المركز والنظرية التخوفية من أبناء دارفور

رأي

المركز والنظرية التخوفية من أبناء دارفور

محمد عيسي عليو

٭ منذ أن عرف السودان عرفت معه دارفور بكل ايجابياتها وسلبياتها، وما حكم احد السودان إلا وكانت عينه على دارفور، اما ان تكون تابعة له ولكنها تابع ثقيل مضن قاسٍ على المسير، وإما أن تكون خارج سلطته وليست بالجار هادئ الطبع، وإنما جار شرس يقتنص الفرص حتى ينقض. لذلك أحياناً يتبع المركز مع دارفور سياسة شد الحبل حتى ينقطع، وكل شواهد التاريخ تشير الى هذا السياق، ففي الحكم التركي الذي لم يستطع السيطرة على دارفور بعد استعماره السودان الوسط، ظل يتربص بها وظل الدارفوريون يتربصون به لاستخلاص اخوتهم السودانيين من براثن الاستعمار، وظلت الحروب سجالا بين الاتراك والدارفوريين حتى أخضعهم الاتراك بعد ثلاثة وخمسين عاماً من الصراع، ولكن لم ينعم الاتراك بحكم دارفور إلا سبع سنوات قامت بعدها الثورة المهدية عام 1881م ليكون الجنود الدارفوريين وقوداً لها مع الوطنيين السودانيين، لينهزم الاتراك. ولما آتت الفرصة للدارفوريين لم يضيعوها، فكان حكم الخليفة عبد الله التعايشي الذي وصم بحكم الغرب، ولا زالت المذكرات التاريخية تتوالى حوله أهو حكم المهدية؟ أم حكم الغرب؟ ام حكم الدارفوريين؟ ام حكم التعايشة أم حكم الجبارات، وهو البطن الذي ينتمي اليه الخليفة في داخل قبيلة التعايشة.
ولما دان الحكم للانجليز الذي عرف بالحكم الثنائي في الفترة 1898 وحتى 1956م، كان علي دينار ممثله في دارفور، ولكن علي دينار وبعد خمسة عشر عاماً من حكم دارفور الذي كان بعيداً عن الانجليز، رأى ان يعيد ملك اجداده، ومن ثم يزحف كما زحف جده السلطان تيراب الذي مضى في حروبه مع المركز حتى غزا ام درمان وهزم العبدلاب في الحلفاية، ولم يكتف بذلك حتى وصل شندي. فما المانع في أن يكرر علي دينار المنوال، فأعلن الاستقلال وخرج عن الطوع، بل اتحد مع السلطان عبد الحميد في الاستانة الذي كان في تنسيق مع المانيا في ما سمي بدول المحور ضد الحلفاء الذين تتزعمهم بريطانيا. ففكر علي دينار في السيطرة على الخرطوم، ولكن الانجليز كانوا له بالمرصاد، فغزوا الفاشر وانهوا حكم سلاطين الفور الذي امتد من1504وحتى 1916م، حيث قتل السلطان علي دينار على يد القائد البريطاني هدلستون في واقعة برنجية، وانتهى حكم الفور الى يومنا هذا.
ولكن لم يهنأ الانجليز بدارفور، فقد قامت الثورات تلو الثورات والحركات المناهضة، بدءاً من ثورة الفكي سنين بكبكابية التي شنها على السلطان علي دينار والحكم الثنائى في آن واحد، واعقبتها ثورة الفكي السحيني في1921بنيالا، مروراً بالانتفاضات وهروب المساليت وحرق العلم البريطاني في مسيرات صاخبة ضد الاستعمار عام 1948م. وهكذا حتى نال السودانيون الاستقلال باقتراح قدمه أحد أبناء دارفور، وهو الامير عبد الرحمن دبكة ابن الناظر عيسى دبكة ناظر البني هلبة.
ولما جاء الحكم الوطني كانت النظرية التخوفية التي تجيء دائماً بشخص ليس من أبناء دارفور لتحكم الاقليم. والنظرية التخوفية فن من فنون الحكم، فجاء ابو سن حاكماً لإقليم دارفور في السنوات الاولى لاستقلال السودان، ثم خلفه أحمد مكي عبده، ثم عثمان محمد حسين فالطيب المرضي، وكلهم من خارج الاقليم، ولما كلف أحمد إبراهيم دريج عام 1891 وهو اول حاكم من أبناء دارفور بحكم دارفور منذ سقوط علي دينار عام 1916، لم تكن حياته لبناً على عسل مع حكام مايو، وظلت الحالة السياسية بين دارفور والمركز في شد وجذب، فما أن يقرر دريج شيئاً إلا وتجهضه بطانة نميري تحسباً للنظرية التخوفية التي تعشش في ذهن المركز، حتى خرج دريج من السودان عام 1984م تاركاً حكومة كاملة في دارفور، وتعتبر ايضاً حكومة منتخبة بما فيها حاكمها دريج، إذ دخل في منافسة حقيقية رغم أنها في اطار الاتحاد الاشتراكي، ولكن منافسة صادقة مع عناصر أخرى في إطار الخلاف الايديولوجي في ذلك الوقت. فترك دريج كل هذه المقومات فاراً بجلده لا لسبب غير الإمعان في النظرية التخوفية التي زرعها التاريخ في ذهن المركز. وحتى في إطار النظام الديمقراطي لم تبارح تلك النظرية مكانها، فقد حكى لي احد الإخوة من دارفور وهو قريب جداً من القيادة الليبية، قال ان هناك مشاريع جئت بها من العقيد القذافي لدارفور من ضمنها طريق الكفرة الفاشر، وكان المرحوم د. عبد النبي علي أحمد حكماً على الاقليم، وما أن شرعنا في مناقشة هذه المشاريع، حتى جاءت شخصية مركزية قريبة جداً من حكومة السيد الصادق المهدي للفاشر وألغت كل هذه المشاريع بجرة قلم، دون ادنى مسوغ أو مبرر، ولا يعني ذلك إلا إمعاناً في تطبيق النظرية التخوفية. وفي عهد الانقاذ توالدت هذه النظرية التي قضت تماماً على مشروع طريق الغرب، بل بددت الاموال الخاصة بالطريق التي جلبت من حر اموال الدارفوريين. والأسوأ أن هذه الاموال بددت بأيدي أبناء دارفور بالتآمر مع المركز، بدليل ان د. علي الحاج وهو من ابناء دارفور، يقول «الحكومة عارفة هذه الاموال مشت وين»، واتحدى ان يحاكمونني، ولما سُئل اين ذهبت هذه الاموال، قال قولته المشهورة (خلوها مستورة)، والحكومة من جانبها قالت شكونا الذين أكلوا اموال طريق الانقاذ الغربي لله. فهل نصدق هذا؟!
كل هذه الفذلكة التاريخية التي سردتها، اردت بها ان اصل للخلاف الاخير الذي دار بين د. عبد الحميد موسى كاشا والي ولاية جنوب كردفان ووزارة الخارجية، والقصة خلاصتها ان الوالي عبد الحميد طرد بعض المنظمات التي رأى أنها منظمات مشبوهة، فقام موظف صغير في وزارة الخارجية بتوبيخ الوالي عبد الحميد، ولا ينتابني ادنى شك ان النظرية التخوفية لا زالت تلاحق أبناء دارفور، بمعنى لا تجعلوا عيونكم تغيب لحظة عن ممارسات حكام دارفور من أبناء دارفور، والقصة أشبه بسباق الخيل، فإذا كان هناك حصان سريع فالنظرية تقول على الخيل الاخرى ان تضايقه حتى لا ينفرد بالميدان، واذا ما انفرد فلا حصان آخر يمكن أن يلحق به.
عبد الحميد كاشا والي (وكمان منتخب) ويعتبر نائباً لرئيس الجمهورية في ولايته، كيف يوبخه موظف بأقل من درجة وكيل وزارة لولا هندسة المشاغلة الجانبية لتصرفه عن الأداء المطلوب حتى لا يفكر كأسلافه القدامى، وهذا خطأ واضح فضح النظرية بأسرها لأنهم لم يجيدوا الحبكة، فعبد الحميد طرد المنظمات المشبوهة في نظره من ولايته وليس من السودان، كما أن الرئيس نفسه أعلن صراحة امام الدستوريين من أبناء دارفور عندما كرموه أخيراً في قاعة الصداقة، أنهم مخولون بطرد أية منظمة مشبوهة. فكيف بهذا الموظف ينتقد هذا الوالي جهاراً نهاراً، مما يضطر الوالى لرد الصاع صاعين، ويعلن شكواه ضد وزارة الخارجية. ومن العجب تتوسط امانة المنظمات في المؤتمر الوطني بين الفريقين، قولوا لي بربكم ما دخل حزب في خلاف بين أجهزة الحكومة، إلا أن تكون الحكومة هى الحزب والحزب هو الحكومة (أنا الدولة والدولة أنا). وما يهمني في كل هذا تطبيقات النظرية التخوفية التي من المفترض ان تجعل حاكم دارفور مشتت الذهن مرعوباً من المركز، حتى لا يفكر في حاجة ثانية، طبعاً أخوينا ابراهيم يحيى طبقت فيه نفس النظرية عندما حاول أن (يفرفر)، ولم لا وهو سليل سلاطين دار مساليت، فتُرك جانباً وهو حاكم وجيء بالفريق الدابي ليؤدي الرسالة. فما كان من أخينا ابراهيم يحيى إلا أن التحق بالتمرد ليشفي غليله، ولا شك أن التمردين وتحسباً من التطويق الناعم بالثوب الحريري ثوب السلطة، كما فعل بأشياعهم من قبل، ذهبوا بعيداً ونسجوا خيوط مؤامرتهم بعيداً عن المركز ليصنعوا قنبلتهم التي انفجرت قبل اوانها لتحرق الاخضر واليابس وتقطع النسل، وعم خرابها الجميع، ولم ينجُ منها المركز نفسه الذي ركز بنظريته التخوفية على مجموعة السلطة، فجاءه غول التمرد من حيث لا يحتسب، وكما قال المثل المرض الذي يقتلك تحاول تجري منه ولكنه يلحقك. واعتقد قد آن الأوان للاستغناء عن هذه النظرية التي على الأقل انتهت بفعل التقادم، ولا بد من البحث عن نظرية جديدة تولد الثقة وتبدد الوهم وتفتح صفحة جديدة.

الصحافة

تعليق واحد

  1. الاستاذ محمد عليو ما قلت الا الحق , لا ن المركز لايرى في ابناء الغرب اي شي جميل على الرغم من تعليمهم وخبراتهم في شتى مجالات الحياه لكن بمجرد مطالبتهم بالحكم مثل رصفائهم الشماليين الا وصفوا بانهم متمردين وخونه مع ان التاريخ عارف الخونه منو الذين سمحوا للمستعمر الدخول لارض الوطن

  2. الظاهر صاحبنا غضبان لابعادة من وفد الحكومي المفاوض في الدوحة ,, كنت اقرأ له باستمرار وكنت انصت اليه بانتباه عندما جاء الي الدوحة ضمن المسهلين قبلها ينقلب فجاة الي فريق الحكومي المفاوض وسب حزب الامة !!! نحن في دارفور نخاف امثال عليوه اكثر من المركز لاته متذبب

  3. نشكرك أخي واستاذي الجليل /عليو ماقلت الا الحق والساكت عن الحق شيطان اخرص هذا ماوجدناه من الذين يدعون هم اصحاب البلد ولولا الدارفوريون لما وجدوا البلد لان بعضهم فر الي الحبشة والبعض الاخر انضم للمستعمرلمحاربة اهله وبلده هذه خيانة عظمي للبلد. ولما انزنقوا زنقة زنقة وشارع شارع لم يجدوا من ينقذهم الا أهل دارفور والتاريخ يعيد نفسه والآن هم مزنوقين زنقة زنقة فلا ندري الي اين يفرون لأن علاقتهم مع اهل دارفور ساءت وستسوء لأن الدارفوريون تعلموا من التاريخ فلن يضيعوا حقوقهم فلم ولن يكونوا إميعة فنقول للسيد الوالي ارفع راسك فوق لاتحنيه لأحد إلا للواحد الديان .ونشكرك انت ياعليو علي الحقائق التاريخية التي ذكرتها بالتفصيل ومن لايعرف فليعرف من الآن ان الدارفوريون لايستهان بهم هم قوة ضاربة كمد تسونامي ينتظرون الفرصة المواتية للانقضاض عليكم فاتركوا الشعار المسموم الذي رفعتموه منذ القدم وحتي الآن divide and rule بسبب السياسات البائسة والخاطئة وحب الكراسي فقد انقسم جزء عزيز من الوطن والباقي ده عليكم الله لملمو اطرافه لانكم ماشين ماشين بدون كلام حتي لايذكركم التاريخ بتقسيم السودان الي دويلات متناحرة وان كنتم اسوأ حكام يمرون علي تاريخ السودان منذ اقدم العصور.اللهم فاشهد اني قد بلغت.

  4. نشكر كثير الشكر علي المعلومات الجيدة يازعيييييييييييييييم دارفور ,الجلاب يكرهو شعب دارفور كرها لا بعد له , ويقول فيهم اكثر ماقاله مالك في الخمر,والمثل يقول الجمل لم يعرف عوجة رقبته ,هم شوهه الدوله السودانية وشوهه شعب دارفور لكن نحنو لهم بالمرصاد بكرة وعشيا ,وشعب دارفور لن يكون مخزون بشري استراتيجي للجلاب ,ونحنو مع وحدة شعب وحقوق شعب دارفور

  5. لك التحية الاستاذ محمد عيسى عليو على هذا السرد الناصع لحقائق التاريخ وتحليل الوقائع ومآلات نظرية التخوف من أبناء جزء عزيز من الوطن عرفوا بالصدق والوطنية. وقد ابتدعت الانقاذ نظرية خاصة بها على نسق فرق تسد بين أبناء هذا الاقليم الذين كانوا هم قادة ووقود الحركة الاسلامية في ميدان الحارة، ولكنهم – أي أبناء دار فور – لم يستبينوا نصح داود بولاد الذي وعى بنظره الثاقب ما يضمره المركز وقادة الحركة الاسلامية من أهل الشمال لأبناء اقليم دار فور، فدفع بولاد حياته ثمناً لوعيه المتقدم، ثم أدرك أبناء دار فور أنهم كانوا في غشاوة كثيفة من حسن النوايا، فكان بعد انقشاعها ما كان من حرائق قضت على الانسان والمستقبل في دار فور، ومازالت المؤامرات تحاك لمزيد من التقسيم على انسان وأرض دار الفور.

    ولكن الأمر المؤسف والمحزن أن بعضاً من أبناء دار فور في ما يسمى بالحركة الاسمية، أو المؤتمر الموطني، باعوا انفسهم وأهليهم بقليل من مناصب ودراهم الانقاذ، وأصبحوا يتساقطون في براثن شياطين المؤتمر الوطني، ويقعون في شراك المناصب والوعود ويتقاذقون وتصارعون في فيما بينهم اصطراعاً على فتات موائد الانقاذ التي تعرف كيف تكيد وتغريهم وتتلاعب بهم وتزرع الفتنة بين جماعاتهم والبغضاء بين أفرادهم في التنظيم الواحد. فبعد كثير منهم عن معاناة وقضايا انسان ادار فور وحاجته للأمن والتنمية والاستقرار والأرض السليبة التي استجلب لها الأغراب.

    أقول ذلك مستحضراً حديثا لي مع أحد أصدقائي من أبناء دار فور يحمل أعلى المؤهلات العلمية وينحدر من أسرة عريقة وحسيبة، بعد عودته من إجازة قصيرة في السودان صدمني قائلاْ أنه سيعود لينال نصيبه في المناصب قبل أن يفوته الركب.. فلكم الله يا أهل أهل دار فور القابضين على الجمر في معسكرات النزوح واللجوء .. فقديماً قال أهلنا .. النار بتخرا الرماد.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..