مقال : الصحافة السودانية في خطر !

كثيرا ما تستفزني العناوين الصحفية الصارخة التي تميز الصحافة العربية فأحاول ان اغوص في المتن لكن سرعان مايصدني التلاعب اللغوي والتوصيف الذي تضيع معه الحقيقة في جوف السراب اللغوي المخادع . وكثيرا مانفرت من قراءة مقال لذات الاثارة والبريق ومخافة الخواء الصادم . قرأت خبرا في احدى الصحف السودانية من هذا النوع ” شمو : الصحافة في خطر ؟ ” . في المتن كما هي العادة تفصيلة ” وصف الخبير الإعلامي ورئيس مجلس الصحافة والمطبوعات السابق الأستاذ علي شمو وضع الصحافة السودانية بالخطر وغير المبشر” . وقال شمو ” إنه يخشى على الصحافة السودانية من الانهيار لضعف الموارد وارتفاع أسعار المدخلات الصحفية ما يهدد اقتصادياتها”. لكن نظري علق ايضا في جزئية اعتبرها هي الأكثر أهمية مما قاله الخبير شمو في خصوص الصحافة إذ أنه تطرق الى ”
حول مقترح رئيس الجمهورية لدمج الصحف قال إنه أخرج من سياقه وأنه جاء في إطار تقديم الدعم للصحف وأن الأفضل والأوفق أن تكون مؤسساتها أقل عدداً من ما هي عليه الآن ليسهل دعمها”. وكما هي العادة لدى المسئولين السودانيين ومن الموالين للحكومة يميلون الى مقارنة غريبة عجيبة لما يجري في السودان بالحال في امريكا او انجلترا او الاتحاد الأوروبي وهنا لم يمثل الخبير الاعلامي شمو استثناء بقوله ” أن الاتحاد الأوربي يدعم الصحف ولكنه في ذات الوقت لا يتدخل في السياسات التحريرية لها “. وبالطبع لا مقارنة بين الحالتين أبدا اللهم الا ماصدر عن العقل الباطن هنا من تأكيد ” لكنه .. لايتدخل في السياسة التحريرية لها ” وكأنما يثبت بذلك دون قصد كم التدخلات الكبير والتي تشكل الفارق الصارخ بين حالتي الاتحاد الاوروبي والسودان .
ساتوقف بالتعليق عند طرفي حديث الخبير شمو والذي هو ليس فقط مجرد خبير ولكنه رجل تميز بانه يلمع ويظهر نجمه كوزير للثقافة والاعلام في ظل النظم الشمولية التعيسة التي اقعدت البلاد وافقرتها .
المؤكد ان شمو يعني بكلامه شريحة واحدة هي صحافة السلطة او تلك التي تحوم حول تخوم السلطة وتستفيد من امتيازاتها لادارة الاعمال والمصالح في ظل رضا السلطة وفي اطار ادارة صراع مجموعات المصالح في الدولة . خارج هذا الاطار فصحافة التعبير عن الرأي مغيبة وفق سياسة الدولة وشعارها الماثل ” نعم لحرية الكلام والف لا لحرية التعبير ” ، وشتان مابين الاثنين . لقد غيبت الصحافة الأخرى حزبية أو صحف الافراد واخرجت من السوق وبشكل منظم نفذته وتنفذه الأجهزة الأمنية بمعرفة ورضا الدولة . جزء من لعبة الرقابة القبلية المفروضة من الصحف هي معاقبة الخارجين عن حدود ماهو مرسوم له باخراجه من السوق بافقاره عبر وقف الصحف المتعمد في اللحظات الأخيرة قبل الصدور أو بوقف توزيعها او بمصادرتها بعد طبعها وهذا عمل مقصود يهدف الى اخراج صحف بعينها وافقار ملاكها .
ذات مرة التقيت الاستاذ على شمو في الدوحة ودار بيننا حوار عابر حول الصحف وسالته لماذا تحددون عدد صفحات الصحف طالما هي مسالة حرية صحفية وحرية نشر ؟ قلت له لماذا تضعون رقما معينا لعدد الصفحات ؟ وقلت هب اني اريد ان اصدر صحيفة في صفحتين امام وظهر فقط .. ففي النهاية هذه سلعتي وهذه قدرتي وهذه حريتي يشتريها من يشاء او يعرضوا عنها فاوقفها .. مالكم ومال صحيفتي . كل مافهمته منه انها خطوة في اطار تنظيم النشر الصحفي وسوق الصحافة التي تعاني من الفوضى – وفقا للرؤية الشمولية التي ترى ان كل بعد وتفرد عن السياق الرسمي هو فوضى لا مكان لها في حديقة النظام الشمولي ووجب تشذيبها . وهذا النهج لايزال متبعا في الخرطوم .
والسؤال البديهي وطالما نتحدث عن حرية الصحافة او حتى هامش الحرية المعترف به رسميا فما شأنكم ومالي طالما هي حريتي والصحيفة سلعتي ؟ حكيت كثيرا لبعض الاصدقاء ان جنرالا متقاعدا في بلد أوروبي شارك في الحرب العالمية الثانية . قد ساءه ما نشرته صحف في التسعينات من القرن الماضي وعلى لسان بعض المؤرخين مايعتقدون انه حقائق لوقائع جرت وقتها اثناء الحرب العالمية الثانية . فما كان من الجنرال وعملا بحرية النشر ان استخرج اذنا باصدار صحيفة وبدعم مادي شخصي استغل فيه معظم راتبه التقاعدي وبدعم من عدد من اصدقائه من الجنرالات المتقاعدين ان اخرج الصحيفة من صفحتين فقط ضمنها رايه كتابة للشباب كما قال الذي يقرا التاريخ ليعرفه من صناعه . بث في الصحيفة كل مايدفع عنه التهم الجائرة في حقه وارفقها بالصور والوثائق . وكان ذلك العدد الأول والأخير .
في ظل حرية النشر ليس من حق انسان ان يقول اصدرها بأي عدد من الصفحات لكن الواضح انهم كانوا يريدون ان تظهر على الساحة صحفا محددة بعينها تدعمها الدولة وجهات المصالح المتنفذة في الدولة والمرتبطة بصورة او باخرى بالحكومة ، وقفل الباب أمام الصحف الأخرى للافراد أو الحزبية عن الصدور . وهذه حقيقة يعلمها الجميع .
واتوقف هنا عند ماهو أهم في نظري وهي ربما عادة متأصلة عند الوزير علي شمو في استماتته بتقويم الظلال العوجاء فيقول ” حول مقترح رئيس الجمهورية لدمج الصحف قال إنه أخرج من سياقه وأنه جاء في إطار تقديم الدعم للصحف وأن الأفضل والأوفق أن تكون مؤسساتها أقل عدداً من ما هي عليه الآن ليسهل دعمها”. أقول لم يخرج من سياقه ” ولابطيخ ” فقد قال الرئيس ماعناه وكرره في أكثر من مناسبة وامام أكثر من جمع من زواره ومن خلال لقاءاته معبرا عن امتعاضه من الصحف الكثيرة وماتتناوله من موضوعات وصراعات بين مجموعات المصالح الاقتصادية وتلك المجموعات المرتبطة بها داخل حزب المؤتمر الوطني وخوضها في الفساد وقصصه وما اكثرها . قال محدثي والذي اثق في كلامه ان الرئيس قد قال لهم في لقاء معه انه ينوي ” تقليص عدد الصحف الى صحفتين أو الى ثلاثة صحف بالكثير “. وهو رأي منطقي جدا ينسجم مع توجهات الحكم في هذه المرحلة بالذات حيث تتكاثر فضائح الفساد وتزداد وطاة الأزمة المالية مايزيد من صراع مجموعات المصالح . و باتت الحكومة اكثر ضيقا بهامش الحريات الصحفية وحرية التعبير وتريد العودة لسياسة السير داخل الانبوب بحيث تسهل السيطرة والتحكم في مخارج الكلمات والافكار وهذه طبعة شمولية صرف . مسألة الحريات الصحفية وماتعانيه هي التي أدعى ليخاف عليها الوزير شمو . وقضية غياب حرية التعبير هي التي ينبغي ان تشغله . وقناعتي انه لايطيق ان يبقى بعيدا عن دائرة الضوء والصورة أبدا ولهذا يذكر الحاكمين بقدراته الشمولية في تجميل القبيح . كنت ارفع القبعة تحية للوزير شمو لو أنه أكد مرة واحدة بصفته الخبير والحادب على مسار الاعلام في البلاد ان يقول ولو قليلا مما يعرفه من أهمية وجود صحافة حرة في مجتمع نامي . واهمية الحرية الصحفية ووقف اطلاق يد الرقابة الأمنية والتدخلات الأمنية والحكومية الفظة في عمل الصحافة . وكنت اصفق له لو انه قالها يوما ان لاحرية صحفية بغير مجتمع تشاع فيه الحريات ومجتمع تحترم فيه حرية التعبير وليس الكلام . ولاحرية صحفية بغير مجتمع ديمقراطي تعددي .
وهنا ساخرج من حقيبة الذكريات وما اكثرها نموذجا واحدا لتجربة شخصية مع الوزير علي شمو ، وقبلها أقول قناعتي التامة أن الوزير علي شمو كان وراء الكثير جدا من عمليات تذويق وتجميل وجه النظام المايوي . فهو من كان يباشر وبشكل شخصي عملية الرقابة على كل خطابات الرئيس نميري في حديثه الشهري الشهير وقتها . فقد كان النميري رجلا تعوزه القدرات فما رفع رأسه عن النص المكتوب الا وخرب الدنيا وضرب يمينا وشمالا . فكان علي شمو هو من يقوم بعملية الحذف والتغيير وهومن يأمر الصحيفتين – الصحافة والأيام – بالتقيد بالنص الرسمي للخطاب . تجربتي وكنت وقتها صحفي ناشيء يخوض سنواته الاولى بجريدة الصحافة وتعلقت القصة ببيان مشترك صدر عن اول زيارة يقوم بها نائب الرئيس نميري الى ليبيا القذافي بعد كامب ديفيد وهو المرحوم الرشيد الطاهر بكر . البيان تسلمته من وزير الدولة بوزارة الخارجية فرانسيس دينق والذي أوفى بوعده بأني سأكون أول من ينشر البيان . في مساء ذلك اليوم استعدت الجريدة بنشر السبق الصحفي . في السابعة مساء كنت في مكتب د. فرانسيس دينق وتسلمت البيان . وعند وصولي لباب الجريدة بشارك المك نمر سألني عم دفع الله عليه رحمة الله وكان سائقا بالجريدة وتصادف وجوده بالاستقبال ” ياطارق في شنو جاء وزير كده يسأل عنك بالاسم ؟ ” . واستغربت حتى قال لي صلاح وكان زميلا له ويعمل سائقا بالجريدة وكانا يجلسان معا ” الوزير علي شمو وسأل عنك باسمك ” . دخلت الجريدة وعرفت ان الوزير قد حضر بنفسه بعد ان اتصل به شخصا لم استطع معرفته بالضبط حتى اليوم ولا استطيع ان اكتب اسما دون دليل واضح لكن الصحافة كانت تعج بامثال هؤلاء العاملين مع الاجهزة لاغرابة . طلب الوزير من رئيس التحرير فضل الله محمد وقف نشر البيان الذي لم اكن قد سلمته بعد وذلك حتى يأتي هو بالخبر الأكيد . كنت قد قرأت أجزاء من البيان في مكتب وزير الدولة وشعرت بأن فقرة منه جديدة وموقف مختلف للسودان من اتفاقية كامب ديفيد . وتبينت من فرانسيس الذي اتفق معي بان هناك موقف مختلف للسودان وفقا للبيان . في تلك الليلة بذل علي شمو جهدا خارقا لوقف البيان عن الصدور . بحث عن نميري في كل الاماكن التي كان يفترض انه يرتادها وفشل لكنه كان يتصل بين حين واخر بالصحيفة ليؤكد على عدم النشر الى ان يلتقي النميري ويأخذ رأيه . باختصار اوقف العمل في البيان ثم اتصل علي شمو بنفسه وفي وقت متأخر طالبا الغاء نشر البيان وهو ماقد كان علما بان الاذاعة الليبية كانت قد بثته تلك الليلة واعادت بثه كثيرا .
نفس الشيء تكرر عند مشاركة الرشيد الطاهر في القمة العربية في الجزائر والتي ردد فيها نفس الموقف والذي اثار حالة من البلبلة في السودان والوساط الدبلوماسية لغرابته وعدم انسجامه مع الموقف الرسمي للسودان والمنحاز لمصر انور السادات .
الموقف الاخر تعلق بالمؤتمر الصحفي الذي اعلن خلاله مسؤول شركة شيفرون الامريكية عن الكشف عن البترول في السودان . وحينما كان الخواجة يقدم للصحفيين نتائج التنقيب عن النفط واخذ يوصف وبالتفصيل الممل منطقة منطقة . وعندما جاء عند بئر اطلق عليها اسم 25 مايو تيمنا بانقلاب النميري قال الخواجة ” 25 مايو لايوجد شيء ” فضجت القاعة الضحك وتوقف الخواجة مستغربا انفجار القاعة بالضحك . كان علي شمو حاضرا وقال من كان بجواري صاحبك لن يفوتها . وبالفعل حينما نشرت وقائع المؤتمر الصحفي حذفت منه هذه الفقرة الضاحكة .
نعم لقد صدق الخبير علي شمو بان الصحافة السودانية في خطر لكن الخطر الذي يأتيها من الحكم الشمولي أكبر من كل العوامل الاقتصادية . وياتيها من سطوة الأمن التي جعلت من هامش الحرية جحيم وظلمة بلا حدود . أما اكبر الخطر واعظمه في استمرار علي شمو وغيره في ممارسة لعبة السير على خطين مختلفين تماما فهو يحب دوما ان يفخر بكونه نجم الصحافة المدافع عنها لكنه في الواقع من أكثر ماخدم اعداء الحريات الصحفية ، والتزامه الصارم جانب النظم الشمولية مفضوح وهي التي أقعدت بكل البلاد وأوقفت نموها وبما في ذلك الصحافة . ولهذا فالسودان كله في خطر وليس فقط صحافته فماذا انت فاعل ؟
[email][email protected][/email]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..