رعب

لم يكن جيشاً جراراً، ذلك الذي اقتحم الخنادق، وأكل النار وسف رمادها، وتسلى بسيوف ورماح العسكريين، واتخذ من سواعد المحاربين الذين حشدناهم للمواجهة، أوتادًا يقطر منها الدم، ألصق بها راياته الخضراء، ولكن وباء غريبًا لم أشهد له مثيلًا من قبل.

كنا على الحدود أنا والحاكم نستطلع الأمر، حين علمنا بظهور غبار كثيف في الأفق، حين اتضحت الرؤية أكثر، حين استحالت إلى كابوس. وحين تضخم الكابوس، وأصبحنا بالكاد نعرف إن كنا حقيقيين أم مجرد أوهام عالقة بذيل الحقيقة.

رأيت الحاكم الموقر يوسف دامير، يسقط عن ظهر جواده وفي عنقه وخز سيف، ولم استطع بكاءه أو انتشال ما تبقى فيه من روح.. رأيت القائد موسى عرديب يسقط مطعونًا في قلبه، وبقايا صوته العسكري، تتراكض وسط الغبار، ولا يلتقطها أحد، رأيت العشرات ممن أعرفهم ولا أعرفهم، يسقطون، وشممت طعم الدم أول مرة في حياتي، وكان حارًا جدًا.

لم تكن الخنادق التي اشتعلت فيها النار وانفجرت على أطرافها حبات البارود، شركًا، ولا خطط فاسكو السخيفة المستخرجة من كتابه التاريخي، شركًا، ولا الروح المعنوية التي حرصنا طيلة تلك الأشهر الماضية على إبقائها عالية برغم المرض والحصار..

قلت لجوادي العبَّار مشوش الذهن، والذي يصهل كمجنون: نموت أم ننجو يا عبار؟.. فلكزني قبل أن ألكزه وانطلق. كان يتقي النار بالنار، وسهام الجهاديين في الحدود، بسهام الجهاديين التي كانت لا تحبو إلى داخل المدينة، ولكنَّها تئز أزَّا. الحفاة العراة، الملثمون، لابسو الأبيض والأخضر المرقَّع، لابسو الفوضى وعطر الدم، من يا ترى المتَّقي من بينهم؟.. ولا أحد يعرف.. وأتذكر صراخ (عطايا) بائع الروب والخميرة يوم حاورناه في (خزي العين).. كلهم المتَّقي.. كلهم المتَّقي.. كان (التقلاوي ديدام) فرَّاش مجلسنا السابق الذي اختفى في تلك الليلة المهووسة، موجودًا في داخل الهدير.. رآني ورأيته، تأملني وتأملته، رفع حربته إلى عنقي، وراوغتها..

وصلت إلى مبنى مجلس المدينة بصعوبة، ولم يكن ثمة مجلس لمدينة، ولكن ذكرى لقاعات ومكاتب وأوراق، الآن مجلودة بسياط النار وتحترق، وصلت إلى ساحة المجد التي أمنَّاها كما اعتقدنا، وأنا مشوش باحتمال ضياع أهلي.. وضياع محبوبتي وإرث الحياة وتاريخها كله، ولم تكن الساحة آمنة، ولكن شركًا ولعنة، كانوا يلمون غنائمها النظيفة يرصونها جانبًا، ويبصقون على تلك التي كانت متسخة ولا تبدو غنائم.. لكزت العبَّار بشدة وتواريت. قصدت أماكن لم تكن أماكن.. وأحياء لم تعد أحياء.. وشوارع لا تبدو شوارع بأي حال من الأحوال، أشم الغبار والدم، وأضع يدي على أذني حتى لا يصرعني الهدير في تجواله وترصده، وتوقفت في النهاية أمام مقهى خزي العين المجلود بسياط النار أيضًا، ربطت العبَّار إلى جذع شجرة ميتة، وارتميت على الأرض بجواره، أغمضت عيني…

فجأة وجدت نفسي واقفًا على قدميَّ، ثمة سيف مسنون في رقبتي، ورمح يلتصق بظهري، وعدد من الملثَّمين يرتدون ثيابًا بيضًا متسخة بالطين والدم، يخاطبونني في قرف.. تشهد.. تشهد .. أود أن أتشهد حقيقة، لكني لا أعرف الشهادة.. وأسمع صوتًا يأتي من العدم والنصل قد بدأ يحز في العنق.. لا تقتلوا من لم يرفع السيف.. لا تقتلوه.. خذوه إلى حيث أمر سيدنا المتَّقي.

التغيير

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..