كيف تحكم دارفور؟ (الجزء الأول)

كيف تحكم دارفور؟ (الجزء الأول)
How to Govern Darfur? 1
جيمس مورتون James Morton
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذه ترجمة لشذرات مما جاء في مقال طويل (29 صفحة) للباحث البريطاني المستقل جيمس مورتون ضمن سلسلة “مقالات ومحاضرات السير ويليام ليوس” في جامعة درم البريطانية، ونشرت في عام 20122م بالشبكة الدولية (الانترنيت).
ولهذا الباحث المستقل عدد من الأوراق عن قضايا دول العالم الثالث منها ورقة بعنوان Managing Political and Economic Claims to Land in Darfur، وورقة أخرى بعنوان . How Aid Fails Failed State
المترجم
**** **** **** **** ****
مقدمة
شهد الشاب وليام ليوس في عام 1934م مساعد مفتش المركز في نيالا اجتماعا هاما جنوب شرق “عد الغنم” استمر ليومين كاملين مع زعماء قبيلة القمر الساخطين على عمدهم (والعمدة هو المسئول الثاني في التسلسل الهرمي للإدارة الأهلية الذي ابتدعته حكومة الاستعمار وحكمت به دارفور). وقد سبق ذلك الاجتماع محاولات من الهبانية والزغاوة لتغيير قيادتهم الأهلية. غير أن الحكومة استمعت ? ودون تعاطف كبير ? لشكوى رجال القمر. وكان كل ما قررته الحكومة هو إصلاح بعض ما أقترفه بعض العمد من مخالفات، وطلبت من زعماء القمر أن يختاروا رجلا واحد ا منهم للمشاركة في المحكمة القبلية. وفي ذات الوقت حذرت الحكومة أولئك الزعماء من مغبة العقاب سجنا إن لم يتوقفوا عن رفضهم لعمدهم الحاليين. ولزيادة تأكيد عزم الحكومة وقوتها اختتم ذلك الاجتماع باستعراض للقوة قام فيه بعض الجنود بإطلاق النار على قرية مزيفة / صُوْرِيّة للدراويش، وامطرت أجساد الدراويش فيها بعشرات الطلقات النارية، وحرقت عششهم الصغيرة، وفجرت قدور وقرب المياه محدثة أصواتا مفزعة. وكانت النتيجة أن توصل الجميع إلى أن “والله الحكومة شديدة”.
يلخص المشهد أعلاه إجابة السؤال “كيف تحكم دارفور؟”: أي بمزيج من الاستماع للمواطنين، وبالتسويات المدعومة بتهديد حقيقي باستخدام قوة ضاربة وساحقة.
والغرض من هذه الورقة هو استعراض الكيفية التي تمت بها الإجابة عن ذلك السؤال في أزمان مختلفة من تاريخ دارفور، على أمل أن يكون ذلك ملهما لنا في رحلة البحث عن إجابة لذات السؤال في أيامنا هذه. وسأبدأ بالقول بأن سبب الوضع الحالي في دارفور لا يمكن أن يعزى فقط (أو حتى بصورة كبيرة) للاستغلال أو الظلم أو الصراع السياسي. فالسبب الرئيس في نظري هو فشل الدولة السودانية في العثور على شكل فعال للحكومة الإقليمية. وسأمضي أكثر من ذلك وأقول إنه، لا حكومة السودان، ولا المجتمع الدولي لديهما أدنى فكرة عن إجابة سؤالي الذي عرضته في عنوان المقال، أو كيف يمكن أن تطبق تلك الإجابة إن وجدت.
ومنذ عقود قليلة عادت للحياة مجددا صراعات قديمة بين الشمال والجنوب، وفي دارفور، وزيفت قرارات استعمارية قديمة وقليلة الخطر نسبيا لتغدو أسلحة جديدة لصراعات حديثة. ولم يكن هنالك مناص من أن تصير الحقيقة التاريخية واحدة من ضحايا حروب السودان. ويقول مؤسس الدراسات التاريخية الدارفورية شين أوفاهي عن مسألة الأرض (الحواكير) في سلطنة دارفور أنه قد أسيء فهمها الآن. وصارت كثير من العناصر الدارفورية تستغل كلمة “الحواكير” لتعنى بها أراضي قبلية لا يمكن التصرف فيها. وهذا بحسب ما قاله أوفاهي: “تاريخ خيالي fantasy history ?يعامل وكأنه حقيقة سياسية ثابتة.
ولتفسير التاريخ دور أيضا في الطريقة التي ينظر بها المجتمع الدولي لدارفور. فالبعض يلوم الدولة الاستعمارية لإعادتها خلق انقسامات عرقية كانت في طريقها للزوال. بينما يلوم البعض الآخر الحكم الثنائي لمنحه السلطة في البلاد لصفوة من رجال المدن، استحوذوا على الدولة التي ورثوها حديثا، ودفعوا بدارفور للهامش.
ولتناول السؤال الذي قدمته في عنوان المقال سأقوم أولا باستعراض كل التفسيرات المعروضة لما يحدث الآن في دارفور، وأعقب ذلك بطريقة حكم دارفور في مراحل تاريخية متتالية، أولها سلطنة الفور التي ظهرت في القرن السابع عشر وحكمت دارفور حتى نهاية القرن التاسع عشر، وعادت للحكم مرة أخرى في عام 1898م بعد فترة قصيرة للحكم المصري ? التركي ثم الحكم المهدوي. وثانيها الفترة التي بدأت عام 1916م عندما غزا البريطانيون دارفور وعزلوا علي دينار آخر سلاطين الفور. وفي 1956م (أي بعد أربعين عاما فقط) صارت دارفور جزءا من جمهورية السودان المستقل. وسأحاول في نهاية الورقة أن أصف الجهد المتماسك الذي يلزم لبناء حلول مستدامة لدارفور، وكيف أن السياسات الدولية الحالية قد تساعد أو تعيق ذلك الجهد.
التعريف بدارفور
جميع سكان دارفور تقريبا من المسلمين السنة. وخلافا لغالب الصراعات في العالم، فليس للدين أو الطائفة أي علاقة بالصراع في دارفور. غير أن الأصل العرقي ethnicityلعب ويلعب دورا كبير في ذلك الصراع، ويصعب أن يحدد المرء إن كان الصراع على مستوى العرق / العنصر race أم على مستوى قبلي tribal أقل. ولا مُشَاحَّةَ في أن أهل دارفور يتحدثون عن العرق باعتباره سببا للصراع بين “العرب” و”غير العرب” أو “الزرقة” كما يسمون. غير أن كثيرا من قبائل “الزرقة” لا تتحدث بغير اللغة العربية، وبعضهم ينسب لنفسه قدرا من الأصول العربية. وهنالك أيضا صراعات بين القبائل العربية فيما بينها، مثلما توجد صراعات بين القبائل العربية والقبائل غير العربية. وتقوم في بعض الأحايين كذلك معارك بين بعض قبائل الزرقة.
وبدأ في عام 2004م تحالف سمي “انقذوا دارفور”، غدا أنجح حركة جماهيرية في أمريكا منذ نهاية حرب فيتنام. وقامت الولايات المتحدة بضغط من ذلك التحالف بالإعلان عن أن أفاعيل الحكومة السودانية (العربية) في دارفور ترقى لوصفها بأنها “إبادة جماعية” ضد سكان دارفور من غير العرب. وبعد مرور سبع سنوات من إنشائه، خفف تحالف “انقذوا دارفور” من تصوير الصراع وكأنه صراع بين القبائل العربية وغير العربية، رغم أنه واصل في تصوير الأمر وكأنه “إبادة جماعية”، وحملت الحكومة السودانية والرئيس البشير (وآخرين) مسئولية تلك الإبادة لخلقهم ظروف فوضى عارمة فشا فيها الاعتداء على الرجال والنساء والأطفال من قبل عصابات القبائل العربية.
وهنالك بالطبع فرق بين “الفوضى” وبين “الإبادة الجماعية”. غير أن لا أحد في الغرب الآن يبدو على استعداد للتخلي عن مقولة “الإبادة الجماعية” رغم أن تحالف “انقذوا دارفور” نفسه يعترف بأن الحكومة السودانية الحالية ليست مسئولة عن كل شيء حدث أو يحدث في السودان. فقد بدأت الحرب الأولى في دارفور في عام 1987م، بحسب ما جاء على ألسنة وأقلام أهل دارفور أنفسهم (مثل دكتور شريف حرير) عندما بدأ الصراع بين “الحزام العربي” و “الحزام الإفريقي”. وقد كان هذا قبل عامين وصول الجبهة القومية الإسلامية للحكم بانقلاب عسكري في 1989م. وبحسب ما كتبه دكتور محمود محمداني فقد بدأت الحرب الأهلية في دارفور دون أن تكون للحكومة (الحالية) أي دور فيها، وهو يرى أيضا أن البريطانيين هم السبب الرئيس خلف مشكلة دارفور. ويتلخص رأيه في أن سلطنة دارفور كانت قد ابتدعت اشكالا جديدة من حيازة الأرض وإدارتها. وساهمت تلك الأشكال الجديدة (وفي وجود نظام إسلامي) في خلق نوع من “محو / إزالة القبلية detribalization “. ولكن تم إبطال تلك الأشكال التي طورتها سلطنة الفور، وجففت كل مصادرها عقب غزو المستعمر البريطاني لدارفور في عام 1916م.
ومن الثابت أن نصيب الأسد في الاستثمار في الصحة والتعليم والزراعة والبنيات الأساسية في عهدي الحكم الثنائي والدولة السودانية المستقلة قد ذهب جله لمناطق السودان النيلي (منطقة الخرطوم وعلى امتداد النيل). وغدا هذا الإهمال للمناطق الطرفية هو الجزء المعياري من التهم الموجهة ضد الحكومة. وهذا هو جوهر ما سطرته جهة ما (قيل إنها “حركة العدل والمساواة”) في “الكتاب الأسود” ضد سياسة “الجبهة الإسلامية القومية”، والذي زعم إنه وضع على مكتب الرئيس البشير في عام 2000م. ونسب مؤلفو ذلك الكتاب كل التهميش الذي حاق بدارفور لاستغلال “الجلابة” (أي التجار الذين قدموا من المناطق النيلية واحتكروا كامل تجارة السودان واستغلوا الأرباح التي جنوها من المناطق الطرفية واستثمروها في المركز). ومعلوم أن صفوة وزراء ومسئولي الحكومة هم من هؤلاء “الجلابة”.
ويزعم البعض أن دارفور قد تم تهميشها سياسيا. وإن صح هذا، فهو في رأيي من الخير لها، إذ أن السياسة السودانية قد ساعدت في تحويل المشاكل الداخلية إلى أشياء أكثر خطورة. وأعطت السياسة الديمقراطية الفور (أكبر قبائل الفور) الفرصة لاسترجاع ما فقدوه من سلطة في عام 1916م عندما أزاحت الحكومة الاستعمارية سلطنة الفور. وقد أجبرت المظاهرات التي اندلعت في عام 1981م الرئيس نميري على تغيير مرشحه لحكم دارفور والقبول بالسياسي الفوراوي أحمد دريج. وبعد فترة قصيرة من حكمه (والذي كان يضم عناصر من كل عرقيات دارفور) سعى الساسة (السودانيون) العرب لمقاومة ما سموه “هيمنة” الفور، واستنجدوا بحزب الأمة، أحد أهم الأحزاب السودانية الحاكمة، والتي كانت تتمتع بشعبية كبيرة في أوساط أفراد القبائل العربية في دارفور. وعند بدء الحرب في دارفور في 1987م، لم يعد عرب دارفور يثقون في الحكومة الإقليمية التي كان يقودها الفور، ولم يعد الفور (وهم غير عرب) يثقون في الحكومة المركزية التي كان يقودها حزب الأمة.
وبدا أن الانقلاب الذي قامت به الجبهة الإسلامية القومية في 1989م سيجد مخرجا من المأزق والطريق المسدود الذي كانت تسير عليه الأوضاع بدارفور، خاصة وأن حسن الترابي مفكر تلك الجبهة كان يؤكد دوما أنهم لا يفرقون بين “العرب” و”الزرقة” في دارفور. بل لقد كان فشل الحكومة الديمقراطية في حل أزمة دارفور أحد أسباب انقلاب 1989م المعلنة. غير أن انشقاقا في الجبهة الإسلامية القومية وقع في 1999م وأحدث أثرا كبير في الأحداث في دارفور. وأسفرت تلك المفاصلة بين جناحي الجبهة أن زعم الجبهة القديم من عدم تفريقها بين “العرب” و”الزرقة” لم يكن إلا مجرد قول لا يسنده الواقع. ولما كون حسن الترابي حزبا منفصلا ضم إليه عددا من القيادات الدارفورية، بينما آثر بعض تلك القيادات الانضمام إلى حركة “العدل والمساواة” والاشتراك فعليا في الحرب ضد المركز.
ويبدو أن الكثيرين يرون أن الصراع حول الموارد من مياه ومَرَاعٍ وأَراضٍ زراعية هو السبب الرئيس وراء مشكلة دارفور. ويقول هؤلاء بأن الأمر قد زاد سوءا بسبب حدوث جفاف وتدهور متسارع في البيئة، مع ضغوط متزايدة من المواطنين في مناطق النزاع. غير أن كل هذا قد يكون من باب التبسيط المفرط لصراع بالغ التعقيد. فقد أثبتت احصائيات الإرصاد الجوي أن معدل الأمطار لم يكن أقل من معدلها الطبيعي في الأعوام التي سبقت سنوات الصراع الحالي. وليس الصراع على الموارد الطبيعية بالأمر الجديد على دارفور. بل على العكس، فقد كانت تلك الصراعات في دارفور هي العادة وليست الاستثناء. ولكن ما يحير فعلا ويستعصي على الفهم هو كيف تحول ذلك الصراع إلى طاقة تدميرية هائلة. ولعل السبب الأول في ذلك هو السياسة. وعلق أحد الكتاب السودانيين (هو محمد الحسن مختار) في عام 1985م على ما سبقت مناقشته بالقول:” قد تكون هنالك أسبابا أخرى (للصراع) تتمثل في المنافسة حول موارد المياه والمراعي. وفي بعض الأحايين قد تكون أسباب الصراع أسبابا سياسية أو أسبابا سياسية محلية تطورت إلى منازعة قبلية”.
أما العامل الأخير فهو عامل الإدارة. وقد يعجب المرء كيف لأمر عادي banal مثل عامل الإدارة أن يكون عاملا مهما في حرب أهلية وصفها بعضهم بأنها “إبادة جماعية” وأسوأ كارثة إنسانية من بعد ما حدث في رواندا. غير أني أرى أن الإدارة هي الإجابة على سؤالي في عنوان المقال: “كيف تحكم دارفور؟”. ولعل هذا السؤال أهم من أسئلة أخرى من نوع: “من الملام؟” و”من هو المظلوم والمُضطهَد؟” و”من هو الظالم والمُضطهِد؟”.
[email][email protected][/email]
كانت معدلات الامطار في سنوات السبعينات و الثمانينات اقل من المعدل في كل منطقة الساحل الافريقي من اثيوبيا مرورا بالسودان الى غرب افريقيا. و عادة تظهر اثار الجفاف بعد عدة سنوات. لذلك لا يمكن اسقاط العامل البيئي من اسباب مشكلة دار فور.
شكرا دكتور بدرالدين هذا موضوع هام ويمثل أهم محور للقضية السودانية اليوم وبدون حلها سوف لن يسترح الوطن.
منتظرين الجزء الثانى بفارغ الصبر.
كانت معدلات الامطار في سنوات السبعينات و الثمانينات اقل من المعدل في كل منطقة الساحل الافريقي من اثيوبيا مرورا بالسودان الى غرب افريقيا. و عادة تظهر اثار الجفاف بعد عدة سنوات. لذلك لا يمكن اسقاط العامل البيئي من اسباب مشكلة دار فور.
شكرا دكتور بدرالدين هذا موضوع هام ويمثل أهم محور للقضية السودانية اليوم وبدون حلها سوف لن يسترح الوطن.
منتظرين الجزء الثانى بفارغ الصبر.