مقالات سياسية

الخمور بين القانون والأخلاق (5)

النور حمد

يعتقد كثيرٌ من المسلمين أن الإسلام قصد منذ البداية تحريم الخمر، وأن الإسلام ترفق وتلطف بمجتمع القرن السابع الميلادي، الذي اعتاد الخمر، فتدرج، فقط، في التحريم على مراحل. هذا الاعتقاد ليس صائبًا تمامًا، رغم ذيوعه. فالإسلام يقر الأصل في البداية، وهو الإباحة، أما المنع فاستثناء. فكما أقر القرآن في البداية، في مكة، مبدأ الحرية والمسؤولية الفردية، على غرار: “فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر”، فقد أقر أيضًا الإباحة في الخمر بالسكوت عنها. فالإنسان، في الإسلام، حرٌّ، حتى يسيء التصرف في الحرية، فتجري مصادرتها. ولا تكون المصادرة حين تحدث، إلا بقانون دستوري. والقانون الدستوري هو القانون الذي يوفق توفقًا دقيقًا بين حاجة الفرد إلى الحرية الفردية، وبين حاجة الجماعة إلى الأمن؛ فلا يتغول على حقوق الفرد لمصلحة الجماعة ولا على حقوق الجماعة لمصلحة الفرد.

لو تأملنا الآية 67 من سورة النحل، المتعلقة بالخمر، فإننا نلاحظ أنها تتحدث بحيادٍ عن صناعة الخمر، كونها ممارسة عرفتها المجتمعات البشرية منذ القدم. تقول الآية: “وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ”. لا يوجد في هذه الآية أي ذمٍّ لصناعة الخمر. وقد مارست مجتمعات الشرق الأوسط، على مدى التاريخ، عصر الزيتون والسمسم للزيت، وكذلك، عصر العنب وتخمير الحبوب والتمور وغيرها، لصناعة النبيذ. وقد جاءت الإشارة إلى هذه الصناعة، بلا ذمٍّ، أيضًا، في تأويل سيدنا يوسف للرؤيا، في الآية 49 من سورة يوسف، التي تقول: “َثُمَّ يأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ”. من أجل تثبيت الأصل الأصيل، المتمثل في كفالة الحرية وإقرار مبدأ المسؤولية، وحث الناس على التحلي بها، لم يحرم القرآن الخمر على مدى 20 عامًا، مع العلم أن كامل مدة البعثة النبوية المشرفة، كانت 23 عامًا فقط.

جاء التضييق بعد أن بدأ أصحاب النبي، عليهم الرضوان، يتذمرون مما يأتونه بأنفسهم من أفعال وهم سكارى. فقد طفقوا يسألون النبي عن الخمر، فجاء رد الله تعالى عليهم، على هذا النحو: “يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا”. ومن يتأمل هذا الخطاب بذهنٍ مفتوح، يرى بوضوحٍ شديد، نهج القرآن في التأكيد على المسؤولية الفردية. فقد أثبت للخمر والميسر منافع. لكنه، أكد أن إثمهما أكبر من نفعهما. وهنا، أيضًا، استمر القرآن يضع المسؤولية على عاتق المؤمن. غير أن أهل تلك الفترة تفاقمت هفواتهم بسبب السكر، فجاءت الآية: “يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ”. وحتى هذه اللحظة، أيضًا، لم ينه القرآن عن الشرب، واستمر يدعو إلى التحلي بالمسؤولية. فطالبهم، فقط، بألا يأتوا إلى الصلاة وهم سكارى. ولا بد أن حوادث عديدة مثل حادثة حمزة التي أغضبت النبي، قد حدثت. إلى أن ثبت أن ذلك المجتمع ليس في مستوى المسؤولية الفردية، فصودرت حريته. ومع ذلك لاحظ فقهاء وباحثون، أن آية سورة المائدة، التي أغلقت باب شرب الخمر، جاءت في صيغة ملطَّفة، فدعت إلى “الاجتناب”، ولم تقل بالتحريم، بصريح العبارة. بل إن خاتمة الآية التي تلتها، جاءت في صيغة استفهام يشبه الالتماس اللطيف، فقالت: “فهل أنتم منتهون؟”.

(يتواصل)

النور حمد
صحيفة التيار 20 يوليو 2020

‫2 تعليقات

  1. يا أستاذ …السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

    يعلم شخصكم الكريم أن في أي مكان عمل توجد لائحة مخصصة تسمي سياسة تعاطي الكحول (Alcohol policy) وهي تمنع وتحرم تعاطي الكحول لكل العاملين بمختلف أديانهم ومعتقداتهم ويعود السبب في التغليظ علي منع تعاطي الخمر أنه ثبت بما لا يدع مجالا للشك أن تعاطي الخمر سبب مباشر في الجريمة بمختلف أنواعها.

    وأراك في مقالك تركز علي الحرية الفردية في تعاطي الخمر وكأن شارب الخمر متي ما تعاطاها داخل أسوار بيته في صمت تسقط حرمتها وينتهي أذاها …!!؟؟

    ولكم هتك شارب الخمر عرض إبنته وهو مخمور ، ولكم ضرب شارب الخمر أمه أو أبيه وهو مخمور ، ولكم أذي شارب الخمر جيرانه بالسباب والشتائم وسط ذهول الصغار والكبار ولكم ولكم ولكم …لا يتوقف أذي شرب الخمر بتوقف شاربها من الخروج من بيته وهو مخمور

    يا سيدي الفاضل إتق الله فيما تكتب واستعد ليوم يسألك الله فيه عما كتبته يداك فلا تزينن المنكر ولا تكن سهما في ضياع أسرة بسبب شرب الخمر….الله يهدينا ويهديك

  2. وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ”. لا يوجد في هذه الآية أي ذمٍّ لصناعة الخمر
    بل فيها ذم لو كنت قد تدبرت الآية القرآنية فقد ذكر المولى عز وجل الخمر بلفظ (سكراً) ولم يصفها بالحسن بينما وصف الرزق بالحسن وفي هذا ذم للخمر.
    وفي كل الآيات التي تدرجت في منع الخمر لم يصفها المولى عزل وجل بأنها شيء طيب إلى أن جاء المنع والتحريم النهائي وقرنها بشر المفاسد على عقيدة المسلم وهي الميسر والأنصاب والأزلام وجاء التحريم بصيغة الإجتناب وهو أشد أنواع التحريم كما بين ذلك جمهور الفقهاء أي بمعنى أن لا تقرب حتى مجالسها وإن لم تكن من شاربيها وقد بين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لعنة الله وطرده من رحمته لكل من شارب الخمر وحاملها وعاصرها ومعتصرها وبائعها ومبتاعها وقال الله تعالى ما آتاكم الرسول به فخذوه مما نهاكم عنه فانتهوا .. فهل بعد هذا التحريم الواضح تأتي لتتفلسف وتلبس على الناس دينهم بالباطل .. ارعوي يا هذا وثب لرشدك هدانا الله وإياكم.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..