السودان الذي كان …

في سبتمبر من عام 1969، شددتُ الرحال بصحبة زوجي إلى “المملكة المتحدة”، حيث استقر بنا المقام في مدينة “كمبردج” الجامعية .. وكشأن القادم لأول مرة من بلادٍ يفصل بينها وبين الحضارة متاهات ووديان من الجهل، والفقر، والتخلف، كنت أعيش حالة انبهار نادرة من عمر الزمن امتدت إلى كل شيء.
ومضى من العام أكثره لينحسر الانبهار من داخلي كما تنحسر الأمواج عن شاطئ البحر، وأخذ الوجه الآخر للحضارة يفصح عن مكنونه ويصبغ الكون بلون أسود قاتم.
ذلك الكهل الذي انتبذ له مكاناً قصياً في إحدى الحدائق وقد أكبّ على صحيفته يقلِّب صفحاتها بآليةٍ وإهمال بما يوحي أنه قد قرأها وأمعن النظر فيها عدة مرات، ثم ما لبث أن طواها ووضعها بجانبه على المقعد الخشبي.
كانت الحديقة رائعة بكل المعايير وقد ازدان بساطها الأخضر بمجموعات مختلفة من الزهور الملونة .. وتناثر الأطفال على جنباتها كما تتناثر حبات اللؤلؤ على الثوب الجميل.
حانت مني التفاتة نحو الكهل.. كان لاهياً عن ذلك كله يحدِّق في الأفق البعيد وقد خبت نظرات عينيه.. خُيِّل إليّ أنني أرى دمعة حرّى تسيل ببطءٍ عبر غضون وأخاديد وجهه.. على مقربة كانت تقف – وحيدة – شجرة سامقة طويلة تكاد فروعها تصافح الشمس.. كانت قطرات من الندى تنهمر من أعلى الشجرة على جذعها – لعلها بعض بقايا أمطار الأمس – فتبدو كأنها تذرف الدموع.. لا أدري لماذا راح خيالي يربط بين تلك الشجرة العتيقة والعجوز؟
سرت البرودة في الجو وأخذ الجميع يغادرون الحديقة.. تأبط كهلنا صحيفته وواصل سيره بخطواتٍ بطيئة .. أوصله خيالي إلى منزلٍ خاوٍ باردٍ حيث أشعل المدفأة وجلس قبالتها يستجدي الدفء، ولكن هل تستطيع كل مدافئ العالم مجتمعة أن تقضي على برودة الوحدة التي تسري في أوصاله ويتضاعف شعوره بها مع انبلاجة كل فجرٍ جديد.
غادره أبناؤه واستقلوا بحياتهم واكتفوا ببضع بطاقات معايدة وربما بهدايا يبعثونها له بمناسبة أعياد الميلاد، وكأنَّ العواطف الإنسانية -في ظل الحضارة -قد أصبحت تُعبَّأ في صناديق مزركشة بلا روح.
وقد يستوقفك ذات يوم خبر صغير في إحدى الصحف المحلية مفاده أن الشرطة قد عثرت على جثة كهل في بيته إثر بلاغ من “اللبَّان” الذي شك في الأمر بعد أن تراكمت زجاجات اللبن أمام باب بيت المتوفى، ويفيد تقرير الطبيب الشرعي أن الوفاة قد حدثت قبل بضعة أيام.
وتحملني الذاكرة على أجنحة الخيال عبر الآلاف من الأميال إلى تلك القرية الرابضة في أحضان النيل، حيث يتوسد ذلك الكهل ذو السُحنة السمراء «عنقريباً» قد تآكلت حباله وتقطَّعت، وقد راح مستغرقاً في موجة عارمة من الضحك كشفت عن فمٍ خالٍ من معظم الأسنان الأمامية، ولكنك تراه يضحك وكأنه يهزأ من حبال «عنقريبه» المقطوعة وقد ملكت يمينه حبالاً أخرى لا تطالها يد الزمن، تربط بينه وبين أبنائه وأحفاده بوشائج لا تنفصم عراها.
كانت عيناه تضجّان بالحياة وقد أحاطت به أسرته الكبيرة.. يراه الصغار كما الهرم الأكبر يجوب بهم عظمة الماضي ويزرع في وجدانهم الانتماء للأرض .. وينظر إليه الكبار بكل التجلة والاحترام يزوّدهم بالمشورة ويستقون منه الحكمة.
ويوم ألمّت به تلك الوعكة طارت الأفئدة وجلاً .. ووجم الصغار وقد استشعرت دواخلهم هول الأمر .. التف الجميع حوله وألسنتهم تلهج بالدعاء.. حتى جاء الطبيب وأوصى له ببضع جرعاتٍ من الدواء.. وسرعان ما تمالك الكهل عافيته وعادت ضحكته ترِنُّ في أرجاء الدار .. وعادت عيناه تعربدان بالحياة.. هل كان لقارورة الدواء كل ذلك المفعول، أم أن جرعات الحب التي تعاطاها هي التي عجّلت بالشفاء؟
والآن.. وفي غفلةٍ من الزمان أقبل “الطاغوت” بجيشه وعدّته وعتاده .. جاء “الفرعون” يسوق في ركابه الفقر.. والفاقة .. والحرمان، فانهدَّت الأرواح والأبدان، وما عاد «للعواطف» ولا للفرح من مكان.
تربّع “الطاغوت” في الميدان فشتَّت شمل “العناقريب” في الحيشان .. وقطَّع حبال الوصل بين الإخوان .. ولم تسلم من بطشه صينية طعامٍ تحلَّق حولها الجد والوِلْدان والوالدان .. واكتملت الأحزان بتشرذم العشيرة في المهاجر والبلدان .. وكان يا مكان، في قديم الزمان، وسالف العصر والأوان .. بلاد اسمها السودان ..
ملاحظة: أقول هذا وفي ذهني عدد من “الأسماء” ممن عُثِر على جثامينهم بعد أيامٍ من رحيلهم، دون أن يشعر بهم أحد سواء من الجيران أو من الأهل والأقارب.
[email][email protected][/email]
يا سلام يا اخت بدور تسلم يداك .. الصورة التي رسمتها معبرة جدا من الواقع الذي نعيشه وما كان عليه الحال وكيف اصبح .. بلغة جميلة مؤثرة .. فعلا لم يعد للفرح وللعواطف من مكان في نفوس الناس الكل اصبح يلهث من اجل لقمة العيش والماوى والعلاج .. ضاعت الحياة بمعناها الذي كنا نعايشه اصبحت حياتنا معسكر كبير ننتظر ان نساق منه الى حدث ما لا احد يستطيع ان يتكهن اين هو وما هو .. اشكرك جزيل الشكر هكذا تكون الكتابة من القلب الى القلب
فعلا يا استاذة الخابور والطاغوت الجاثم فوق صدور كبار السن ولاطفال والمرضي ومطارد دوليا من الجنايات ومنبوذ محليا من ابناء الوطن ولكن نقول شنو ارادة دة قدرنا وربنا يزيل الطاغوت الكبير من حكم السودان ومن الدنيا يا رب .