ثقافة العنف الانتخابي

شهدت بوروندي خلال الأسبوع الماضي حادثتي عنف على خلفية الانتخابات التي جرت مؤخراً في البلاد والتي تم خلالها إعادة انتخاب الرئيس بيير نكورونزيزا لفترة ثالثة خلافاً لبنود الدستور الذي يحدد حكم الرئيس بفترتيتن فقط. راح ضحية للحادثة الأولى الناطق الرسمي باسم حزب الاتحاد والسلام والتنمية المعارض بينما نجا في المحاولة الثانية القائد العام للجيش البوروندي. وكان رئيس الحزب المعارض قد فقد حياته هو الآخر في حادث مماثل في 23 مايو الماضي. بلغ عدد ضحايا العنف الانتخابي في بوروندي منذ أبريل الماضي ما يزيد عن المائة قتيل ، إلا أن بوروندي بالطبع ليست الدولة الأفريقية الوحيدة التي تشهد مثل هذه النوع من العنف فقد ارتبطت العملية الانتخابية في العديد من دول القارة بارتفاع حدة التوتر السياسي والقبلي. ولعل الأكثر شهرة بين حالات العنف الانتخابي ما جرى في كينيا نهاية عام 2007 وبداية عام 2008 من عنف راح ضحية له عشرات الآلاف من القتلى ومئات الآلاف من الجرحى وقاد إلى موجات نزوح ضخمة شملت مناطق واسعة من البلاد. وتنظر المحكمة الجنائية الدولية حالياً في قضايا ترتبط بالعنف الانتخابي في كينيا كان الرئيس أوهورو كينياتا نفسه طرفاً في إحداها قبل أن تقرر المدعية العامة سحب القضية بسبب عدم توفر الأدلة وعدم تعاون الشهود الذين تعرضوا للكثير من الضغوط من أجل تغيير شهاداتهم التي أدلوا بها في التحقيقات الأولية.
في يوغندا حذر تجمع المعارضة من أن الحكومة تعد العدة لخلق جو من الرعب خلال انتخابات العام القادم مما يهدد بوقوع أحداث عنف على ضوء تلكؤ لجنة الانتخابات في إجراء الاصلاحات المطلوبة في قانون الانتخابات ، وفي تنزانيا أكد محافظ محلية موشي في إقليم كلمنجارو أن القوات الحكومية تقف على أهبة الاستعداد لمواجهة أي نوع من العنف قد يحاول البعض إثارته. أما في نيجيريا التي توصف بأنها أكبر ديمقراطية في أفريقيا أشار بيان من بعض منظمات المجتمع المدني في ولاية كوغي إلى أن الدلائل تشير لاحتمال وقوع حوادث عنف خلال الانتخابات التمهيدية لحزب الشعب الديمقراطي المعارض ، وفي موزمبيق تعرض زعيم المعارضة لمحاولة اغتيال يوم السبت الماضي ، واتهم الرجل الحزب الحاكم بمحاولة التخلص منه.
يرى بعض علماء السياسة أن الأسباب وراء العنف الانتخابي في الدول الأفريقية تعود لعاملين مهمين أحدهما ثقافي والآخر بنيوي. فثقافة العنف إن سادت في أي مجتمع فأنها تقود حتماً للجوء للعنف اللفظي والبدني كبديل أول لمواجهة أي مشكلة مما يؤدي في النهاية إلى لجوء السياسيين للعنف في حالات التنافس الانتخابي. بينما تشير الحقيقة الأخرى إلى أن بعض المجتمعات بما في ذلك الطبقة السياسة داخل تلك المجتمعات تقوم على أسس تجعل اللجوء للعنف خياراً متاحاً وسهلاً. ولا شك أن ذلك يرتبط بأمور عديدة منها وسائل التربية والنظام التعليمي وتوفر وسائل العنف والافلات من العقوبة .. الخ. من ناحية أخرى فإن علماء الاجتماع يرون أن الانسان الذي يعيش في مجتمع تضبطه قوانين وأعراف صارمة يمكن أن يتصرف بصورة غير متوقعة وعنيفة عندما يواجه أوضاعاً لا يستطيع فهمها ويصعب عليه تفسيرها في إطار القيم والمثل السائدة في مجتمعه
من حسن الطالع أنه بالرغم من حوادث العنف اللفظي التي لا تحصى والتوتر السياسي الذي ساد في السودان خلال سنوات ما بعد الاستقلال ، إلا أن الانتخابات السودانية لم تشهد في تاريخها إلا حادثات محدودة من حوادث العنف الجسدي. ولعل من أشهر هذه الحادثات ما وقع في مدينة خشم القربة خلال الانتخابات العامة في 1965 ، وهي الحادثة التي مَثُلَ بسببها الشيخ على عبد الرحمن رئيس حزب الشعب الديمقراطي عندئذٍ أمام القضاء بمدينة كسلا ، وقد برأت المحكمة وقتها الشيخ من تهمة التحريض على القتل. راح ضحية الحادثة المذكورة ما يزيد عن العشرين قتيلاً من بين المواطنين ورجال الشرطة وموظفي لجنة الانتخابات ، غير أن الحادثة على سوءها كانت معزولة ولم ينتج عنها ردود فعل عنيفة. لمن أراد الاطلاع على المزيد من تفاصيل تلك الحادثة يمكنه الرجوع للمقال القيم الذي خطه قلم البروفيسور محمود حسن أحمد في صحيفة “الانتباهة” الصادرة بتاريخ 8 سبتمبر 2015.
غير أن عدم وقوع حوادث عنف انتخابية في السودان حتى الآن لا تعني بالطبع أن البلاد في منأى عن هذا الخطر. فالمجتمع السودانى بالرغم من روح التسامح التي تسود فيه لا يختلف كثيراً عن غيره من المجتمعات التي يمثل العرف فيها أساساً متيناً تقوم عليه تصرفات الفرد داخل المجتمع ، ويمثل فيها الخوف من الوقوع في العيب وازعاً اقوى بكثير من وازع القانون. يرى علماء الاجتماع أن احتمال وقوع العنف في مثل هذه المجتمعات يعود بصورة أساسية إلى أن الانسان عندما يعجز عن وجود تفسير واضح لما يدور حوله في الأعراف التي تحكم المجتمع فإنه يلجأ عادة للعنف لدفع لخطر الحقيقي أو المتخيل الذي يواجهه. ولعل الأحداث التي أعقبت وفاة الدكتور جون قرنق تمثل دليلاً قاطعاً بأن استبعاد مثل هذا الخطر يعتبر من السذاجة أو خداع النفس. كما أننا لا يمكن أن نستبعد أن النظام السياسي الذي ظل سائداً في السودان منذ استقلال البلاد لا يخرج عن التصنيف الذي أشرنا له أعلاه والذي تحدث عنه علماء السياسة كواحد من أسباب انتشار العنف الانتخابي في أفريقيا.
[email][email protected][/email]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..