قيثارة أفريقيا

عاش شامخا مثل رمح أفريقي أصيل، وظل هذا الشموخ يلاحقه طيلة حياته إلى أن لقى ربه بعيدا عن بلاده.. كان محمد الفيتوري شاعراً فارساً غنى لأفريقيا وللأمة العربية كما غنى للحرية وانتصر للبسطاء، واعتبر كل البلاد بلاده، وإينما حل عومل باحترام وتقدير لشاعريته .. حارب العنصرية وناهض الاستبداد وواجه الطغاة بكل الشموخ الساكن في أعماقه.
من يقترب من الفيتوري لابد أن يحبه، فالرجل في داخله طفل شديد النقاء، وعندما يحب يحب بصدق وعندما يكره فإنه لا يعرف منطقة وسطى، وقد انعكس هذا الشموخ في كل دواوينه وأعماله الشعرية التي طوع خلالها التراث وغاص في القديم وخرج بالحكمة والدرر وفي كل أعماله كان ذلك الدرويش المتجول الذي يسترجع قوة القبيلة التي خرج من صلبها، واستمد الشجاعة من شموخها وكبريائها.
بعد عمر مديد -٧٩عاما- ترجل الفيتوري عن فرسه بعد أن قهره المرض وامتد به العمر، وستكون قصة هذا الشاعر الفريد ليقرأها أطفال أفريقيا الذين حمل مع آبائهم مشعل الحرية حتى نالت أفريقيا استقلالها وانتصرت على الاستعمار وأصبح الصبح فلا السجن ولا السجان باق.
وما زالت أفريقيا تبكى دما وتعاني عذابات التخلف والاستغلال ويسكنها الفساد ويسيء أبناؤها لحاضرها ومستقبلها وتعيش في ذيل الأمم حتى أسموها بالقارة السوداء التي تعاني ثالوث الجهل والفقر والمرض ولكن لم يغب عن الفيتوري أن أفريقيا ستنهض رغم كل تلك العذابات وظل الأمل والبشارة كامنين في كلماته وأشعاره.

لا بأس أن نطأطئ الرؤوس بعض الوقت
وأن نلوذ ساعة بالصمت
فالنصر قد يكون في الهزيمة
والعدل في الجريمة
فقال بيدبا لدبشليم:
– المرء دائما وما يختار
يا دبشليم الحق صوت الله
وكلمة الحق هي الحياة
فلا تضق ذرعا
إذا تحركت بها الشفاه
وقال بيدبا:
– سألتني عن السقوط مرة
أيها الملك
ها أنذا أقول لك
ويسقط بعضهم
لأنه يرى ولا يرى
ويسقط البعض
لأنه يسير القهقرى
وأشد أنواع السقوط مرضا
هو السقوط في الرضا

في عام ١٩٨٦ في المغرب وكنا ضيوفا على العاهل المغربي الحسن الثاني- طيب الله ثراه- التقينا عن قرب بالفيتوري في الرباط، واكتشفنا عن قرب نقاء الرجل وثوريته وكم كان موسوعة في التراث والتاريخ وكم كان معتزا بسواد بشرته وبأنه من أفريقيا حيث يولد الأطفال وفي أفواههم نغم وأغنية وطبل عجوز يعود بالصدى.
سنفتقده كثيرا ولكن عطاءه الثر سيكون عزاؤنا الوحيد، وسنعيد قراءه دواوينه الشعرية -٢٨ ديواناً- كلها حكمة وثورة وانتفاضة.
رحم الله قيثارة أفريقيا الشاعر الرائع الذي أسماه الزميل الصحفي الأستاذ سمير عطاالله (نزار أفريقيا وسياب السودان).
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. في قصة الكاتب الكولومبي العالمي غابريال غارسيا ماركيز( أجمل غريق في العالم) أتت المياه بجثة رجل غريق إلى شاطئ القرية، جاء الرجال وحملوا جثمان الغريق إلى أول بيتٍ في القرية وعندما وضعوا الجثةَ على الأرضِ وجدوا أنها أطول من قامة كل الرجال . قال بعض من حمل الجثمان بعد ذلك أنهم أحسّوا وكأنهم يحملون جثةَ حصان ، كان أثقل وزناً من كل الموتى الذين عرفوهم قبل ذلك . تساءل أحد الرجال عمّا لو كان ذلك بسبب أن بعض الغرقى تطول قاماتُهم بعد الموت؟ .
    بعض نساء القرية تخلين عن وقارهن أمام جسدِ الغريق الجميل الهائل، أخذت كل واحدة منهن تقارنه بزوجها، كانت تلك فرصة للشكوى والقول إن أزواجهن من أكبر المساكين. كان جثمان الغريب ممدداً هناك لا يسمع ولا يهتم بهذا الخيال الواسع الذي أصاب نساء ورجال القرية فجأة، إذ لم يفكروا أبداً في تاريخ هذا الغريق : كيف عاش ؟ ولماذا مات؟ فقط قرروا أنهم أهله ، تقاسم سكان القرية دور الأقارب ، كل منهم اختار علاقة قربى بالغريق ، حيث أعلن كبارهم أنهم أعمامه بينما اختارت بعض النساء ما تيسر لهن من القرابات، عماته، أخواته وخالاته، أما الشباب فقالوا أنهم أخوته، فأصبح للغريق الغريب أقارب فجأة !
    ولكن وبينما كان الناس يتنافسون في نقل الجثمان فوق أكتافهم عبر المنحدر العسير المؤدي إلى الجرف لاحظ سكان القرية ضيق شوارعهم وجفاف أرضهم ودناءة أفكارهم وخراب حياتهم مقارنة بجمال هذا الغريق

    .
    (1)
    ما أعظم الفقد وما أتعس المشهد .. وكما نعي ناعي القاهرة صبيحة يوم 17 ديسمبر من العام 2013 الفنان الشفيف متعدد المواهب محمد حسين (بهنس) .. اثر موجة برد قاتلة داهمته وهو وحيداً شارداً مشرداً في شوارع وأزقة وحواري القاهرة .. كذلك نعي ناعي الرباط في المغرب شاعرنا الكبير محمد مفتاح (الفيتوري) .. الذي توفي وحيداً سوى بعض المُخلصين الأوفياء الذين يعدون بأصابع اليد الواحدة .. بجانب أسرته الصغيرة ! رحمه الله وأسكنه في العليين مع القديسين والأنبياء والشهداء
    (2)
    وكما حدث بعد وفاة الفنان (بهنس) حيث امتلأت وقتها كل المواقع الالكترونية بالمرثيات، يتكرر الآن نفس المشهد الرتيب بعد وفاة الفيتوري .. حيث تذُرف الدموع، ويسكب الرجال والنساء آخر مخزون دموعهم في السرادق الاسفيرية التي نصبوها لتقبل العزاء في الراحل .. وبما انني كنت قد تصفحت كل تلك المآتم الهوائية بعد وفاة (بهنس) .. صعقني ذلك العدد المهول من معارفه وأصدقاءه . وفي مأتم أسفيري نُصب على موقع سوداني شهير عددت أكثر من (50) ناعياً من مختلف بقاع الأرض عرفوا أنفسهم بأنهم أصدقاء مقربين من الراحل ! فتساءلت في سري أين كان هؤلاء القوم ؟ وكيف يموت بالعزلة والجوع والبرد من له كل هذا الكم من الأصدقاء ؟ فهالتني المقاربة، بأن هذ العدد الكبير من أصدقاء (بهنس) اللذين ظهروا فجأة ، يشبهون أقارب غريق ماركيز
    .
    (3)
    لم يمت (بهنس) صبيحة 17 ديسمبر كما أخبرنا الناعي .. لقد كان يمشي في طريق الموت منذ عامين ، بل ظل وطوال تلك المدة يموت ببطء أمام جموع السودانيين الغفيرة التي لم تحرك ساكناً ، بل ان أحدهم وأنا شاهداً على ذلك كان يهرب من مجرد السلام عليه تأففاً وتكبراً ، هذا ( ال أحدهم ) وجدته محشوراً في زمرة أصدقاء الراحل بعد موته ينوح عليه بل ويتلقى فيه العزاء في أحد ( المآتم الهوائية) المنتشرة ! وكان وبلا أدنى خجل يكتب عن علاقته بالفقيد الراحل ، معدداً مناقبه مبدياً مشاعر إنسانية كذوبة ، ويا للهول

    ..
    (4)
    يا للهول ، لأن قلب بهنس لم يتوقف بفعل موجة البرد اللعينة تلك ، لقد تعرض قبلها لموجات من الحر والبرد والجوع والمرض إذ ظل طوال عامين يمشي هائماً ، مكباً على وجهه بين أزقة وحواري القاهرة . لم يكن رحمة الله وهو في أشد لحظات مرضه يتسول الطعام ، حيث كان شفيفاً عفيفاً طاهراً .. لم يكن بحاجة إلى مال أو تذكرة سفر تعيده إلى وطنه ، بل كان في أمس الحاجة إلى من يأخذه إلى مستشفى الأمراض النفسية ، كان في حاجة إلى الأصدقاء أيام محنته ، إلى من يحس بآلامه وأحزانه ، كان بحاجة إلى من يحبه بذات قدر الحب الذي عاش به ومن أجله ، بل ونظمه أغنيات على شفاه الآخرين ، كان في في حاجه للحب واهتمام الأصدقاء الذين برزوا (فجأة) في مآتم الهواء الكذوبة ، هؤلاء الذين لم يجد حين حاجته تلك إلا قلة منهم .. وبهنس لم تقتله موجة البرد وانما قتلته الضمائر الميتة، مات بسبب موت الحس الإنساني فينا ، بسبب طغيان المشاعر الكاذبة وصلات القربى الخيالية ، إذن ليس غريباً أن تعقد كل هذه المآتم الهوائية ، فهي مآتم على قدر علاقاتنا الحقيقية، مآتم هوائية لعلاقات هوائية تذهب مع أول هبة ريح وفي أول امتحان للعلاقات الانسانية

    (5)
    وها انذا أرى نفس الوجوه الرثة وهي تنظم المراثي المملة على شاعرنا الفيتوري الذي لم يمت أول أمس كما أخبرنا الناعي ..بل كان يمشي في طريق الموت منذ أكثر من (5) أعوام ! .. حيث ظل وطوال تلك المدة يموت ببطء أمام هذه الجموع الباكية الكذوبة .. التي لم تحرك ساكناً .. وها هي نفس الجموع التي لم تسأل عنه في أيامه الأخيرة وهو يقاسي الوحدة والمرض والحاجة .. ها هي تنظم الآن المرثيات على مواقع التواصل الالكترونية ، وتذُرف الدموع ( الكيبوردية ) ، في السرادق (الاسفيرية) الكثيرة التي نصبوها لتقبل العزاء في الراحل
    !
    (6(
    مات بهنس ومات الفيتوري ، هذه هي الحقيقة ، ولأن مجالس العزاء ليست للوم والتنابذ ، وإنما للعظة والعبر، فدعونا نقر أن (الفيتوري) كما (بهنس) .. كان أجملنا شكلاً ومضموناً، وأعذبنا صوتاً وأرفعنا قامة ، فلنعتبر من وفاته كما فعل أهل القرية في رواية ماركيز إذ انتابهم شعور عارم بسبب ذاك الغريق الجميل بأنهم أقزام أقل قامة منه ، عرفوا أن بيوتهم تحتاج إلى أبواب عالية ، وانهم في حاجة إلى أسقف أكثر متانة وقوة لتحمل المصائب، قرر سكان القرية طلاء منازلهم بألوان زاهية احتراماً لذكرى ذلك الغريق، قرروا حفر الآبار في الصخور وزرع الأزهار كي يستنشق بحارة السفن القادمة عند الفجر رائحة الزهور، وكي يضطر القبطان إلى النزول من أعلى السفينة وهو يشير ناحية القرية، متحدثاً بكل لغاتِ العالم :(أنظروا هناك حيث) هدوء الريح ينقل شذى الزهور، وحيث ضوء الشمس والحياة

    تعلم سكان تلك القرية معنى الحب ، وهذه هي المسؤولية التي تركها لنا الفيتوري و قبله (بهنس) .. خاصة وأن بلادنا يتهتك نسيجها الاجتماعي يومياً بفعل السياسات الشيطانية للعصابة (الإسلامية) ، ونحن بحاجة إلى ذلك الترابط الذي سكن قلوب أهل تلك القرية ، بحاجة إلى نثر الحب في ربوعنا ، في جبال النوبة ، ودارفور ، والنيل الأزرق ، والشرق ، كردفان ، والجزيرة وفي الشمال ، بحاجة إلى إظهار حبنا الحقيقي لا الهوائي لكافة أهل بلادنا ، محتاجين إلى إشاعة روح التضامن الحقيقية بيننا لنتجاوز ظلمة ليالينا الحالكة ، وهذا ما تركه الفيتوري وقبله (بهنس) فينا .. لأن أمثالهم يشعون في العتمة .
    ألف ورحمة ونور عليك يا بهنس
    ألف رحمة ونور عليك يا فيتورى
    من كتب هذا
    لا ادري

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..