خرافة (أُسْطورة) الزانة

خرافة (أُسْطورة) حفير الزانة
Zanneia
دونالد فريدريك هاولي Donald. F. Hawley
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذه ترجمة لمقال قصير للسير دونالد فريدريك هاولي (1921 ? 2008م) عن قصة خرافية (اسطورة) من غرب السودان نشرت في العدد السابع والعشرين من مجلة “السودان في مذكرات ومدونات” والصادر في عام 1946م.
درس السير دونالد فريدريك هاولي القانون في جامعة أكسفورد، ثم تطوع في سنوات الحرب العالمية الثانية للعمل في الفرقة السودانية بالجيش البريطاني في شمال أفريقيا. ثم التحق في عام 1944م بالقسم السياسي في حكومة السودان (حيث عمل مساعدا لمفتش مركز مناطق كوستي والنيل الأزرق والقضارف وكسلا)، والتحق بالهيئة القضائية في عام 1947م. وفي عام 1955م استقال من وظيفته للالتحاق بالسلك الدبلوماسي البريطاني، حيث عمل في الإمارات المتصالحة (ومركزها دبي) وبالقاهرة ولاجوس وبغداد ومسقط وماليزيا.
وللرجل عدة مقالات وكتب عن السودان (أشهرها “حكايات كانتربري السودانية”) وعن الخليج العربي (منها كتاب من جزئين فيهما نصائح للغربيين عن السلوك والمظهر و”الاتكيت” في الخليج العربي).
المترجم
يتداول عرب البقارة بالنيل الأبيض وأتباع المك آدم في تقلي أسطورة اسميها “أسطورة الزانة”، وهي لا تكاد تختلف عن أسطورة رومنطيقية أكثر شهرة هي “أسطورة الزرزورة” والتي يحكيها العرب عن واحة مفقودة (أفادني صديق بأن تلك الأسطورة قد تكون إحدى أساطير الطوارق وقبائل التبو، ويروى أنها واحة بالصحراء الكبرى. وزعم حاكم عام السودان من بعد سير دوغلاس نيوبولد في كتابه (The Making of Modern Sudan) أنه طَوّفَ بالصحراء شمال كردفان ودارفور عسى أن يعثر على تلك الواحة الخرافية ولم يجد لها ? بالطبع – أثرا. ولمزيد من المعلومات عن تلك الأسطورة يمكن الاطلاع على ما ورد عنها هنا: [url]https://en.wikipedia.org/wiki/Zerzura[/url]).
يقال إن “الزانة” هي حفير ضخم يوجد بين “دار الأحامدة” ومملكة تقلي، لا يغور مائه في الأرض طوال العام، بل يظل طازجا زُلاَلاً في كل الفصول، ويملأه في موسم الأمطار خور يأتي من جهة الغرب. وتنتصب في المكان شجرة زان ضخمة سمي الحفير باسمها، وتحيط به أشجار السنط والأندراب، مع كثير من شجيرات الكتر. وتطفو على سطح الحفير زنابق الماء (water lilies) مثل “الستيب” و”أم بانقيقا”. ويعج المكان بطيور كثيرة متنوعة مما يجعله يبدو كمحمية ضخمة للطيور. غير أنه لم تكن هنالك أي مجموعة سكانية دائمة الاستقرار حول ذلك الحفير. ورغم أن كثيرا من الناس قد زعموا أنهم شاهدوا ذلك الحفير مرة واحدة من قبل، إلا أنه ما من أحد زعم بأنه قد رآه تارة أخرى. وأخفقت كل محاولات من زعم أنه رأي ذلك الحفير في أن يدل الآخرين على مكانه.
تتميز “دار الأحامدة” في الجزء الجنوبي الغربي من منطقة كوستي بمناطقها البَرِّيَّة الجافة المسطحة. غير أن تلك الأراضي يمكن أن تكون مناطق زراعية غزيرة الإنتاج إن توفرت فيها مياه الشرب لسكانها، وتصلح فيها زراعة الحريق (لعل الكاتب يقصد حرق بقايا الزراعة القديمة وما نبت من شوكيات ونحوها لإعداد الأرض للزراعة في موسم الفيضان أو الأمطار ولقتل الآفات، وليغدو الرماد المتخلف عن الحريق سمادا للأرض. المترجم). وعرفت هذه المنطقة قبل دخول العرب إليها بـ “الباجا El Baja”، وكان سكانها من العنج، والذين أقاموا بتلك المنطقة وعمروها بحفرهم لعدد كبير من الآبار والحفائر العميقة. وكانوا يزرعون الذرة ويجنون منها محصولا وافرا. وكان الأحامدة يغنون لهم وهم يدرسون الذرة (أي يفصلون حبوبها عن سنابلها):
يا أولاد تكيم
الل ما جو رقدوا رديم
بان خادما سموها نور
بان فولتا تمساح هكور
بان بيتا سمحات رفوفا
بان جورنا تقلي تشفها (تشوفها)
وجاء قولهم “بان فولتا تمساح هكورا” بسبب أن العنج كانوا قد أحضروا تماسيح صغيرة من النيل وألقوا بها في حفائرهم العميقة لتنمو وتغدو تماسيح ضخمة الحجم.
وبعد أن أعادت الحكومة احتلال المنطقة قامت بإعادة حفر بعض حفائر العنج القديمة لتشجيع السكان على زراعة تلك المنطقة الخصبة. غير أن هنالك الكثير من المساحات الشاسعة التي تغطيها غابات أشجار الكتر الكثيفة في المنطقة بين “سهلة أم عقارب” و “جبل أبو دوم”، وفي تلك المنطقة يوجد حفير “الزانة”، كما يزعم الكثيرون. ورغم أن ذلك الحفير الذي حفره العنج قد وجد ? كما قيل- منذ عهد بالغ القدم، إلا أن الاهتمام به لم يبدأ إلا في عهد هذه الحكومة الحالية.
ويزعم أن أول من رأي حفير الزانة كان هو إدريس حامد، من الحامداب، والذي كان يعلم صيادا يطوف على مختلف المناطق. وذات مرة وقع نظره على ذلك الحفير. وبعد أن آب لداره أخبر أهله بما رأى فطلبوا منه أن يأخذهم ليروا بأنفسهم ذلك الحفير. غير أن إدريس أخفق في العثور على ما كان قد رآه في تطوافه في ذات المنطقة، رغم تأكيده القاطع لمن معه من أنه شرب من ذلك الحفير وسقى منه جواده، رغم أن الوقت كان شتاءً. وقد وقعت تلك الحادثة في عام 1919م إبان نظارة جبر الدار جبريل، شقيق العمدة الحالي.
وكان من بين من زعموا أنهم شاهدوا ذلك الحفير الشيخ عبد الله آدم أبو سن، الشيخ الحالي لتبلدية. وقد كان ذلك الشيخ صيادا مشهورا في المنطقة قبل أن تشن الحكومة حملة واسعة لجمع الأسلحة وتحرير المسترقين في المنطقة في عام 1927م.
وفي عام 1936م شوهد فيل في منطقة في الشمال قرب عديد الحماد، وأراد السكان اصطياده فذهبوا لدار عقيل ليجلبوا خيولا لصياديهم. وزعم أن ذلك الفيل شوهد وهو يشرب من ذلك الحفير، ولحق به فضل السيد صالح مع رجل آخر لاصطياده وهو بقرب ذلك المكان. غير أن الفيل نجا من صياديه، وبقى الصيادان بقرب الحفير، وشربا من مائه وسقيا حصانيهما. وحاول فضل السيد صالح وصاحبة العودة مرة أخرى للحفير الذي شربا منه ولكنهما لم يفلحا في ذلك.
وفي عام 1942م فقد رجل سليماني من “ناس عطية” اسمه محمد أحمد أبو هنية ناقته وطفق يبحث عنها متتبعا أثرها في كل مكان. وأخذته رحلة البحث عنها إلى تقلي دون أن يعثر لها على أثر فعاد أدراجه إلى دياره، ولدهشته عثر في طريقه على ناقته سمينة ومرتوية (رغم أنها كانت في منطقة جافة تقع بين جبال النوبة وديار الأحامدة). وبعد مسيرة قصيرة من عثوره على ناقته وجد نفسه أمام حفير “زانة”. وآب بعد ذلك لدياره بعد أن ترك آثارا على طريق عودته لتمكنه من العودة مجددا لذلك الحفير. غير أن أمرا عجبا حدث بعد ذلك. فعندما أراد أبو هنية العودة لحفير الزانة مع ثلة من أصحابه شب حريق هائل في شجيرات المنطقة أزالت كل الآثار التي كان الرجل قد تركها لتدله على ذلك الحفير. وذكر المعاصرون لذلك الحريق أنه كان قد حدث صيفا.
وبهذا يمكننا القول بأن لغز ذلك الحفير ما زال يحير الجميع، رغم مرور السنوات. ولقد قمت شخصيا بالطيران وفحص كامل المنطقة من عل، ولم أجد لها من أثر. ويزعم الأهالي هنا أن مكروها سيحيق بكل من يرى حفير الزانة (وغالب من قيل إنهم شاهدوا ذلك الحفير هم الآن بين يدي الله). ولم يبق على من زعموا أنهم شاهدوا حفير الزانة غير رجلين هما عبد الله آدم أبو سن، ومحمد أحمد أبو هنية، وقد أصيب الأول منهما بطلقة نارية في عينه.
تصحيح
ويزعم أن أول من رأي حفير الزانة كان هو إدريس حامد، من الحامداب، والذي كان يعلم صيادا
ويزعم أن أول من رأي حفير الزانة كان هو إدريس حامد، من الحامداب، والذي كان يعمل صيادا