الكتابة موقف

فضيلي جماع :

الكتابة موقف

(الوطن القطرية ? الأحد 02/08/2015)

قديم هو السؤال: هل الفن للفن أم أن الفن للقضية؟ لن يضيع كاتب هذا الزاوية وقته في التنطع والشرح، فإن خياره كان منذ أمد طويل: الكتابة موقف، وموقف إنساني !

كتب الروائي الفرنسي الشهير آندرية جيد (1869-1951) يقول: (من الأفضل أن تكون ممقوتاً لما تؤمن به من أن يحبك الآخرون لشيء لا تؤمن به !) ولعل هذا هو ما دفع بذاك الكاتب الإنسان أن يكون نسيج وحده في عصره، ليدين بصوت جهور الفاشية وجرائم هتلر ضد السامية. ويقول في موضع آخر: (طالما إننا نعيش وسط الناس، دعونا نعتز بإنسانيتنا!) ولهذه المواقف الواضحة من الكتابة كعمل إنساني خلاق، أصبح آندرية جيد أيقونة النبض الإبداعي والفكري لرهط من أكثر المفكرين والمبدعين الفرنسيين من بعده ومنهم الروائي الشهير آلبير كامي.

وفي جنوب افريقيا ما الذي يجعل سيدة بيضاء ? نادين غورديماير- لأب يهودي من الطبقة الوسطى مهاجر من بريطانيا أن تختار الصعاب في دولة تقوم على نظام الفصل العنصري (أبارتايد)، وهي التي لا تحتاج بالمعنى الانتهازي للكلمة أن تتجشم المخاطر طالما انها تستمتع كمواطنة بيضاء بكامل حقوقها؟

عرفت غورديماير منذ شبابها النضال ضد الظلم، واختارت طريق مصادرة الرقيب لما تنزفه أعصابها دفاعاً عن الحق. كانت معجبة بأسطورة النضال نيلسون مانديلا، وبكفاح السود من أجل الحرية والمساواة. كتبت تقول ( ليس في وسعك أن تغير نظاما على أساس من الشفقة. هناك أدوات أكثر قسوة للتغيير !) ليس غريبا أن تنال غورديمير إذن جائزة نوبل للآداب تقديرا لكتاباتها التي وصف مانديلا صاحبتها بأنها «سفيرة الضمير الإنساني» !

لويس نكوزي، الروائي الجنوب ? افريقي قضى أربعين عاماً في المنفى وهو يفضح نظام الفصل العنصري عبر السرد القصصي. اختار ألا يستسلم وعاد لوطنه بعد سقوط نظام الفصل العنصري ليتوفي بعد عشر سنوات من عودته فقيرا ومريضاً. لكنه اختار أن يكتب لأن الكتابة موقف إنساني ووطني! كتب في أخريات أيامه: «لقد رأيت مستوطنين بيض في جنوب افريقيا ممن أقسموا بأنهم لن يجلسوا قط في طاولة تجمعهم باولئك (القذرين السود) ! لكنهم جلسوا مع رجال القبائل السود شبه العراة عندما تحررت جنوب افريقيا. إنها السلطة التي تغير السلوك وتحول الكراهية إلى عاطفة!».

لا يمكن للإبداع ان يكون للمتعة وتزجية الفراغ. هذه مهمة يمكن مزاولتها بين البيت والمكتب إن كان الأمر كذلك. الكاتب الذي يختار كالبهلوان سكة السلامة هو أفشل من يمسك بالقلم ليقول للقارئ إن عالمه جميل إذ يختار طريقا بين، بين !

اختار محمود درويش، طريقاً وعراً، لأن الطريق الوسط في فلسطين غير متاح، وخاصة لشاعر تقول موهبته منذ نعومة أظفاره أنه ولد ليكون صوت القضية وضميرها. كانت أشعاره منذ (بين ريتا وعيوني بندقية)، مروراً بـ«بيروت..بيروت» و«تلك صورتها وهذا انتحار العاشق» وانتهاء بـ «لماذا تركت الحصان وحيدا؟» كانت أشعاره تدخل أروقة الكنيست وأضابير أجهزة الموساد دون إذن. وكان درويش يدفع نظير المنفى والحب القاسي لبلد مغتصب وشعب مخيمات- كان يدفع عافيته.. لكنه اختار الموقف. كتب يقول:

من أي ريحٍ جئتِ ؟ قولي ما اسم جرحكِ
أعرف الطرقَ التي سنضيعُ فيها مرتينْ
وكلَّ نبضٍ فيكِ يوجعني ويرجعني إلى زمنٍ خرافي
ويوجعني دمي والملح يوجعني…ويوجعني الوريد !!

الكتابة موقف، وموقف إنساني شديد الوضوح والشفافية!ّ

[email][email protected][/email]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..