لعن الله الكذّابين ومزوّري الحقائق!

بقلم: الدكتور نائِل اليعقوبابي
*(كل فئوية مهما كان نوعها،
هي حشد للريبة والخطيئة..).
– فولتير-
..(الذرائعيّة) أو سياسة التبرير تشبه الحادثة التالية: سألت صديقاً موسيقيّاً طاعناً في السنّ والعنوسة:
– لماذا لم تتزوّج؟…لا تقل لي نسيت….أو إني قد تزوّجت من هذه الآلة الموسيقية البكماء.. أو لا أريد أن أندم فأرتكب بذلك خطأ ثانياً، أليس الندم على ما فعلت أهمّ بكثير من الندم على ما لم تفعل؟.
ردّ بعصبيّة: مهلاً، لماذا تستبقني في الإجابة، مثل طير يغنّي وقد جعل من جناحيه جوقة وكورالا… ثمّ لماذا تصرّ على هذا السؤال وكأنّ الزواج واجب مثل عمل أو وظيفة أو فريضة… وما عداه جرم وخطيئة؟!…أنا ببساطة – لم أتزوّج لأنّ أصابعي لا تتحمّل الخواتم بسبب حساسيّتي من المعادن…. هل اقتنعت الآن؟.
أقنعني صديقي (العازف) عن الزواج بجوابه الماكر الطريف، والأكثر من ذلك، بجدوى عدم التدخّل فيما لا يخصّني.
من يومها، صرت أبرّر للناس أعمالهم وأفعالهم على مختلف غرابتها وشذوذها، امتهنت الكتابة في الرواية والقصة والمقال متسلّحاً بكل الألوان، ما عدا الأبيض والأسود، لكون الكتابة الإنسانية ليست مجرّد حلبة مصارعة بين الأخيار والأشرار، بل بين ما يعتقد أنّه خير وما يعتقد أنّه شر.
التبرير هو عبقرية الردّ على كل الأسئلة المتوقّعة بأمان وطمأنينة، أمّا السؤال فهو الارتياح للقلق، وكأنّ الحياة مدّ وجزر دائمان بين (لماذا) و(لأنّ).
التبرير يخفي وراءه ردّا على سؤال آخر لم يصرّح به، مثل الجواب على سؤال بسؤال في محاولة لصدّ الكرة إلى ملعب الآخر، مثل الطرفة الشعبيّة التي تتحدّث عن حطّاب جاء حانة المدينة، وضع فأسه على الطاولة، طلب كأساً بعد يوم ثقيل من العمل…. جاءه أحد الماكرين وهمس في أذنه:(كيف يهنأ لك بال وزوجتك على موعد غراميّ في الغابة القريبة من المدينة؟
ثارت ثائرة الحطّاب، ترك كأسه وحمل فأسه متجها نحو الغابة وقد أقسم ألا يعود إلاّ بعد غسل عاره.
بعد ساعة من الزمان عاد الحطّاب إلى طاولته وهو يلعن الكذّابين، سأله أحدهم عن صحّة الخبر فردّ بقوله:(كيف يصفونها بـ (الغابة)، وهي لا تتعدّى الشجرة أو الشجرتين..!؟ لعن الله الكذّابين ومزوّري الحقائق).
هكذا أخفت الشجرة غابة الحقيقة، واقتطع الحطّاب من السؤال نصفه، وأضحى ردّه إجابة عمّا يريد سماعه … وليس ما أراد الآخر معرفته أو التأكّد منه.
دخل الاستعمار الفرنسي الجزائر ومن ثمّ بلاد المغرب الكبير بأكملها على إثر حادثة منشّة الذباب الشهيرة التي هدّد بها (الداي) حاكم البلاد غاضبا القنصل الفرنسي إثر لحظة استفزاز في مجلسه.
احتلّت القوات الأمريكية أرض العراق بحثاً عن أسلحة الدمار الشامل ثمّ قال مسؤولوها:(آسفون، لم نجد ما دخلنا لأجله)…. وقبلها انتهكت بلاد الأفغان اقتفاء لأثر الإرهابي بن لادن وفلوله ولم تخرج إلى حدّ الآن …. وكذلك فعل غيرها من الذين لا يصرّحون بالحقيقة، بل يضعون لومهم على القشّة التي قصمت ظهر البعير والنقطة التي طفحت بالكأس.
أمّا التاريخ القديم فيحدّثنا من دون حرج عن نكبة البرامكة الذين نكّل بهم الخليفة العباسي هارون الرشيد لمجرّد علمه بقصّة حب أخته العبّاسة مع وزيره جعفر البرمكي …من يصدّق هذه الرواية الرومانسية أمام رهبة الحكم وسطوة الكراسي والنفوذ..!؟.
من يصدّق حرب البسوس وأسطورة الثأر بأبطالها الزير وجسّاس وكليب وغيرهم لأجل ناقة ؟ على من يضحك كتبة التاريخ ومزوّروه؟!.
هل انطلقت الحرب العالمية الأولى فعلا بسبب رصاصة أطلقها أحدهم على أحد الكونتات في بلاد البلقان…أم أنّ القصّة ليست قصّة رمّانة، بل قلوب ملآنة كما يقول المثل الشعبي؟!.
المبرّرات كثيرة وغير متناهية، لكنّ مشكلة الكثير منّا أنّه يراقب العود الذي احتكّ بعلبة الكبريت والإصبع التي امتدّت إلى الصاعق، ولا ينظر إلى من تسبّب في وجود علبة الكبريت والقنبلة…ويلوم إطفائي الحريق على تأخّرهم وتقاعسهم في أداء الواجب.
قد يعاقب الحطّاب المخمور بفأسه ذلك الواشي الماكر حين أوهمه بأن شجرة واحدة يمكن أن تشكّل غابة يختفي فيها عاشقان، قد يوهم الرشيد نفسه بأنّ الشرف الرفيع ينبغي أن يراق على جوانبه الدم، قد يعتقد الزير سالم أنّ أخاه قد أغاث صاحبة الناقة في حرب البسوس، قد يصدّق الأمريكي البسيط أنّ حكّامه دخلوا العراق بحثا عن أسلحة الدمار… ولكن، هل تحجب شجرة واحدة غابة بأكملها؟!.
ذكّرني كل ما تقدّم بتبرير وزير خارجية السودان السابق للخطوة الرعناء التي أقدمت عليها حكومته المشؤومة باستدعاء السفير السوري للاحتجاج وما سبّبه ذلك من مآس وأوضاع اجتماعية حرجة، قال:(لقد تصدّت السلطات السورية للمتظاهرين ليلة المولد النبوي)…!!!.وفي مثل هذه المناسبة تورّط حزبه الإسلامي بقتل خيرة شباب السودان في هبة سبتمبر المجيدة.
[email][email protected][/email]
مقال رائع