مقتطفات من مقابلة مع الفنان التشكيلي السوداني محمد خليل

مقتطفات من مقابلة مع الفنان التشكيلي السوداني محمد خليل
An Interview with Mohammed Khalil
Camille Billops كاميل بيلوبس
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
مقدمة: هذه ترجمة (بتصرف) لمقتطفات مختارة من مقابلة طويلة مع الفنان التشكيلي السوداني محمد عمر خليل أجرتها معه كاميل بيلوبس، ونشرت عام 1988م بالعدد الثاني والعشرين من مجلة “منتدى الأدب الأمريكي الأسود Black American Literature Forum”، والتي تصدر بالولايات المتحدة الآن تحت اسم آخر هو African American Review .
وكاميل بيلوبس (1933م – ) بحسب سيرتها المبذولة في موسوعة الويكيبيديا، هي فنانة أمريكية من أصل أفريقي تشتغل بالنحت والتوثيق وصناعة الأفلام. أما محمد عمر خليل (1936م – )، بحسب ما ذكر عنه في عدد من المواقع الإسفيرية، هو فنان سوداني/ أمريكي تخرج في كلية الفنون بالخرطوم في عام 1959م، ثم درس في أكاديمية الفنون بفلورنسا الإيطالية بين عامي 1963 ? 1966م، ثم بمدينة رافينا الإيطالية. وعمل بعد ذلك في عدد من المعاهد والجامعات الأمريكية، ثم بعدد من الدول العربية.
المترجم
*************** *********** *************
بيلوبس: أين ولدت؟
خليل: في بري بالخرطوم، عاصمة السودان في الثامن من يناير عام 1936م. وأمي هي سكينة عابدين، وأبي هو عمر خليل.
بيلوبس: هل كان لأحد والديك اهتمام بالفنون؟
خليل: لا. لقد كان والدي يعمل نجارا، بينما كانت أمي ربة منزل.
بيلوبس: متى بدأت ممارسة الفن؟
خليل: لقد بدأت الرسم وأنا في المرحلة الوسطى، عندما كانت سني أَحَدَ عَشَر عاما. بل قد مارست النحت في سن أصغر من ذلك. أذكر أني كنت في الخامسة أو السادسة من عمري عندما كنت أصنع من الطين كهيئة الحيوانات. وكنت أترك ما أصنعه يجف تحت أشعة الشمس.
بيلوبس: هل ترعرعت في بري؟
خليل: نعم. ولدت بها وقضيت بها كل حياتي حتى سافرت لإيطاليا عام 1963م. وبري تقع في بلدية الخرطوم، وتبعد عن وسطها نحو أربعة كيلومترات.
بيلوبس: بماذا علق والداك عندما لاحظا ميولك الفنية؟
خليل: كان كل شخص يشتغل بالفن في تلك الأيام يعد شخصا بوهيميا bohemian أو منبوذا outcast . عندما كنت في الثامنة عشر من العمر اشترى مني أحدهم لوحة، فأخذتها لوالدي في ورشة النجارة ليصنع لها إطارا. سألني والدي إن كنت قد بعت تلك اللوحة. ولما رددت عليه بالإيجاب سألني عن الثمن الذي قبضته فقلت له: “أعطاني عشرين جنيها”. كانت في تلك الأيام مبلغا ضخما. سألني عن الوقت الذي استغرقته في رسم اللوحة فقلت له: “نصف ساعة”. أشار والدي إلى دولاب كان قد انتهى من صنعه للتو وقال لي: ” هل ترى هذا الدولاب؟ لقد قمت بعمله في أسبوع كامل ونلت عليه خمسة عشر دولارا” (لعل المقصود جنيها. المترجم). رددت عليه بالقول إن اللوحات لا تباع بسرعة. وافقني على ذلك.
بيلوبس: هل طلب منك الوالد المشاركة المالية في مصاريف البيت؟
خليل: لا. لم يطلب شيئا مني. عندما استلمت أول شيك في حياتي قدمته له، ولكنه رده إلي قائلا: “لا. هذا ملكك أنت. إن أردت أن تجلب للعائلة شيئا، فأفعل. الأمر يعود لك. ولكني لا تعطني شيكك”.
بيلوبس: عندما تعود بذاكراتك إلى والديك عندما كنت صغيرا… من الذي كان أقربهما لك؟
خليل: في الحقيقة كان أقرب شخص لي هي جدتي مدينة. فهي التي قامت بتربيتي (توفيت والدتي وأنا في الحادية عشر) وسميت عليها ابنتي. كانوا ينادونني محمد ود مدينة. أعتقد أنها لا تزال في انتظاري لأعود ثم تموت. هي الآن في التسعينيات من العمر.
بيلوبس: ولماذا لا تذهب لزياتها؟
خليل: سأذهب إلى أصيلة بالمغرب في ديسمبر
بيلوبس: وهل كان والداك موافقا على دخولك كلية الفنون؟
خليل: لا، أنا الذي قررت الدخول لتلك الكلية. وتعمدت عدم بذل جهد كبير في المدرسة (الثانوية) حتى لا أقبل في الكليات الأفضل (مثل المعمار أو الطب) التي يدخلها الطلاب الذين يحرزون درجات عالية بصورة أتوماتيكية. في تلك الأيام كانت البلاد تحتاج لمثل تلك التخصصات.
بيلوبس: هل كانت الكلية التي دخلتها هي أول كلية فنون بالسودان؟
خليل: نعم. بدأت في الجامعة مع قرينلو (Greenlaw) وهو مدرس فنون إنجليزي.
بيلوبس: أكان الاستعمار قد خرج حينها؟
خليل: لا. الاستعمار لم يخرج حتى 1959 ? 1960م.
بيلوبس: كيف استقبلت الثقافة (الوسط الثقافي) تلك الظاهرة الغربية المتمثلة في easel painting (وهو كما أفادني فنان خبير، ذلك الفن الذي يمارسه الفنان التشكيلي الملون ? بكسر الواو وتشديدها ? الذي يرسم اللوحة التي توضع على حامل، وليس الفن الذي يستخدمه الفنان الطابع، الذي يستخدم آلة الطباعة لتنفيذ لوحاته بالحفر على الخشب أو قطع المعدن. المترجم)
خليل: لم يكن الأمر سهلا. لا يستطيع المرء أن يكسب عيشه من الفن. لقد كان أمرا جديدا. السودانيون لا يشترون أو يجمعون أعمال الفنانين. الأجانب والعاملين بالسفارات الأجنبية وحدهم هم الذين يقتنون اللوحات الفنية.
بيلوبس: تلك إذن هي بداية الفن الغربي في السودان؟
خليل: نعم. لقد بدأ ذلك الفن في الخمسينيات.
بيلوبس: هل تعلم عن أي طالب سافر للقاهرة لتعلم الفن، أم أنهم كانوا يتحاشون القاهرة ويذهبون مباشرة لأوروبا؟
خليل: كانوا يذهبون لأوروبا. لكننا زرنا ونحن طلاب في نهاية السنة الدراسية كليات الفنون بالقاهرة والإسكندرية وقابلنا بعض الفنانين فيها.
بيلوبس: هل أكملت دراستك في كلية الفنون بالخرطوم لتحصل على بكالوريوس؟
خليل: يقضي الطالب ستة أعوام بالكلية ويحصل في النهاية على دبلوم. ولو كنت من المتفوقين، قد تحصل على بعثة تمتد لسنوات قليلة إلى إنجلترا. لم تكن الكلية تمنح بكالوريوس. النظام الأمريكي يختلف عن النظام البريطاني. أنا ذهبت بعد التخرج لإيطاليا وليس لإنجلترا.
بيلوبس: وماذا كان رأي العائلة عندما علموا بأنك ستترك السودان وتسافر لأوروبا؟
خليل: وافق والدي على سفري وباركه. كان أخي وأختي قد تزوجا، وكنت الوحيد العزب في العائلة. حاول والدي تزويجي من بنت عمتي قبل السفر، غير أني رفضت. ولعمتي قصة طريفة عندما أتت زوجتي الحالية للزواج مني في السودان.
بيلوبس: هل تزوجت في السودان؟
خليل: نعم. حضرت كلير للسودان بعد تخرجها في الأكاديمية الإيطالية التي كنت أدرس بها. لقد أتت للأكاديمية في سنتي الأخيرة قبل التخرج. كنت قد أكملت دراستي في الأكاديمية في عامين، وبقيت لي سنة كاملة من بعثتي لم تكن لي فيها دراسة في الأكاديمية، فسافرت إلى رافينا لدراسة الفسيفساء mosaic بينما بقيت هي تدرس الرسم في الأكاديمية. ثم رجعت لفلورنسا ثم عدت للسودان، بينما عادت هي لأمريكا. وبعد شهرين لحقت بي في الخرطوم، حيث تزوجنا بعد ذلك بشهور. كان عمري حينها 31 عاما. أتت عمتي لتتفقد عروسي، وكانت قاسية عليها جدا. أخبرت عمتي أن كلارا هي زوجتي الآن وأن عليها أن تظهر لها بعض اللطف. لقد كانت عمتي تلك هي والدة البنت التي كان أهلي قد اقترحوا علي الزواج منها، وكان أخي الأكبر متزوجا من إحدى بناتها.
بيلوبس: وماذا كان رأي عائلتك في المرأة البيضاء التي تزوجتها؟
خليل: لقد أحبوها وعدوها واحدة من العائلة لأنها زوجتي. لم يترددوا في القبول بها.
بيلوبس: وماذا درست في إيطاليا؟
خليل: لقد درست عمل اللوحات الجصية (fresco) والنقش (etching) والرسم. وفي عامي الأخير بإيطاليا درست الفسيفساء. كانت أيامي في إيطاليا تلك أفضل أيام حياتي، وأنا أجول بين كل تلك اللوحات البالغة الجمال. قضيت في فلورنسا معظم وقتي، ولكني طفت بكل أنحاء إيطاليا مستمتعا برؤية أعمال كبار فناني الحضارة من رسامين ونحاتين ومفكرين ومعماريين … هنا كان مولد الإنسان.
بيلوبس: هل قابلت أفارقة آخرين في إيطاليا في تلك الأيام؟
خالد: نعم. كان هنالك كثير من رجال غرب أفريقيا. ولا زلت احتفظ بصلات حسنة مع بعضهم.
بيلوبس: إلى أين ذهبت بعد زواجك في السودان، ولماذا غادرت السودان؟
خالد: لقد غادرت السودان لسوء الحال في الكلية التي كنت أعمل بها.
بيلوبس: رجعت من إيطاليا وعملت مدرسا؟
خالد: كان لابد من أن أعود وأعمل لعامين متتاليين على الأقل، وبعدها كان يحق لي أن أترك العمل. حاولت زوجتي التقدم للعمل بالمدرسة الأمريكية في الخرطوم، ولكن تعذر عليها ذلك بسبب وجود عدد كبير من الأجانب بالخرطوم يبحثون عن وظائف تدريسية. لذا فقد بقيت تعمل من /في البيت.
بيلوبس: هل كنت تتقاضى ما يكفيك وزوجك؟
خالد: لا. عدت لأجد أني أتقاضى نفس الراتب الذي كنت أناله قبل سفري لإيطاليا. وكان ذلك أمرا خاطئا. طالبت بتفريغي لعام كامل لأفعل ما أريد، أو أن يسمح لي بالعمل في السعودية أو البحرين لأتهم يدفعون جيدا في الخليج. ورفضت جميع طلباتي مع أني وجدت طلابي يعملون في نفس كليتي بمرتبات تفوق مرتبي. وفي أيامي تلك بالكلية غادرها 11 من الأساتذة كنت آخرهم. ولأنه لم يكن مسموحا للأساتذة بمغادرة السودان دون إذن، قمت بتغير مهنتي في جواز السفر إلى “فنان”.
بيلوبس: قمت إذن بإعادة تعريف نفسك؟
خليل: نعم. طلبت إصدار جواز جديد، وحصلت على تأشيرة، وفي اليوم التالي ذهبت لرئيس قسمي وقدمت له استقالتي فضحك. قلت له: “إذا حضرت للمطار في الساعة السابعة والنصف من صباح الغد فستراني هنالك”، وهكذا غادرت.
بيلوبس: هل يرى السودانيون أنفسهم عربا أم أفارقة؟
خليل: أنا أرى نفسي رجلا سودانيا. أنا أفريقي يتحدث اللغة العربية، غير أني لا أحس البتة بأني عربي.
بيلوبس: ولكن من أين أتى ذلك الخلط؟
خليل: بعض السودانيين الراغبين في الحصول على بعض المال زعموا أن أصولهم تنحدر من العرب، ومن الأفارقة أيضا.
بيلوبس: مثل “الجمهورية العربية المتحدة”
خليل: نعم. لقد فوجئت وأنا في “أصيلة” بالمغرب برجل سوداني يقول لي أنه لا يحس في دواخله أبدا بأن له أي صلة بإفريقيا. لا أدري أين تعلم ذلك؟! لا يبدو من شكله أنه عربي، وكان لونه أدكن من لوني. قال لي إن أفريقيا ليست لها حضارة فسألته: “متى بدأ تاريخك؟”
بيلوبس: عندما أتيت للولايات المتحدة، كان تأهيلك الفني سوداني وإيطالي … ماذا فعلت هنا؟
خليل: مارست في البداية عددا من المهن من أجل كسب العيش. لقد جئت لهذا البلد مرتين من قبل. كانت المرة الأولى عام 1964م بقصد السياحة ورؤية نيويورك. وكانت الزيارة الثانية بقصد التأكد من أني أكره نيويورك حقا.
بيلوبس: لماذا؟
خليل: لأني شعرت بخيبة الأمل من رائحة نيويورك ومن أعداد المتشردين المتبطحين على شوارعها. كانت فكرتي عن أمريكا مأخوذة من الأفلام. يقود المرء سيارة كاديلاك أو أي سيارة من تلك الأنواع الفخمة، ويذهب لمكتب البريد أو المصرف أو المطعم دون أن يترجل عن سيارته.
بيلوبس: والشوارع مرصوفة بالذهب؟
خليل: ليست مرصوفة بالذهب، ولكن على الأقل نظيفة. لذا عدت لها مرة أخرى لأرى إن كنت ما زلت أكرها. كانت تلك هي غلطتي. لقد أحببتها. فيها قابلت إبراهيم الصلحي وبوب بلاكبيرن، وذهبنا معا لمهرجانات الجاز في شوارع هارليم (كان ذلك في 1965م).
بيلوبس: الولايات المتحدة بلد متفرد عنصريا.
خليل: لقد كانت تجربتي فيها واحدة من أجمل تجاربي في الحياة. لم أقض فيها أجمل أوقاتي، ولكن تجربتي فيها كانت قطعا واحدة من أجمل تجاربي. السبب هو أنه يلزمك أن تكون سريعا في إخراج أفكارك للعالم. إن لم تفعل سوف يقوم شخص آخر بفعل ذلك ويسبقك. إنه أمر محفز ويثير النشاط.
بيلوبس: هل كان شعرك حينها “أفرو” في ذلك الوقت أيضا؟
خليل: نعم. حتى عندما كنت في السودان، كان شعري “أفرو” فتلك كانت الموضة يومها، وكنا نستخدم المشط الأفرو، والذي كنا بالمناسبة نسميه في السودان “مشط الفزي الوظي fuzzy wuzzy comb”.
كنت أختلط بالأمريكيين السود وأشعر معهم بأني بين أهلي. غير أنه رغم ذلك كنت أبدو بينهم رجلا أجنبيا. فلم أكن أتحرك أو أتحدث مثلهم أو أرقص على موسيقى الجاز (jive) مثلهم. أصحابي من غرب أفريقيا كانوا مثلي، ولكنهم كانوا أكثر قبولا من شخص اسمه “محمد”. ولكن ربما كانوا أكثر قبولا عند الأمريكان السود لأنهم أبناء عمومة منذ أيام العبودية.
بيلوبس: اللوحة المطبوعة (print) التي أهديتني لها فيها كمامة / قناع غاز (gas mask).
خليل: كان ذلك تعبيرا عن الحياة في نيويورك بكل ما فيها من تلوث وتعرض للغازات. لقد أنجزت كثيرا من الأعمال عن نيويورك، وأسميت العمل الذي أهديته لك “تضحية sacrifice”. أقول في اللوحة إني أضحي بنفسي. وأعمالي الأخرى كانت عن الإزعاج (التلوث السمعي) في نيويورك. وعملي الذي اسميته “صدى echo” لا يتحدث عن ما تسمعه من صدى من الجبال، بل من تبادل طلقات الرصاص. عندما أتيت في زيارتي الأولى لنيويورك، صادفت في كوينز حادثة في سوبرماركت قامت فيها عصابة بحجز رواد السوبرماركت عنوة تحت تهديد السلاح. ذكرني المشهد بالأفلام الأمريكية، ووقفت أشاهد ذلك المنظر وأنا في غاية الذهول والشَّدَه. وجرى رجال العصابة إلى سيارتهم وهم يحملون ما سرقوه من دولارات، والجميع ينظرون وقد تجمدوا في أماكنهم. كان من الممكن (نظريا) أن أصاب في ذلك الحادث. ذهبت من فوري وبدأت في عمل “صدى 1″ و”صدى 2”. كنت سأقوم بمواصلة العمل في سلسلة “صدى”، غير أني توقفت.