العالمُ الثالث:المزيـدُ مِن التهـافـُت..

(1)
شهدنا في السبعينات من القرن الماضي، حوارات امتد أجلها بعد ذلك لسنوات طوال، محورها الفجوة الآخذة في الاتساع بين العالم الغني والعالم الفقير، بين من يملك الموارد والثروات الطبيعية، ومن يملك القدرة على تصنيعها وتطويعها لتناسب حاجيات البشرية هنا وهناك. لم يكن الاتحاد الأوروبي قد ولد بعد، ولم تتوافق بلدان تلك القارة التي صنّفت نفسها عالماً أول، على ابتداع معادلة تضبط العلاقة بين من حاز على الموارد، ومن يملك حق تحويلها. ويتذكر جيلنا في أواخر الستينات وأوائل السبعينات من القرن الماضي، جولات الحوار الذي استطال بين الشمال والجنوب، وأشهر من تولاه كبير ألمانيا “فيلي براندت”، ولا يلتبسن عليك الأمر فتحسبه حواراً بين اتجاهين أو مفهومين جغرافيين، ولكنها الكناية عن حوار بين عالم غني أغلبه في الشمال، وعالم فقير معظمه في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية.
(2)
لربما حققت جولات التفاوض الدبلوماسي تلك، في غرف المؤتمرات المفتوحة والمغلقة، خلال حقبة الحرب الباردة، قدراً من الاختراق في قضايا شائكة، دارت حول أسعار السلع الأولية، تُسترخص عند الشمال، وتعاد إلى الجنوب أعلى ثمنا، بما يشكل أنموذجا لتعاون مجحف بين قويّ تزداد قوته، وفقير يتضاعف وهنه. دارت تلك السجالات طويلاً حول السياسات الحمائية لتلك السلع الأولية التي يزخر بها العالم الثالث، وحول نقل التقنيات وتيسير وضبط حركة نقل السلع وتبادلها، وصياغة قوانين واتفاقيات ترسخ مستويات للتعاون الاقتصادي والتجاري، بين من يملك ومن لا يملك. شهدت تلك السنوات نشوء “كارتلات” من طرف معظم بلدان العالم الثالث، مالكة المواد الأولية ، ولعل منظمة “الأوبيك”، تمثل أبرز “كارتل” فرض ضوابط لأسعار أهم سلعة تنتج في “الجنوب” ويحتاجها “الشمال” وهي سلعة النفط. أخذ التعاون الدولي شكلاً جديداً هذه الآونة، إذ تمترست بلدانه على قطب أحادي منفرد، طفق ممثلوه في المحافل الدولية، إدارة التفاوض الجماعي لصياغة تعاون جديد، عبر منظمة التجارة العالمية ، في الوقت الذي بدا فيه العالم الثالث في أضعف أحواله، خلال ذلك التفاوض.
(3)
غير أن المراقب الحصيف، يرى الأحوال في هذه الآونة وقد أفضت إلى شروخ في أنحاء العالم الثالث، فلم يعد يمثل تلك الكتلة التي تفاوض بلسان واحد وطرح واحد ومواقف متماثلة. لن نقف طويلاً لنعرف الأسباب، فالعالم الذي فارقَ أجواء الحرب الباردة بحلول عقد تسعينات القرن الماضي، واجهت فيه البلدان النامية، كتلة متماسكة في الساحة الدولية، تمثل العالم الأول والثاني، إن قبلنا التصنيف، وتحت قياد الولايات المتحدة الأمريكية. يزيد تماسك هذه الكتلة، ولكن تتضاعف هواجسها وتشكل قطباً أحادياً، برفقة حلفاء يدركون على أيّ أرضية يقفون، وهم في مواجهة عالم ثالث متفككة أوصاله، بلا بوصلات ولا قيادات كاريزمية بقياس “عبد الناصر” أو “نكروما”، ويكاد أن يقبل تصنيفاً مجحفاً، أنه مصدر إفقار للموارد، مثلما هو مصدر إرهاب دولي مروّع، يزعزع استقرار العالم، كما أنه يشكل ملاذا لعاطلين من بلدان الفقر، شكلوا ظاهرة لهجرات غير قانونية، وقد يصير من اللازم قريباً، وبعد تفاقمها، أن تنبري الأمم المتحدة وبجهد كامل مؤسساتها، إلى علاجها، وليس بجهد الاتحاد الأوروبي وحده..
ها نحن أمام عالم ثالث، عوض ان يزداد تماسكه ليحقق تنمية ترتقي بمجتمعاته إلى مستويات تقارب مستويات التطور في العالم المتقدم، نراه يدور حول نفسه، وتتشاكس شعوبه في واقعها الداخلي، وتتصارع أكثر بلدانه في منظماتها الإقليمية أو خارجها، ويهرب بعض مواطنيه في هجرات غير شرعية، فلا تحقق هذه البلدان طحناً يذكر، إثر جعجعة لا نفع قبلها ولا بعدها. وليس لنا- ونحن في العالم الثالث- أن ننقب عن مشاجب نعلق عليها بعض هذه الإخفاقات، بل الأوفق أن نعيد النظر إلى ما حاق بنا وما دار من حولنا، وإلى ما جنت أيدي حكام بلدان العالم الثالث، أو ما جنته الشعوب على نفسها بشتى المبررات.
(4)
راعني ما جاء من صديقنا الكاتب السفير أحمد عبدالوهاب، وورد في مقاله الحزين يتوجع حسرة على ما وقع في جمهورية جنوب افريقيا، من ضيق سكان تلك البلاد بالأقليات والجماعات الإثنية، وجنوحها لإثارة نوع من العداءات والعنف المنظم، يهدد تماسك الجمهورية التي خرجت معافاة عبر نضال طويل، وعبر تصالح شجاع وتسامح مبهر، أخرج البلاد من عنصرية بغيضة، وحولها إلى بلدٍ مميز بتعدد أعراقه وإثنياته.
أنظر مقاله: (جنوب أفريقيا… بين زعيم الأمة وزعيم القبيلة). في موقع الصحيفة الالكترونية “سودانايل” . لقد حقق مجتمع جنوب أفريقيا في السنوات الأخيرة، انفتاحاً معافى نحو الآخر، فعدّه المراقبون من أفضل النظم الأفريقية تعايشاً سمحاً، واحتراماً لتنوع إثنيّ فريد، والتزاماً بحكمٍ راشد، صار مثلاً يحتذى على مستوى القارة الأفريقية بل ومستوى العالم.
(5)
يكفي أن نشهد كيف صار “نلسون مانديلا”، زعيم جنوب أفريقيا التاريخي، أيقونة تفتخر بها القارة مثلما هي مصدر فخرٍ على مستوى العالم، حين نشهد تمثالاً للرجل العظيم يقف شامخاً في ميدان “ترافلقار” (الطرف الأغر) في قلب أهم عواصم العالم الأول، لندن. لكن ليس للفرحة أن تكتمل. الذي أحزن صديقنا السفير أحمد، هو ضيق سكان جنوب أفريقيا بالأجانب المقيمين فيها، وهو ما قد يصل إلى وصفه بالـ”زونوفوبيا”، أي كراهية الأجانب. ستعجب أن تعلم أن الأجانب المستهدفين وفق قوله:( ليسوا غير أفارقة من بلدان الجوار: نيجيريا وغانا وموزمبيق وإثيوبيا وزمبابوي وملاوي والصومال، في حملة قاسية مما أسمته وسائل الإعلام بالـ”زونوفوبيا”،…ثم نرى زعيم قبيلة “الزولو” المرموقة “جوود ويل زويليثيني “، يقع في زلة لسان خطيرة فيما روي عنه، وهو يقول عن الأفارقة الذين أقاموا وعملوا بين أهله: “عليهم أن يحزموا حقائبهم ويرتحلوا”….ثم تراجع عن ذلك بقوله أن وسائل الإعلام قد أخطأت في اقتباسها من خطابه) . . هكذا يتضاءل دور الزعامات القومية لينحسر ويصير محض دورٍ لزعامات قبلية لا رابط بينها ، يؤجّج تنافسها المحموم التردي المريع في الأوضاع الاقتصادية في جنوب أفريقيا. .
(6)
يمثل هذا الذي وقع في جنوب أفريقيا، أنموذجاً للذي أعينك على إبصاره من كون أطراف العالم الثالث قد انكفأت على نفسها، تنشغل بصراعاتها الداخلية ، في شكل أشبه باشتعال مستصغر الشرر الذي سرعان ما يصير جحيماً مستعرا. يجد الطامعون في العالم الغربي، الثري بعلومه وتقنياته وصناعاته، ضالتهم في جنى المزيد من المكاسب، من عالمٍ ثالث لا يثبت على تماسك، ولا يقف على وحدة، بل تتهاوى أطرافه وتتنازع مكوناته السكانية، فتتراجع قيم العدالة لتصبح عدالة منتقاة ، وقيمة الحياة فتكون حقاً للقوي، والفناء يكون في انتظار الفقراء المغلوبين على أمرهم ، فتأخذهم سفن التهريب إلى حتوفهم فيما ثراء الموارد تحت أقدام أهليهم في أصل بلدانهم..
أهو العالم الثالث أم هو عالم يتراجع سراعاً ليكون عالماً في أدنى درجات التصنيف. .؟
+++++
[email][email protected][/email] نقلا عن “الوطن” القطرية-