الصدق و الحب و الجمال فيها سيكون مشروع غير محمود العواقب و لا يمكن أن نراهن عليه عمليا مثله في ذلك مثل المشاريع الوطنية السابقة و هذا موجود في كل أنحاء العالم.
لهذا فنحن في أمس الحاجة الي صياغة مشروع انساني أخلاقي قيمي يكون نواة لتأسيس و نقطة لانطلاق مشروعنا الاجتماعي السياسي الوطني القادم لانه في ظل الوضع القائم قد أصبح مفهوم الوطنية اداة للتسلق و المزايدة و الانتهازية من هذه النخب في الحكومة و المعارضة معا و قد تجاوزه الزمن و أضحي من المستحيل تأسيس أي مشروع سياسي علي أطلاله المهترئة.
اذا نحن في حاجة الي صياغة مشروع انساني يؤدي الي انتاج مشروع اجتماعي و الذي يؤدي بالضرورة في النهاية الي التوافق علي مشروع سياسي وطني.
هذا المشروع الانساني لكي يتم انجازه يحتاج الي مجموعة من المفكريين التنويريين النورانيين الحقيقيين الذين عرفوا قيم الحب و الصدق و الجمال في أنفسهم أولا ليقوموا بعد ذلك بتنزيل تلك القيم الانسانية و المفاهيم المجردة الي عامة النخب المثقفة و البرجوازية الصغيرة و التي بدورها تقوم بتنزيلها الي عامة الشعب بطريقة أكثر تبسيطا. في خضم هذا كله فأنا أعتبر نفسي هيومانيست خجول و فيلسوف متواضع لا أقوي علي انجاز عمل بمثل هذه الضخامة الا بمعاونة اخرين ان وجدوا و لذلك وجب عليهم الافصاح عن أنفسهم بالكتابة و التقويم في ذات الموضوع لتتم عملية التواصل معهم.
قد يتسائل سائل أو معترض و يقول لماذا تتم الدعوة لمشروع انساني و ليس ديني اسلامي و مغالطات من هذا القبيل؟ و الاجابة البسيطة هي أن أكثر من خمسة و تسعين بالمئة من القيم الأخلاقية الانسانية المجردة موجودة في الاسلام و غيره من الأديان و الدعوة اليها تعتبر دعوة الي صحيح و صريح الاسلام من غير مزايدة أو متاجرة أو انتهازية و من هنا جاءت دعوتي بفصل الأخلاق عن الدين و السياسة معا.
هذا الخلط المتعمد أو غير المتعمد بين مفهوم الأخلاق المجردة و الأديان من جانب اليمين السياسي و أدعياء الثقافة قد أضر كثيرا بالاثنين معا و كانت المحصلة النهائية أننا لم نجد صدقا و حبا و لم نجد تسبيحا و حمدا و تم تشويه الاثنين.
في الجانب الاخر فان التيارات اليسارية و في غمرة صراعها السياسي البحت مع التيارات اليمينية تناست أو أغفلت أو تجاهلت الدعوة الي كريم الأخلاق و ان تمثل بها بعضهم عمليا و لكنها خلت من خطبهم السياسية و الاجتماعية.
لذلك فان بعث و اعادة الاخلاق المجردة الي ساحتنا السياسية و الثقافية يساهم في تطوير اليمين و اليسار معا و أدعي الي جعلهم أكثر مسئولية و أقرب الي الاتفاق و التوافق حول مشروع انساني اجتماعي سياسي وطني سوداني.
بدون التوصل الي هذا المشروع الانساني الذي قامت علي مثله حضارات عظيمة سادت العالم قرونا عديدة بأخلاقها فقط في البداية و من ثم انهارت ذات الحضارات بذهاب الأخلاق فان أي تغيير سياسي مرحلي قادم يكون كالعدو و القفز في الظلام و رفض أو عدم القدرة علي استقبال النور.

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. شكراً على المقال الجميل الهادف. الإنسان القائم Homo sabien عاش على هذه الأرض منذ ما يقارب الثلاثة ملايين من السنين. ولا شك كانت لمجتمعاتهم قيم وأخلاق يلتزمون بها وإن كانت بدائية. ثم تطورت تلك القيم والأخلاق مع تطور الحضارات إلى أن وصلت اليونان الوثنية التي أسست للفلسفة وعلم الأخلاق. ثم تلتها الحضارة الرومانية الوثنية قبل أن يعتنق الامبراطور قسطنطين المسيحية، وكانت روما قد استعمرت أكثر من نصف العالم المعروف وقتها ونشرت حضارتها وأخلاقها في مستعمراتها. كل هذه المجتمعات كانت لها أخلاق وقيم مطلقة قبل أن يأتي موسى بتوراته. فالذين يربطون بين الأخلاق والأديان واهمون أو مخدوعون. لا علاقة للأديان بالأخلاق، خاصة ما يُعرف بالأديان السماوية التي سرقت حضارات وقيم الحضارة السومرية والحضارة الفارسية وجعلتها العمود الفقري لأديانها
    يجب، كما جاء في مقالك، فصل مفهوم الأخلاق المطلقة عن الدين لأن المتلبسين لبوس الأديان هم أبعد الناس عن مكارم الأخلاق، وكما قال الشيخ محمد عبده عندما زار أوربا إنه وجد إسلاماً ولم يجد مسلمين، وفي بلاده وجد مسلمين ولم يجد إسلاماً. الموضوع كله تجارة فقط
    أويدك وأشد على يدك

  2. اسع عديل عايزين

    فصل الدين عن السياسة!!!!!

    كان زمان نحاول نوجد عذر
    لكن نحن مسلمين والحمد لله واحسن من الكذلبين الكيزان
    اها فصل الدين احتراما له!

  3. لا شك أن الدعوة الى اعلاء القيم الاخلاق هو هدف نبيل لذا يجب عدم المتاجرة به كما تكرم كاتب المقال، وأزيد بأنه يجب أن تتأكد من أنك لا تُساعد على المتجرة بهّ

    دائماً في النقاشات مع اخواننا العلمانيين كنت اقول انكم تتحدثون اليوم عن فصل الدين عن السياسة وستسمعون غداً من ينادي بفصل الاخلاق عن السياسة وبعدها فصل الدين عن كل نواحي الحياة -العلمانيات الاخرى غير السياسة التي يظنها البعض قد أنقرضت ولكن هناك من يريد الاختباء وراءها- وكل ذلك سيتم تحت شعار حفظ الدين. فكثير من هؤلاء يركبون معكم سرج العلمانية وانتم لا تدرون!

    ارجعوا الى مواقع الملحدين وابحثوا عن كتابات المدعو كامل النجار (صاحب التعليق ادناه) وستفهموا خطورة عدم الانتباه الى ما يتم من دس للسم في الدسم. فتحت الشعارات النبيلة دائماً ما تُخفي أخبث الاهداف! وستلاحظوا ايضاً بهذه المواقع الاكثار من استخدام عبارة “مغالطة” أو “مغالطة منطقية” للدفاع لما عن كل ما هو بالفعل “مغالطة”.

    عموماً، لا أفهم طالما أن الاخ كاتب المقال مقتنع بأن 95% مما تدعوا اليه هو بالاسلام -وأنا اقول لك بأنه 100% بالاسلام (إنما بعثت لأتمم مكارم الالخالق، الدين المعاملة، خيركم خيركم لأهله، الخ) – فلماذا تريد فصل الاخلاق عن الدين؟ يمكن ان افهم ان تفكر لانجاز هدف معين بالقيام بهذا الفصل مؤقتاً كوسيلة وليس هدف، وأما ان يكون هدفك هو فصل الاخلاق عن الدين تحت حجة أن في هذا حفظ للدين فهو أمر يثير التساؤل والاستغراب وهو “مغالطة” أو “مغالطة منطقية” أو سمها ما شئت!

    بتعبير آخر: أجعل نداءك بإعلاء القيم الاخلاقية ويمكن أن تفعل ذلك دون ربط بالدين إذا رأيت أنها (الوسيلة) الانسب لتحقيق (هدف) إعلاءالقيم الاخلاقية، ولكن لا تجعل نداءك هو “فلنفصل الاخلاق عن الدين” حتى يبدو وكأن ذلك هو (الهدف) والحل، لأنه عندها ستجد أمثال كامل النجار يركبون سرج دعوتك حيث أنهم يرددون نفس عباراتك لأهداف قد تختلف تماماً مع أهدافك…

    واعتقد أن كاتب المقال مهتم بما قد يترتب على كتاباته وبالتالي من الافضل ان يحصن كتاباته ضد أي فيروسات فكرية قد تصيبها اذا لم يوفر لها المناعة الكافية ضد الاختراق.

  4. نعم والله لقد اصبت كبد الحقيقة – المشكل الأخلاقي هو أدى الى تأخر النهضة في السودان وليس الحكومات لان من يقود هذه الحكومات هم من الشعب فمنذ خروج الانجليز لم يحكمنا اجنبي والتدهور مستمر بايدينا . غرس ما ذكرته من قيم فاضلة هو ما نحتاج اليه ولا سبيل بغيره . اويدك ان مقياس القيم عندنا مختل بدرجة كبيرة .

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..