عبد الخالق قال لوردي أبعد دمك من حزبنا

(حاولت منذ تفرغي للعمل الثقافي بالحزب الشيوعي (1970-1978) أن “أهادي” الشيوعيين للرفق بالمبدعين فلا يجارطونهم بمحكمات سياسية سنينة وقطيعة وبفسالة. وكانت ذروة جهدي وثيقة “نحو حساسية شيوعية مبتكرة تجاه الإبداع والمبدعين” التي كتبنها في نحو 1975؟ أو ما بعده قليلا. وكنت رأيتهم “نجروا” في ود المكي بعد نشر قصيدته “فرح في حديقة عشب قديم” التي احتفى فيها بإتفاق أديس أبابا 1972 . وهو الاتفاق الذي نسبه الشيوعيون للإمبريالية ومجلس الكنائس وحاجات تانية. وخشيت كذلك أن يغلظوا على الطيب صالح الذي وشحه النميري وساماً ما فأغتبط الكاتب له وأثنى على “استنارة” الطاغية.

وكان الفيتوري بتقلباته الذكية هو “أرنبة” مباحثي التطبيقية على ضوء “نحو حساسية”. فدعوت، متى حاكموه في تقلباته النظامية (موقفه من النظم)، أن يفصلوا بين “صندل الشعر” و”جمر السياسة” (عبارة موفقة من ود المكي). فيعطوا الشعر حقه إعزازاً للشاعر كما قال لهم ماركس).

وهذه كلمة من شغل تطبيق “حساسية” على الفيتوري نشرتها قبل سنوات:

نشأ الجيل اليساري في الخمسينات والستينات على وحي الشاعر الثوري كبطل. يكفي أن الذي زكى لأكثرنا سكة اليسار هو الشاعر المصري كمال حليم بقصيدته المانيفستو “عيد ميلادي” التي قال فيها إنه لا يعرف لنفسه يوم ميلاد سوى ذلك اليوم الذي كافح فيه وأحب الكفاح. وقد سرت مسرى النار في أرواح شعراء الطليعة من مثل صلاح أحمد إبراهيم ومحمد عبد الرحمن شيبون. وما زلت اذكر يوم حدثني الأستاذ عبد الرحمن الشرقاوي عن السوداني الذي زاره في القاهرة وتلا عليه قصيدته “من أب مصري إلى الرئيس ترومان” التي حفظها عن ظهر قلب. كان الشعراء الثوريون يزاحمون منكباً بمنكب قادة الأحزاب الشيوعية. كان ما يكوفسكي نداً للينين. وكان إليوار الفرنسي في علو شأن توريز، سكرتير الحزب الشيوعي الفرنسي. وكان بابلو نيرود الأرجنتيني. وكان ناظم حكمت التركي. وربما نرد الشاعرية الطاغية في جيلنا اليساري إلى قدوة شاعر الثورة البطل. وهي شاعرية أفقرت إمكانياتنا الفطرية الأخرى في التنظير وبناء الإسترايجية لتفكيك تراكيب المجتمع ورسم التكتيك أي علم الثورة نفسه.

أحاول منذ أسبوع وأكثر مراجعة ثورية الشاعر الفحل محمد مفتاح الفيتوري على ضوء نشيده “اصبح الصبح فلا الشجن ولا السجان باق”. وكنت نبهت إلى أن الفيتوري لم يتورع عن مضاجعة نظام 17نوفمبر. وقصيدته في تحية مقدم انقلاب 17 نوفمبر 1958 مرفقة بهذا المقال لغرض التوثيق ولملاحظة أنها خالية من كل إشارة للواقعة التاريخية المخصوصة موضوع ثنائه مما يجعلها صالحة لكل تغيير سياسي في كل زمان ومكان تقريباً. وكتب الفيتوري في الخلاص من نظام عبود بثورة أكتوبر نشيده الذي شغل الناس وتٌكَلِب له شعرة السودانيين متى سمعوه. وعلمت ممن أثق في روايته أن الفيتوري قال في لقاء ما إنه لم يكتب النشيد خصيصاً للثورة بل كان قصيدة عمومية عن تحرر أفريقيا وغير أفريقيا من ذل القهر وافتضاح السجن. فهي قصيدة قديمة صادفت هوى في الأفئدة. فقد كانت القصيدة المناسبة في الوقت المناسب. وحليم أدى غشيم.

وقد أسعدني أن لشاعر لم يزعم لنفسه موقفاً ثورياً يستثمر فيه عائد النشيد. ومما يؤسف له أن هذا النشيد قد دفع بالفيتوري إلى مصاف الشاعر الثوري بغير جريرة منه. فنجد الجمهرة اليسارية تحاكمه بهذا النشيد وآخر في رثاء عبد الخالق محجوب متى لم يتوافق مع توقعهم من الشاعر الثوري البطل. فقد طالب يساريون من الحكومة بعد انتفاضة أبريل 1985 أن ترد له مواطنته ودعته للخرطوم واحتفلت به أيما احتفال. ولم يلبث أن لبى الفيتوري دعوة لدولة الإنقاذ لتكريمه فأنقلب عليه اليسار وعد ذلك منه “سقوط في الرضى” من مقطع عذب للفيتوري نفسه.

هذه الذبذبة حيال الفيتوري هو ما جنته على اليساريين عقيدة الشاعر الثوري البطل. وربما أدرك الأستاذ عبد الخالق بحدسه الأنيق فساد هذه العقيدة وأراد تداركها. فقد حدثني الأستاذ محمد وردي أنه في ريعان ثورة أكتوبر وكنوزها “التي انفتحت من باطن الأرض تغني” التقى بعبد الخالق وصارحه برغبته في الانضمام إلى الحزب الشيوعي. وقد راجعه عبد الخالق في طلبه ونصحه أن يبتعد ب”دمه” من حزبه الذي لم ينم عادة الرفق بالشعراء والفنانين. وقال له:”تدخل معانا يا وردي باكر يدوك جردل وبوهية عشان تكتب شعارات على الحائط وإن ما جيت بشكوا فيك بلاغ. نحن نحتاج إليك بالفعل كمغني ماهر.” وربما استرجع عبد الخالق في نصح وردي بعض متاعب الشاعر صلاح أحمد إبراهيم. فقد استنكف كتابة الشعارات على الجدران وقال إن بوسعه أن يساعد الحزب في جبهة الفكر. فخرج عليه كاتب بجريدة الميدان الشيوعية يقول له يعني عاوز تعمل علينا لقمان الحكيم. وقد تمتع وردي بقدوة الفنان الثوري وحفت به قلوب اليساريين حتى غازلته الإنقاذ فطردته الأستاذة سعاد إبراهيم أحمد من نوط “فنان الشعب” وسَقَطها.

سيكون بيننا فنون ثوريون وشعراء أبطال. خذ عندك محجوب شريف. ونتمني من الله أن يكثر الله علينا من أمثاله. ولكن الدرس المستفاد هنا أن ثورية المبدع ليست قاصرة على جراءة موقفه السياسي. فهذا فرض كفاية. أما فرض العين فهو أن يحملنا لنرى العالم من حولنا بعيون جديدة تعيننا بفضل نورها الشعشعاني للنفاذ إلى خطة لخلق الوجود المغاير كما قال التيجاني يوسف بشير. وكفى. وهذا شغل لا ينقطع للمبدع في مادة العالم وشاغل لا برء للمبدع منه في إتقان أدواته.

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. عاوز يذكى نفسة فى البيعمل فيه والناس تكون عادية معه لانه اديب ولابد من اعمال الحساسية وهو هنا مـألم دون ان يفصح وعاوز يبررلنفسه

  2. فعلا الشاعر والفنان لو تأدلج الى جهة سيفقد احساس قطاع كبير من أمته الا اذا كانت تلك الايدلوجية هي الحق المطلق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ويؤمن بها كل الشعب،،،

  3. ما شاء الله أيها دكتور عبد الله على ابراهيم فقد نقلتنا نقلة عظيمة ومثال حى فيما دار بين عبد الخالق محجوب والفنان وردى حين نصحه أن يبتعد ب”دمه” من حزبه الذي لم ينم عادة الرفق بالشعراء والفنانين.وهذه كياسة ما بعدها كياسة وفطانة ونظرة فاحصة الى الواقع السودانى الملىء بمثل هذه العجائب التى لو تناولناها بمثل هذا المنظور الواقعى وليس الثورى لكنا تقدمنا . ولكن الناظر الى مواقف الحزب الشيوعى بعد قيام مايو أنه لم ينظر بواقعية والى المستقبل الذى يمكن فيه أن يخدم قضية الشعب السودانى فقام بوصم مايو من أول يوم بالبرجوازية الصغيرة وأنقسمت عضويته التى لم يسيطر عليها فأبانو عورة الحزب وأسراره بقيادة الأستاذن أحمد سليمان ومعاوية سورج الذى نتج عنه فى النهاية الصدام الذى أودى بالحزب الشيوعى الى مصيره حتى أصبح فى موقع النسيان وبقائده الفذ عبدالخالق محجوب الذى قال عنه أحد زعماء حزب الأمة بانه دائماً ما يأتى بالأفكار النيرة التى نأخذ منها المفيد بالنسبة لنا . اللهم أرحم ذلك القائد السودانى عبدالخالق محجوب والذى كان رده فى المحكمة عندما سُئل : ماذا قدم لشعبه قال ” الوعى ” ؟

  4. يا اخي من اطرف الحاجات عند الشيوعيين قصة البلاغات دي ، اشكوا فيك بلاغ ، ما اروع ذلك وابرأه ( من البراءه الثورية ).

  5. الانظمة الشيوعية ديكتاتورية وعندكم ما فعلته الثورة الروسية الشيوعية وما فعله الجورجى ستالين فى شعبه ومعارضيه فقتل الملايين وكذلك ماوتسى تونج وكذلك الانظمة البعثية والقومجية والنازية والفاشية واخيرا الاسلاموية وايران والسودان وطالبان كمثال!!!
    الانظمة التى تستحق الاحترام وتخلق شعوبا محترمة وقوية ومتطورة فى جميع المجالات هى الانظمة الديمقراطية الليبرالية التى تحكم بسيادة القانون والدستور وطبعا هى ما كاملة لان الكمال لله لكن هى احسن النظم فى العالم وارفع قبعتى لها تحية وابصق فى وجه اى حكم ديكتاتورى عسكرى او عقائدى يمينى او يسارى او اسلاموى !!!
    كسرة :لا امل من قول الف مليون دشليون تفوووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووو
    ووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووو على اى انقلاب عسكرى او عقائدى عطل التطور الديمقراطى فى السودان وخلانا بقينا زبالة وحثالة بدل ما نبقى نجوم زى الهند وبريطانيا وغيرهم من الدول الديمقراطية اخ تفووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووو
    وووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووووو!!!

  6. وسيظل الشهيد البطل عبد الخالق محجوب نخلة سامقة وقمرا مضيئا ونبراسا للوعي وسط الظلام ,,,
    وستظل هذه العقدة تلازمك ع ع أ ما حييت !!!

    وما هذه الأمثلة التي سقتها إلا محض تبرير تحاول أواخر العمر أن تبرر به لنفسك !!! ولكن هيهات أن تقنع الآخر بما أنت غير مقتنع به في دواخلك !!!
    وتقول في نفسك كما قال عنترة : ( ولقد خشيت بأن أموت ولم ** تدر للحرب دائرة علي ابنيّ ضمضم ) !! وأبا ( ابنيّ ضمضم ) لم تأكله جزر السباع ولم
    يلمسه القشعم !!! وعبد الخالق في عليائه شفيفا نزيها كريما لم يهن ولم يلن ولم يداهن مبتسما ساخرا من ( الأشباه ) ومن ال ( م. م. ) !! ولك أن
    تسأل ( حبل المشنقة ) عن ذلك ؟ .

    سؤال برئ :-

    متي ستكتب عن إسلاموييك ( الجدد ) ؟؟؟ في البرزخ ؟؟؟

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..