داخل مول تجاري

أثناء زيارتي الأخيرة للقاهرة، للمشاركة في الملتقى السادس للرواية العربية، الذي انتهى منذ عدة أيام بشكل جميل ورائع، وبحصول كاتب قدير هو بهاء طاهر، على الجائزة هذا العام، طلب مني الناشر الشاب أحمد سعيد، أن أجلس قليلا في مول تجاري كبير، لأوقع كتابي الأخير: «ذاكرة الحكائين»، الصادر عن داره، للقراء الذين سيأتون حتما. وأوضح أن الفكرة ليست جديدة، ولا تخصه هو، لكنها فكرة حداثية وشابة، وتم تطبيقها بنجاح من قبل، في المول التجاري نفسه المزدحم بكل الأفكار، بما فيها أفكار القراءة.

لقد تحدثت كثيرا عن حفلات التوقيع هذه، في الوطن العربي، واعتبرتها من الفخاخ غير المحكمة، لأنها في الغالب لا تصطاد شيئا كثيرا، وربما تكون لها آثار جانبية سيئة على نفسية الكاتب، خاصة إن كان من الشباب، وما يزال يملك طموحات وآمالا،وأحلاما، يود لو صمدت معه في مشيه الطويل على درب الكتابة. هذا إن كانت تلك الحفلات في معارض الكتب، وتحت سمع وبصر أشخاص، جاءوا أصلا لشراء الكتب أو على الأقل، تقليبها والاستمتاع برائحتها ومناظر أغلفتها، وأثناء ذلك ربما تلفت أنظارهم فتاة جميلة متزينة، توقع كتابا لها، فيسارعون إلى اقتنائه، أو كاتب معروف، محشور بين البيع والشراء في جناح دار نشره، فيسرعون لمعانقته والتقاط الصور معه، واقتناء الكتاب الذي كان يوقعه.

لكن ماذا عن المول التجاري؟ وكيف يحتمل مكان أنشئ غالبا بمواصفات حسناء مغوية، أن يستوعب الثقافة وعناوينها وممثليها الفقراء، ويسمح بفرصة التسوق من الكتب أيضا؟
الحقيقة أن فكرة إنشاء مكتبة، داخل مول تجاري ضاج بالسلع، شيء جيد حتما، فوسط الماركات الكبيرة للأزياء والأحذية والساعات، وغيرها من السلع الجذابة، مما يشكل مفاتن المول أو مفاتن الحسناء كما أسميها، لا بد من وجود معارضة، والمعارضة هنا، هي المكتبات، سواء كانت صغيرة أو كبيرة، ضخمة وتحتل مساحة مذهلة، داخل المجمع التجاري، كما هو الحال في مكتبة مول دبي، أو صغيرة وتقف باستحياء في ممر، داخل المجمع، كما هو الحال في المكتبة التي من المفترض أن تتبنى توقيع كتابي، في المول المصري. المهم في الأمر، هو فكرة وجود معارضة ثقافية للسلطة التجارية.

كلنا يعرف أن الفرص لن تتساوى، والذي تكبد عناء الوصول لذلك المجمع، وعناء التجول في مساحته الكبيرة، لم يتكبد ذلك من أجل كتاب، ولكن طالما أن المعارضة دائما تربك حسابات السلطة، حتى لو لم تنلها، فالمكتبة تربك حسابات السلع التجارية، إلى حد ما.
طبعا حاولت التخلص من حرج الجلوس في المول التجاري، وحلت المسألة بأن جلست في كافيتريا قريبة من المكتبة، وتبدو متواطئة مع الثقافة، ولا مانع إن احتل الكاتب موقع الكتاب، وأصدقاؤه، جميع مقاعدها وطاولاتها، وقد حدث أن احتللنا جزءا من تلك الطاولات الجميلة، بلا أي مشكلة.

التجربة لم تكن ناجحة كثيرا، ولم أكن أتوقع نجاحها بالطبع للأسباب التي ذكرتها، إنما كانت مغامرة، لا بد من خوضها وتدوينها كتجربة في ما بعد. كان القراء الذين يقتنون الكتاب من المكتبة الصغيرة، يأتون في الكافتيريا، أو «الكوفي شوب»، يحصلون على التوقيع والابتسامة، وصورة تذكارية مع المؤلف، بهواتفهم النقالة، التي باتت الآن، أهم وسيلة لاقتناء الذكريات، وأهم ذاكرة، تعض على تلك الذكريات، ونادرا جدا أن تجد شخصا في هذا الزمن، لا يحمل ذاكرته النقالة معه، ولا يبكي قهرا وحزنا حين تضيع أو تسرق منه.
ولأنني من الذين يحبون صيد الحكايات، فقد خرجت بحكايات لا بأس بها، من جلستي في الكوفي شوب، من تأملي للضجيج وفوضى التسوق أو فوضى الفرجة المجانية، من مشاهدة حكايات العشق الحية، وحكايات الأحلام التي أتصورها وأنا أتابع.

كان من أغرب ما حدث في تلك الساعة التجارية، أن فتاة اقتنت كتابي، وجاءت للتوقيع والتقاط الصور بذاكرتها النقالة، وجرى بيني وبينها حوار قصير، وضحت فيه: أنها لم تقرأ كتابا، خارج مقررها الدراسي من قبل قط، لا رواية ولا قصة ولا شعرا، ولا أي إبداع، ولا كانت تلك الأمور من اهتماماتها أصلا، لكنها فجأة قررت اليوم بالذات أن تقرأ شيئا، وكان كتابي الذي التفتت إليه بسبب اسمي الغريب، أول ما اقتنته، وستقرأه لتعرف أولا، ما معنى أن تقرأ بحرية، بعيدا عن المقررات الدراسية. وثانيا، ماذا تعني قراءة الإبداع؟ وقد أخبرتها بأن كتابي ليس إبداعيا، وإنما هو تجميع لمقالات أكتبها عن الإبداع، فأبدت ارتياحها، لأنها كانت تخشى أن تقرأ شيئا إبداعيا، من دون دراية.

حقيقة سعدت بأن نورهان، وهذا اسمها، ستبدأ سكة القراءة وهي في أوائل العشرينات من العمر، وبكتاب من كتبي، لكن بت خائفا أن لا ينجح كتابي معها، أو لا تتذوق مقالاتي التي بلا شك تحتاج إلى مزاج، وشيء من طول البال، من أجل التفاعل معها، وبالتالي تفر من القراءة، فكتبت لها أسماء عدة روايات لباولو كويلهو، وأنا واثق من أنها ستتفاعل بشدة مع تجربته، فلن تكون استثناء في عالم تفاعل كله تقريبا مع كتاب الخيميائي، وشخصيا أعتبره كتابا بسيطا جدا، وشبيها بكتب الناشئين الملخصة عن كتب للكبار، من أجل إدخالهم في درب القراءة.

الحياة مغامرة كبرى، والكتابة مغامرة داخل مغامرة، ومحاولات مواكبة التحديث والموضات جيدة لجيل مثل جيلنا، وهكذا لم تكن تجربة المول التجاري خاسرة تماما. هنا كسبت جلسة جميلة وسط أصدقاء جميلين، وكسبت قارئة مثل الفتاة التي ربما أعجبها وتقرأني مرة أخرى، وربما يعجبها كويلهو، وتبحث عن أعماله وأعمال آخرين.

كاتب سوداني

أمير تاج السر
القدس العربي

تعليق واحد

  1. أستاذ تاج لسر لك التحية اعتقد ان القراءة شيء جميل ولكن أقول لك هذه الفتاة ليس وحدها فهناك كثر من هجروا الكتاب وانا واحد منهم فقد باتت مشاكل وطني السودان تؤرقني وتهمني اكثر من تناولي للغذاء لأعيش .
    فانا أصبحت مدن لقراءة الراكوبة افتتح بها يومي واختمه بها وتأخذ من وقتي الكثير وكل ساعة يحدوني الأمل ان ترحل الحكومة او ينقلب الريس عمر البشير علي تجار الدين لينحاز للأغلبية الصامتة من الشعب …يحدوني العمل ان يمر الريس بمرحلة تأنيب الضمير ليخبر نفسه بان اللعب بالدين امر خطير تركت قراءة لكتاب لأبحث عن خبر يفرح كل زول من شعب السودان وسأظل ابحث وابحث وانا بعيد عن الكتاب فهل تكلف نفسك عناء البحث معي عن ذلك الخبر السعيد؟؟

  2. العزيز امير لك التحية . واهنينفسي باصدار كتابك الاخير . اتمني ان تتمتع بالصحة وتنشر العشرات من الكتب . اعجبتني قصة الشابة نورهان . من يدري ربما تصير كاتبة عظيمة . بداخل الجميع شاعر وكاتب . السؤال متي وكيف يستيقظ . شكرا عزيزي امير لقد افرحتني اليوم .

  3. شامةُ الحسناءِ
    كثيرا” ما لفتَ نظري في عددٍ من الدول التي زرتُها,, إشتمالُ المراكز التجارية الضخمة فيها علي مكتبةٍ مهولة او متوسطةٍ او علي الأقل ركنٍ لعرضِ و بيعِ الكتب..و هو أمرٌ غالباً ما سبَّبَ لمرافقِيّ من غير مدمني القراءة إزعاجاً و ضجراً شديدين..إذ أنني كنتُ أنسي الغرضَ الأساسي الذي من أجله كُنَّا قد قصدنا (المول)..فأجدُني و قد إنجذبتُ كالمسحور ناحية هذه المكتبات..أجوِّل مشدوها” بين أرففها أُقلِّبُ الكتبَ..أرفعُ كتابا” و أضعُ آخر حتي يجأر أصحابي بالشكوى..فأعتذرُ منهم و أعفيهم من مواصلة إنتظاري بل و أذهبُ أبعد من ذلك فأترك لهم الخيارَ في أن ينهوا تسوّقهم و ينصرفو بدوني إن هم أرادوا ذلك بدون أي إحساس بالحرج تجاهي..فينتهي بي الأمرُ و قد قضيتُ سحابة يومي بين الكتب..مُنفقا” جُلَّ ما معي من نقودٍ عليها..ثمّ أنصرفُ راشدا” أحسبُني..و أنا قرير العينِ راضٍ ببضاعتي.
    أعجبَني تشبيهُ الأستاذِ للمراكز التجارية تلك بالحسناواتِ و إنها لكذلك..و ما المكتباتُ التي فيها إلا كالشّامةِ من الحسناء..و لطالما سبَتْني شامةُ الحسناءِ عَنْها.

  4. الناس بتشتري الكتب اون لاين ليها اكثر من عشره سنوات مواقع زي امازون او تنزيل الكتب الى بي دي ايف عن طريق فور شير…الناس صارت لا تذهب الى المكاتب لان الكتب في الانترنت ارخص كثير و اسرع في الحصول… انا املك اكثر من مئة واربعين كتاب وكلهم محفوظين في هذا الجهاز

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..