فاسكا.. شم النسيم في الهضبة

تضمنت أوراقي الاثيوبية العديد من المناسبات المهمة في الهضبة ولم يرد فيها شيء عن عيد الأعياد.. فاسيكا “شم النسيم” ولكني أتناوله في هذه الورقة لأنها المرة الأولى التي أحضره بينهم هناك “صدفة” قبل عامين.
هبطت مطار “بولي” بالزهرة الجديدة وقضيت بها اسبوعا
كان يوم الخميس “وقفة” عيد الأعياد.. أما يوم الجمعة فقد كان يوما حزينا احتجب فيه الغناء في الاذاعة وفي قلوب الناس وحلت بدلا عنه “المزامير” وهو الغناء الديني الذي انساب من الكنائس والحوانيت والبيوت.. حتى جلسات القهوة صاحبتها المزامير.. يسمونها الجمعة العظيمة.. واطلق عليها “الجمعة اليتيمة” مقاربة بآخر جمعة في رمضان حيث نعد البلح المبتل بالماء والارز واللقيمات “الرحمتات”.. صدقة لأرواح موتانا.
ويسمونها أيضا “الجمعة العظيمة” يبتهلون فيها طلباً للرحمة والغفران لهم ولموتاهم ويسمونها بالأمهريةSIGDAD والكلمة مأخوذة من “السجود” بالعربية.
أربعة وخمسون يوما من الصيام مضت وبقى يوم واحد حتى يفطروا.. يوم السبت أيضا إجازة رسمية تمور فيها الأسواق بالباعة والمتسوقين وهم يجهزون للعيد الكبير، غير عابئين بالأمطار التي كانت تنهمر لساعات وتشرق بعدها الشمس لبضع ساعة حتى “تشكشك” من جديد.
هدأت الأمطار قليلا يوم السبت كأنها قد رأفت بهم لتفسح لهم ليستعدوا لعيدهم الكبير الذي استقبلته الزهرة الجديدة باسمة بعد أن غسلت وجهها الوسيم واغتسل أهلها من أوزارهم بعد صيام دام خمسة وخمسين يوما، واليوم يتضرعون طلبا للغفران، واغتسلت كل القلوب في ليلة السبت.
تجولت في المدينة ليلا ورصدتهم وهم يتوافدون للكنائس بأزيائهم الشعبية القطنية البيضاء، وتسللت إلى حوش كنيسة “ميدهان ألم”.. ارقبهم من بعيد وهم يحتشدون يسعى كل منهم إلى موطئ قدم في ليلة الغفران. استمرت صلاتهم حتى الثالثة من صباح الأحد.. خرجوا بعدها إلى بيوتهم وهم فرحون بإكمال خمسة وخمسين يوما من الصيام. كان كل شيء جاهزا “للإمساك” عن الصيام.. ذبحوا ذبائحهم وتناولوا “زغني الدجاج” الذي احتاج إعداده عدة أيام.
تضمنت مائدة “الدغش” المشروبات الروحية “لزوم الديكور” ولكنهم تناولوا “الطج” وهو مشروب شعبي يتم إعداده من أجود أنواع عسل النحل الأصلى. يخمرونه دون أن يفقد جزءا كبيرا من حلاوته. “كان الامبراطور يقدمه لضيوف الدولة” يماثل الشربوت عندنا والذي تجعله حرارة الجو هنا “حراماً” لأن كثيره مسكر. طبق الفواكه جزء من المائدة مكمل لطقوس القهوة التي يفرش مكان إعدادها بالقش الأخضر فألاً واستبشاراً بالعيد. الذبيحة هي أهم طقوس عيد الأعياد، حتى الفقراء منهم “سكينهم حمرا” في مثل هذا اليوم والذبيحة حسب المقدرة المالية ولكنهم تحت كل الظروف لا يتقاعسون عنها وقد تكون ديكا.. أو خروفا.. أو ماعزا. والماعز هناك أغلى سعرا من الضأن. يذكرني مذاق غنم الهضبة طعم غزلان البطانة.
أما الأسر ميسورة الحال، فتذبح العجول والثيران “المستفة” بالشحم، يغطى اللحم الذي يتناولونه “نيئا” وهي الطريقة التي يفضلونها عند اكل اللحوم أما الوجبة الشهية الأخرى فهي نيئة أيضا يطلقون عليها كلمة “كوتفو” وهي عن لحم نيء مهروس يضيفون إليه بهارهم الخاص بهم والسمن البلدي المعالج “بالحلبة” و “الكركم”. ويعتبر “القوراجي” أفضل من يعدون “الكوتفو”.. لا يخلو بيت في العيد من “خبزة” ضخمة مصنوعة من القمح يقطعونها ويقدمونها لضيوفهم والحضور طلبا للبركة وإحتفاء بحصيدهم من حبوب القمح والطيف. أما القهوة في ذلك اليوم فتقدم بكامل طقوسها التي تبدأ بضرورة لبس الزي الشعبي للتى عليها إعداد القهوة وقليها والمرور على الحضور لشم رائحة البن بعد الانتهاء من قليه على الفحم وتقديم الفشار.. وعندما ينطلق البخور يكون ذلك إعلانا بأن القهوة جاهزة للتناول- تبدأ “بالأول” و”الثاني” و”الثالث” و”البركة” وهي نفس المسميات عندنا لمراحل تناول القهوة.
يعف السودانيون عن تناول اللحوم النيئة، ولكنهم يأكلون الأحشاء نيئة “المرارة” بعد أن يغسلونها من الروث والفضلات ويأخذون على غيرهم تناول اللحوم المعافاة دون طبخها أو شوائها. بينهم اكون مثلهم. لا أعف واتناول ما يقدمونه لي دون تردد.
أما عن صيامهم الذي يبلغ الخمسة وخمسين يوما “شن الصيام” يأكلون ويشربون ولكنهم يتحاشون الطعام الذي أساسه روح مثل اللحوم والفراخ والبيض واللبن والجبن- ولكنهم يتناولون السمك خلال فترة الصيام.. لم أجد من الاثيوبيين استطاع تفسير تناول الاسماك خلال تلك الفترة .. اجتهد أحدهم وأفادني بأن الأسماك لا تذبح، ولكني وجدت الخبر اليقين عند صديقي الأستاذ وليم زكريا الذي أفادني بأن الأسماك تضع بيضها ويقوم الذكر بتخصيب البيض بعد أن تصنعه الانثى دون معاشرتها وهو ما يؤكد طهارة الأسماك من دنس الجنس.
هناك علاقة وطيدة بين الأحباش والفراعنة وأحفادهم الأقباط فهم يشمون النسيم سويا وفق تقويم واحد.
كنت محتارا بين عدة دعوات مقدمة إلى من أسر مختلفة تربطني بها علاقات وطيدة.. وكنا أنا وصديقي ابن السفير وحفيد ناظر البني عامر الفاضل عبد الله الحسن- كنا نعد
مفاجأة لصديقنا “السيدابي” حفيد ملوك الهضبة محمد بابكر كبير المضيفين بالخطوط الجوية السودانية- كنا نريده أن يتذوق طعم الاحتفال بين الأهل والأصدقاء من عشيرته المفترضة ولكن صاحبة الفيللا التي كنا نقيم فيها فاجأتنا بأنها قد أعدت كل شيء لضيوفها وضحت بقضاء اليوم بين أسرتها واختارت الاحتفاء بضيوفها الغرباء من عجم وعربان وإخوان جيران، ولم نملك إلا أن نستجيب لأريحيتها وهي عادة متجذرة فيهم وهم يقومون “بالتوسعة” وبسط موائدهم بكرم مستمد من حضارة قوم نجهلهم. كبروا في نظري هؤلاء القوم الذين نستخف بهم ونصيح في وجوههم عندما نريد زجرهم “أمشى يا حبشي”.
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. اخشي ان ترتد علينا الكرة ..فتصك اذاننا ( امشي ياسوداني ) يااخي هم ماشين للامام ..ونحن في تراجع الي الخلف ..لديهم حضارة ولدينا ايضا ..لكن انظر الي تاثرهم بحضارتهم واعتزازهم بها ..اين نحن من هذا …لدي قناعة ..نحن لانجيد الكلام ..لسانا سليط ..وبس

  2. ابداع ووصف جميل لعادات وتقاليد اعز جيراننا ,,, شعوب الهضبه الاثيوبيه تمسكوا بارثهم واعتزوا بحضارتهم,,, لم يدعوا الانتماء لاي صنف من البشر سوي قومياتهم المختلفه وهم ليسوا كحالنا ادعينا الانتماء للعباس وحوطة بني تميم وبني قطحان وحتي ان كان ذلك صحيح فهل يفيدنا ذلك في شئ ,,, احاديث لم ينالنا منها سوي التفكك والانقسام والتعالي علي بعضنا بانتماءات مشكوك فيها,,,

    استاذ احمد طه لعل اجيال السودان تنظر الي الجاره الشقيقه اثيوبيا ويتعلموا منها دروس الوطنيه والانتماء والاعتزاز ببلدنا وحضاراتنا بدلا من التشبث بوهم العروبه الزائف والعماله لمصر الطامعه في ارضنا وثرواتنا وترديد ممجوج الكلام من تكامل ووحدة وادي النيل وحلو عن سمانا!!!,,,
    واصل استاذ احمد طه ونحن في انتظار المزيد فلقد اصبحنا عشاق للهضبه واهلها مثلك ايها الاخ الكريم,,,

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..