من تاريخ الحزب الشيوعي السوداني: الصراع الفكري: 1969- 1970م (2)

في صباح 25 مايو 1969م ، وقع إنقلاب عسكري قام به صغار الضباط ، صادر الإنقلاب الحقوق والحريات الديمقراطية.
اصدرت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوداني خطابا داخليا في مساء 25/مايو/1969م، جاء فيه:
? ماجري صباح هذا اليوم انقلاب عسكري وليس عملا شعبيا مسلحا قامت به قوى الجبهة الوطنية الديمقراطية عن طريق قسمها المسلح، واصبحت السلطة تتشكل من فئة البورجوازية الصغيرة.
? يبني الحزب موقفه من هذه السلطة علي أساس: دعمها وحمايتها امام خطر الثورة المضادة، وأن يحتفظ الحزب بقدراته الايجابية في نقد وكشف مناهج البورجوازية الصغيرة وتطلعاتها غير المؤسسة لنقل قيادة الثورة من يد الطبقة العاملة الي يدها، فالبورجوازية الصغيرة ليس في استطاعتها السير بحركة الثورة الديمقراطية بطريقة متصلة.
ثم بعد ذلك دار صراع فكري داخل الحزب الشيوعي كانت اهم مظاهره، كما وصفها الشهيد عبد الخالق محجوب في وثيقته التي قدمها للمؤتمر التداولي الذي انعقد في اغسطس 1970م:
– المقالة التي نشرت للزميل معاوية ابراهيم في مجلة الشيوعي( المجلة الفكرية للجنة المركزية للحزب الشيوعي)، العدد 134، ينتقد فيها الخطاب الدوري الأول للجنة المركزية ويعتبر اتجاهه سلبيا في وصفه للسلطة الجديدة بأنها بورجوازية صغيرة مما يؤدي حسب رأيه الي التقليل من قدراتها الثورية والي اضعاف دعم الشيوعيين لها والي اخطاء في تفهمهم لقضية التحالف معها، في ايراد لتحليل سابق لم توافق اللجنة علي تفاصيله، بل وافقت علي الاتجاه العام للتقرير الذي طرحه في دورة مارس 1969م حول الموقف من الانقلاب العسكري.
– رأى الزميل عمر مصطفي في اجتماع المكتب السياسي صباح الخامس والعشرين من مايو 1969م، ثم تكامل هذا الرأي في اجتماع المكتب السياسي بتاريخ 27/10/1969م حول الخطاب الدوري الأول للجنة المركزية والذي اعتبره الزميل وثيقة ملعونة، ثم رأي الزميل عمر مصطفي في مابعد حول اجتماع المكتب السياسي بتاريخ 9/مايو/1969م، والخاص بمناقشة التحضير للانقلاب العسكري، اذ يرى أن ذلك الاجتماع أخطأ في موقفه، وأكد سير الأحداث ذلك الخطأ حسب رأيه.
– مجموعة مواقف عملية أخري في نشاط الهيئات القيادية بعد صدور الخطاب الدوري الرابع، وهي علي سبيل المثال:
أ- الاختلاف في اللجنة المركزية حول تقييم استدعاء وزير الداخلية لعدد من كادر الحزب وأعضاء اللجنة المركزية بتاريخ:18/9/1969م،
ب- الاختلاف حول تقييم التعديل الوزاري وموقف الحزب الشيوعي منه مما دعا الي مناقشة هذا الموضوع في خمس جلسات للمكتب السياسي وتعطل اتخاذ موقف موحد في حينه.
ج- عدم وصول رأى الحزب الشيوعي حول تخفيض الأجور والموازنة للجماهير وعدم وضوح موقف الحزب الشيوعي من هذه القضية.
د- الخط الدعائي الذي تسلكه صحيفة الحزب القانونية… الخ.
أوضح عبد الخالق في وثيقته جذور هذه الاختلافات والتي ترجع الي ما قبل 25/مايو/1969م، وانها نتاج لصعوبات العمل في ظروف الثورة المضادة التي خلقت اهتزازات مختلفة بين كادر الحزب يطرح تارة يمينا وتارة أخري يسارا، وفي كلا الحالين كان هناك تراجع عن تكتيكات الحزب الشيوعي في تلك الفترة، والمتفق عليها في المؤتمر الرابع للحزب والقائمة علي الدفاع وتجميع قوى الثورة استعدادا للهجوم عندما تتهيأ الأسباب الموضوعية والذاتية لذلك. وضرب عبد الخالق مثلا بمقال الزميل احمد سليمان في جريدة(الأيام) بتاريخ:8/12/1969م والذي دعي فيها للمخرج بانقلاب عسكري يوفر الاستقرار لحكومة وحدة وطنية عريضة. ويري عبد الخالق أن هذا المقال اضر بموقف الحزب الشيوعي الموحد حيال القوات المسلحة وتكتيكات الحزب الشيوعي المقررة في المؤتمر الرابع من زاوية أنه:
1- لايري أن الشئ الجوهري هو أن تحشد الجماهير وتعد فكريا وتنظيميا حتي تصل الي مستوى استكمال الثورة الوطنية الديمقراطية ، بل أن الحل لأزمة الحكم والطبقات الحاكمة هو قيام حكومة للوحدة الوطنية تجمع بين القوى الرجعية وقوى التقدم.
2- يعارض تحليل المؤتمر للقوات المسلحة ذلك التحليل الذي لايري فيها جمعا طبقيا واحدا يدخل ضمن القوي الوطنية الديمقراطية، فالمقالة تقترح دخول القوات المسلحة كجسم واحد بأقسامها الوطنية والرجعية لحل أزمة الحكم.
3- يطرح دخول القوات المسلحة ككل في العمل السياسي لحماية حكومة الوحدة الوطنية، ولكن حمايتها ممن؟… الا يدل هذا علي أن القوات المسلحة مدعوة الي دعم حكم رجعي به عناصر تقدمية شكلا؟. وايجاد صيغة للتصالح بين تلك القوى الرجعية حتي بين ابسط ميادين الديمقراطية واعنى الانتخابات؟.
هذا وقد رد عبد الخالق علي مقال احمد سليمان في صحيفة اخبار الاسبوع بتاريخ:16/يناير/1969م.أشار في هذا المقال الي أن الحديث عن القوات المسلحة بوصفها الأمل الوحيد للانقاذ في اجماله خطر ويتجاهل تجربة الشعب في بلادنا التي خبرت حكم الجنرالات في نظام 17/نوفمبر 1958م، وأن القوات المسلحة لاتخرج من اطار التحليل الطبقي وتشكل في مستواها الاعلي وبالتجربة جزءا من النادي الذي سقط طريقه الاقتصادي، واصبح لامفر من نظام سياسي جديد يعقب القوي الاجتماعية التي حكمت من قبل وتحكم فعليا علي تعدد الحكومات الحزبية منها والعسكرية).
يواصل الشهيد عبد الخالق ويقول في وثيقته التي قدمها للمؤتمر التداولي( لقد واصل هذا التيار موقفه بعد انقلاب 25/مايو/1969م بصورة قد تبدو جديدة، ولكنها في حقيقة الأمر الصورة القديمة نفسها. قد يبدو غريبا أن الرفاق الداعين للتحالف تحت نفوذ الاجنحة الاصلاحية في الحزب الاتحادي الديمقراطي يؤيدون الانقلاب العسكري الذي اطاح بذلك الجناح ضمن ما اطاح، ولكن الخيط الذي يربط بين الموقفين هو الدعوة لكي يتخذ الحزب الشيوعي موقفا ذيليا في كلا الحلفين: هناك يتحالف بصورة ذيلية مع البورجوازية الاصلاحية، وهنا يتحول، عن سكوت، ذيلا للبورجوازية الصغيرة، ان عناصر من الحاملين لهذا الاتجاه اليميني واخص بالذكر محمد احمد سليمان انتقلوا عمليا وفكريا من الحزب الشيوعي الي السلطة الجديدة، ولم يكن تحللهم من نظام الحزب وقواعده امرا شكليا أو مجرد خرق لاجراءات اللائحة، ولكنه كان تعبيرا عمليا عن الفهم اليميني للتحالف القائم علي الحل الفعلي للحزب الشيوعي وتحول كادره الي موظفين)( ص 103، في كتاب فؤاد مطر: الحزب الشيوعي نحروه أم انتحر؟، 1971م).
يواصل عبد الخالق ويقول ( وكما عجز هذا التيار عن فهم اسس التحالف مع البورجوازية الوطنية وفقا لاستنتاجات المؤتمر الرابع فهو ايضا يعاني الآن من المشكلة نفسها: أسس التحالف مع البورجوازية الصغيرة. ولأن هذا التيار كان يائسا من العمل الثوري الشعبي وخط تجميع وتراكم القوى الثورية بالنضال في الجبهات الفكرية والسياسية والاقتصادية ويبحث عن المخارج الأخري، فقد كان من الطبيعي أن يكون له رأي في ما يخص القوات المسلحة والعمل الانقلابي يختلف عما اجمعنا عليه في المؤتمر الرابع للحزب)(ص 103-104).
وكان هناك الاختلاف في التصور حول دور القوات المسلحة، فكان هناك تحليل الحزب الشيوعي الذي لاينظر للجيش كطبقة او فئة واحدة، كما انه ليس جهازا معزولا عن عمليات الصراع الطبقي، فهناك حكم الجنرالات الرجعيين الذين برهن حكمهم الديكتاتوري في اعوام:1958-1964م علي انه جزء من البورجوازية المرتبطة بالاستعمار، كما أن غالبية جنود القوات المسلحة وضباطها جزء من الشعب لا من معسكر اعدائه.
وعكس ذلك تحليل الاتجاه اليميني والانقلابي في الحزب الذي يصور وضع الحزب الشيوعي للقوات المسلحة ككل في صف القوي المعادية، علما بأن الحزب الشيوعي حدد في مؤتمره الرابع القوى الاجتماعية صاحبة المصلحة في انجاز الثورة الوطنية الديمقراطية بأنها( الجماهير العاملة، المزارعون، والمثقفون الثوريون، والرأسمالية الوطنية، وتكمن قيادة هذه القوى بين جماهير الطبقة العاملة)، وتدخل القوات المسلحة بين هذه القوى حسب فئاتها الاجتماعية وتوزيعاتها الطبقية، كما أشار عبد الخالق محجوب.
ولخص عبد الخالق الصراع الفكري حول هذه النقطة في الآتي:
( هناك تصور يري أن تحتل الفئات الوطنية والديمقراطية في القوات المسلحة المركز المقدم في نشاط الحزب الشيوعي بفضل وجود السلاح بين ايديها ولأنها بهذا أقدر من غيرها علي حسم قضية السلطة بسرعة وبايجاز، وهذا في رأي تصور خاطئ وغير ماركسي. فالثورة الديمقراطية هي ثورة الاصلاح الزراعي ولايمكن أن تصل الي نتيجتها المنطقية الا باستنهاض جماهير الكادحين من المزارعين علي نطاق واسع وادخالهم ميادين الصراع السياسي والاقتصادي والفكري!. فالثورة الاشتراكية هي ثورة غالبية الجماهير الكادحة تتم بوعيهم وبرضاهم وبمشاركتهم الفعالة في اعلي مستويات النشاط الثوري. والقوات المسلحة في بلادنا ننظر الي اقسامها من زاوية انتماءاتها الفئوية والطبقية ويحدد دورها كجزء من الفئات الفئوية أو الطبقية المتصارعة في هذه الفترة أو تلك من فترات التطور الثوري. وعندما يصل هذا التصور الخاطئ الي مراميه النظرية يتحول الي نظرية انقلابية كاملة تدعو الحزب الشيوعي الي التخلي عن النشاط بين الجماهير وعن مهمته الصعبة في توعيتها وتنظيمها وتدريبها خلال المعارك العملية والفكرية، اللجوء الي تنظيم ( انقلاب تقدمي)( ص 105-106).
ويلخص عبد الخالق الموضوع في أن الشيوعيين لايقبلون ايديولوجيا نظرية القلة التي تقبض علي السلطة ثم بعد ذلك ترجع للجماهير، وأن الشيوعيين يرفضون التكتيك الذي يهمل العمل الجماهيري ويتراجع أمام مشاقه ويتغاضي عن المفهوم الشيوعي للثورة بوصفها اعلي قمم النشاط الجماهيري ولايعترف بمبدأ الأزمة الثورية ? شروطها وعوامل نجاحها، وأن التكتيك الانقلابي ايديولوجية غير شيوعية( المصدر السابق).
هكذا كان هناك صراع فكري داخل الحزب الشيوعي حول طبيعة السلطة الجديدة: هل نسمي السلطة الجديدة ديمقراطية ثورية أم بورجوازية صغيرة؟(علما بأن الديمقراطيين الثوريين لايشكلون طبقة قائمة بذاتها، فمنهم من يتخذ مواقف يمينية ومنهم من يتخذ مواقف يسارية) ، لانركز علي التمايز بقدر ما نركز علي نقاط الاتفاق. ووصف عبد الخالق ذلك: أن ذلك تعبير عن مفهومين يتصارعان حول قضية التحالف في هذه الفترة مع السلطة الجديدة، احدهما مفهوم يميني والاخر مفهوم شيوعي.
فماهي القضايا العملية التي دار حولها الصراع؟.
يمكن أن نقسم القضايا التي دار حولها الصراع الي الآتي:-
1- الحقوق والحريات الديمقراطية.
2- التاميمات والمصادرة
3- السلم التعليمي.
4- احداث الجزيرة أبا
5- الاوضاع المعيشية ولاقتصادية.
6- ميثاق طرابلس( الاتحاد الثلاثي بين السودان ومصر وليبيا)
7- التنظيم السياسي( حزب واحد أم جبهة؟).
أولا: الحقوق والحريات الديمقراطية:
في بداية الانقلاب اصدر النظام اوامر جمهورية، تم بموجبها حل الاحزاب ومصادرة كل الحقوق والحريات الأساسية، أشار عبد الخالق في تقريره للمؤتمر التداولي( علينا أن نلحظ في الوقت نفسه مواقف واتجاهات سلبية عاقت تطور الثورة الديمقراطية في بلادنا، فالامران الجمهوريان الرقم(1) والرقم(2) ينصان علي حل جميع الأحزاب السياسية ، وأى تشكيل سياسي أو أى تنظيم يحتمل أن يستغل لأغراض سياسية وعلي تحريم الاضراب للجماهير العاملة، ويعتبر مجرما كل من ( يقوم بأى عمل من شأنه اثارة الكراهية بين طبقات الشعب بسبب اختلاف الدين أو الوضع الاجتماعي)، ومن يشهر بوزير أو عضو في مجلس الثورة)
يواصل عبد الخالق ويقول ( نحن نعتبر مرحلة الانتقال ? انجاز مهام الثورة الوطنية الديمقراطية- غنية بالصراع الطبقي وتعتمد في نجاحها علي تمتع الجماهير الشعبية بمستوى عال من الديمقراطية في التنظيم وفي الرأي..الخ، ولهذا فكل قيد علي الجماهير يعوق تطور الثورة ويؤدي الي تقوية مراكز القوي الرجعية)( المصدر السابق:ص 131).
يواصل عبد الخالق ويقول ردا علي الانقساميين الذين يقللون من خطر مصادرة الحقوق والحريات الديمقراطية، بحجة الاشتراكية والتقدمية، بقوله:
(من زاوية طبيعة الثورة الديمقراطية نفسها نحن كشيوعيين نرى أن هذه الفترة تمتاز بطابع تغير الحياة علي اسس ديمقراطية ومن زاوية خصائص فترة الانتقال في بلادنا، فان هذا التغيير علي اسس الديمقراطية هو الذي يجعل العملية العسكرية التي غيرت السلطة تسير في طريق التحول الي ثورة شعبية حقيقية. ان مفهوم (حل جميع الأحزاب) هو في واقع الأمر تصور خاطئ، تصور انقلابي، وهو يعبر عن قصور حقيقي في فهم طبيعة المرحلة الانتقالية بوصفها مرحلة انطلاق وتعميق للصراع الطبقي الاجتماعي في بلادنا بما يكفل انجاز الثورة الديمقراطية، وحسم هذه المرحلة لصالح استقبال الثورة الاشتراكية، لهذا فالموقف من هذه القضية مبدئي، وعلينا أن نناضل بحزم من اجل حق الطبقة العاملة في الديمقراطية والتنظيم والنشاط المستقل).
النقطة الثانية التي اشار لها عبد الخالق( من زاوية فهمنا لدورنا كشيوعيين خلال انجاز مرحلة الثور الوطنية الديمقراطية في بلادنا، أن واجبنا هو ايقاظ الملايين من جماهير المزارعين للعمل الثوري وخلق تحالف ثابت بينهم وبين الطبقة العاملة وحزبها الشيوعي. هو نشر الوعي الاجتماعي بين مختلف فئات الكادحين اعتمادا علي النظرية الماركسية اللينينية..الخ، هذه المهمة التاريخية تنهض بها الطبقة العاملة وطلائعها الشيوعيون بكل طاقاتها وكل قيد علي حرية الطبقة العاملة وكل سد يقام لحبس هذه الطاقات يعوق من تنفيذ هذا الواجب ومن احداث ثورة اجتماعية عميقة في البلاد).
أما النقطة الثالثة التي اشار لها عبد الخالق( من زاوية ما انجزت الحركة الثورية وحركة الطبقة العاملة من مكاسب خلال نضالها الشاق والطويل. فالتنظيمات المستقلة للطبقة العاملة والحقوق الديمقراطية للجماهير الثورية كانت مدار نضال عميق ضد القوي الرجعية والاستعمارية في بلادنا، وهذه الجماهير تدخل في فترة انجاز الثورة الديمقراطية من فوق هذه التقاليد والمكاسب لابتصفيتها، وعلينا نحن الشيوعيين قبل غيرنا الا نقلل من هذا الرصيد الضخم الذي يشكل عنصرا مهما لنجاح الثورة الديمقراطية في بلادنا ثم لنقلها صوب الاشتراكية).
اما النقطة الرابعة التي اشار اليها عبد الخالق(من زاوية المصالح الحقيقية للطبقة العاملة السودانية وهي التي مازالت تعيش تحت ظل الاستغلال. ان فترة الانتقال ? الثورة الديمقراطية- لاتعني الغاء الاستغلال الرأسمالي، والسبيل الوحيد لذلك هو توفير الشروط المادية والسياسية للانتقال بمجتمعنا صوب الاشتراكية. ومن دون حق الطبقة العاملة في التنظيم والاضراب، فان الاستغلال الرأسمالي يتزايد ولاتتوفر شروط ملائمة لتراص صفوف هذه الطبقة كقوة يعتمد عليها في النضال من اجل انجاز الثورة الديمقراطية وحسم فترة الانتقال ومواجهة مهام الثورة الاشتراكية. ان الطبقة العاملة مازالت تتعرض بالالاف للعطالة، مازالت اجورها في القطاع الرأسمالي في مستوى لايليق بالبشر، ومازالت تنتظرها عشرات المعارك الطبقية، وحرمان الطبقة العاملة من حق الاضراب سلاح يوجه اليوم عمليا الي صدور هذه الطبقة).
كما أشار عبد الخالق الي قرار حل اللجان الثورية الشعبية ووصفه بأنه (ضربة ايضا لتطور الثورة الديمقراطية في بلادنا، كان من الناحية الايديولوجية يعبر عن تردد السلطة في تحويل الانقلاب الي ثورة ديمقراطية عميقة الجذور وفي تطوير الصراع الاجتماعي في بلادنا).
وانتقد عبد الخالق حل الاتحادات الطلابية، يقول: ( ان الغاء الاتحادات الطلابية ومصادرة العمل السياسي في المدارس الثانوية اضرا بالعمل الثوري لحركة الطلاب وتركا المجال فسيحا لليمين، في وقت كان ميزان القوي قبل الخامس والعشرين من مايو يسير لصالح الحركة الديمقراطية، وفتحا الباب لتزايد نشاط العناصر الرجعية تحت ستار الجمعيات الدينية).
كما انتقد عبد الخالق جهاز الرقابة الذي كونته السلطة باعتباره بعيد عن الرقابة الجماهيرية والذي سوف يتحول الي سلطة بوليسية ويدفع البلاد الي نظام بوليسي لامبرر له وسيشكل عقبة أمام تحول الأوضاع الراهنة الي ثورة شعبية عميقة الجذور)( ص 130).
وبعد احداث الجزيرة أبا اصدر مجلس قيادة الثورة المرسوم الجمهوري رقم(4) الذي وسع نطاق الجرائم والعقوبات الخانقة المعددة في الأمر الجمهوري رقم(2) الصادر في مايو 1969م، وقد شملت المخالفات الجديدة الأعمال التي تشكل تهديدا أو اخلالا بالثورة، سواء كانت مقصودة أو لا، وغالبا ما كانت العقوبة الاعدام أو السجن المؤبد مع مصادرة الممتلكات. كل من يتآمر أو يقوم بأعمال تحسس مع بلد اجنبي أو عملاء ذلك البلد، وكل من ينضم الي الخدمة المدنية أو العسكرية لبلد (معادي) أو حتي يتاجر مع مثل هذا البلد، سيحكم عليه بالاعدام أو السجن المؤبد علي كل من يدان بتهريب البضائع والعملات، ويقبل الرشوة أو يسئ استعمال الموال العامة، أو يعلن الاضراب عن العمل. كما فرض المرسوم حكم الاعدام علي كل من يقوم(باعمال حروب العصابات في المدن)، واصبح حمل السلاح وتسليح الناس واتلاف الممتلكات العامة وقبض الأموال لعرقلة الثورة، وطبع مواد تنتقد نظام الحكم أو ضباطه ونشرها واذاعتها اعمالا تعاقب بالاعدام ومصادرة الممتلكات، وبات نشر خبر كاذب في صحيفة ما يجعل رئيس التحرير مسئولا ومعاقبا بالسجن وبدفع غرامة لاتقل عن عشرة الاف جنية سوداني مع وقف الترخيص للصحيفة، ومصادرة موجوداتها. كما جاء في المرسوم، أنه في مثل جميع حالات الاعلام الكاذب كهذا( ستقع مسئولية اثبات صحة الأحداث والانباء البيانات علي المتهم). كما نص المرسوم الحكم بالسجن عشر سنوات علي كل شخص لايبلغ السلطة المخططات والمؤامرات التي تحاك لارتكاب المخالفات الآنف ذكرها)( المحجوب: الديمقراطية في الميزان، ص 243).
انتقد الحزب الشيوعي الطريقة الهمجية في ضرب الجزيرة أبا، كما انتقد الأمر الجمهوري رقم(4)، باعتباره يصادر الحقوق والحريات الديمقراطية، بينما تغاضي الانقساميون عن هذا الأمر وبرروا باعتباره موجه ضد الثورة المضادة وليس الحزب الشيوعي، وهاجموا انتقاد عبد الخالق لتصرف السلطة بعد احداث الجزيرة أبا، وباعتبار أن ذلك معادي لنظام مايو.
وتم اعتقال عبد الخالق محجوب بعد احداث الجزيرة ابا ومعه الصادق المهدي وتم نفيهما الي مصر، في عملية وصفها عبد الخالق بأنه خليفة الزبير باشا في النفي والذي اعتقلته الحكومة التركية ونفته الي مصر معتقلا!!.
وفي ابريل 1970م، قامت السلطة بحل اتحاد الشباب والاتحاد النسائي وهما تنظيمان ديمقراطيان مستقلان، وبدأت السلطة الأعداد لتكوين تنظيمات سلطوية بديلة لهما تمهيدا للاعلان لتكوين تنظيمات سلطوية بديلة لهما تمهيدا للاعلان الرسمي بتكوين الاتحاد الاشتراكي في الذكري الأولي للانقلاب في 25/مايو1969م.
هكذا بدأ النظام في مصادرة الحقوق والحريات الديمقراطية، وانشاء هياكل الدولة البوليسية ونظام الحزب الواحد ومصادرة حقوق التنظيم والتعبير.
وخلاصة الأمر، كان موقف العناصر المنقسمة ان حديث الحزب الشيوعي عن الديمقراطية هو حديث ليبرالي يتعارض مع ثورة مايو!!، وهكذا تنكر الانقساميون لكل الماضي النضالي الطويل الذي تركته من خلفها القوي التقدمية السودانية حينما دافعت في جسارة ووضوح عن حقوق وحريات المواطن السوداني من اجل سيادة القانون.
جاء في قرار المؤتمر التداولي لكادر الحزب المنعقد في اغسطس 1970م ما يلي: ( اقتصرت اشاعة الديمقراطية في اجهزة الدولة الأساسية( الجيش والبوليس) علي شكل التطهير. ولكن مازالت النظم واللوائح التي تتحكم في هذه الاجهزة بعيدة عن الديمقراطية، وما زلنا بعيدين عن اهداف اعادة تنظيمها علي اسس ديمقراطية.
خلق جهازان رئيسيان للدولة في هذه الفترة وهما جهاز الأمن القومي والجهاز المركزي للرقابة العامة. ومن المهم أن يكون جهاز الأمن قوة في يد الدولة توجهه ضد أعداء الثورة الوطنية الديمقراطية( المحليين والاستعماريين) وان يعمل في حدود الشرعية وأن يخضع للقيادة السياسية والرقابة الديمقراطية. ويجب أن يوجه جهاز الرقابة المركزي في طريق التخفيف من ثقل البيروقراطية، وان تصرف جهوده نحو المراقبة المتقدمة لانجاز الخطة الخمسية).
تواصل وثيقة المؤتمر التداولي وتقول: ( ومن اجل استكمال الثورة الديمقراطية لابد من اعادة بناء الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في بلادنا علي اسس ديمقراطية ما زالت تنتظر الحل ونحن نناضل في سبيل: 1- ديمقراطية جهاز الدولة وهو شعار الثورة الديمقراطية خلافا لشعار الثورة الاشتراكية الذي يتلخص محتواه في: ( الجهاز الجديد لحكم الطبقة العاملة). 2- اشاعة الديمقراطية في حياة اغلبية الكادحين السودانيين وهم جماهير المزارعين في القطاعين الحيواني والزراعي وذلك بتغيير العلاقات الاجتماعية لما قبل الرأسمالية وباحداث اصلاح زراعي يدفع بعوامل التطور غير الرأسمالي خطوات الي الامام ويحسن من مستوي معيشة فقراء المزارعين والعمال الزراعيين. 3 ? التطبيق الفعلي لنظام الحكم الذاتي الديمقراطي في جنوب البلاد. 4- تقنين الحرية السياسية للجماهير الثورية: من حقوق في التنظيم والتعبير وشرعية منظماتها الثورية وبينها الحزب الشيوعي السوداني .. الخ. 5- تطبيق الديمقراطية في مؤسسات الانتاج الحديث وذلك بالاشتراك الديمقراطي للجماهير العاملة في ادارتها).
هكذا كان التمايز واصحا في قضية الديمقراطية بين الحزب الشيوعي وسلطة البورجوازية الصغيرة، وبين الانقساميين الذين غضوا الطرف عن مصادرة الحقوق والحريات الديمقراطية وتنكروا لماضي الحزب النضالي في هذا الجانب، الي أن عصفت بهم الديكتاتورية العسكرية ولفظتهم بعد أن استفادت منهم في ضرب الحزب الشيوعي.
ثانيا: التأميمات والمصادرة:
في مايو 1970م، قامت الحكومة بمصادرة وتأميم عدد من الشركات الخاصة، ففي 14/مايو/1970م، تم الاستيلاء علي شركات رجل الأعمال الثري عثمان صالح واولاده، وصودرت 16شركة أخري في الرابع من يونيو: مجموعة شركات بيطار، وشركة شاكروغلو وشركة كونتوميخالوس وشركة مرهج وشركة سركيس ازمرليان وشركة جوزيف قهواتي وشركة صادق ابوعاقلة واعمال حافظ البربري وشركة السجائر الوطنية(تيم نبلوك: صراع السلطة والثروة في السودان، ص 231).
اعلن جعفر نميري أولي قرارات التأميم في خطاب القاه في الذكري الأولي لاستيلائه علي السلطة وشملت جميع المصارف الي جانب اربع شركات بريطانية، وشملت البنوك 24 فرعا لبنك باركليز وستة فروع لبنك مصر واربعة فروع لناشونال اند جرند ليز وثلاثة فروع للبنك العربي والفرع الوحيد للبنك التجاري الاثيوبي والبنك التجاري السوداني وبنك النيلين والأخيرين تأسسا برأسمال سوداني.
أما الشركات البريطانية فقد كانت شركة كوتس وشركة جلاتي هانكي وشركة سودان ميركنتايل وشركة الصناعات الكيماوية الامبريالية. وفي الرابع من يونيو اممت شركة اسمنت بورتلاند علي أساس أن الاسمنت سلعة استراتيجية، واعقب ذلك تأميم عشرات الشركات الأخري، وبنهاية يونيو 1970م، كانت الدولة قد استولت علي كل الشركات العاملة في مجال التصدير والاستيراد وكل المؤسسات المالية، وغالبية مؤسسات التصنيع، كما امتد التأميم والمصادرة لتشمل مطاعم ومحلات صغيرة ودور سينما وبعض المساكن.
وقد تمثل التعويض في شكل صكوك بفائدة 4% وبنفس قيمة الممتلكات المؤممة يبدأ سدادها في عام 1980م ويستمر حتي 1985م، وقد وصفت صحيفة التايمز اللندنية التعويضات بأنها (غير عادلة ولا ناجزة وغير فعالة)( تيم نبلوك: المصدر السابق، ص 231).
وهكذا بدأت تتضخم مؤسسات القطاع العام، وقبل ذلك بدأت محاولات احكام سيطرة الدولة علي الاقتصاد والحد من حريات القطاع الخاص في وقت مبكر، ففي 16/اكتوبر/1969م، اعلن عن تأسيس شركتين حكوميتين للسيطرة علي قطاعات مفتاحية في التجارة الخارجية، واحدة لاحتكار حقوق استيراد الجوت والسكر والمواد الكيماوية والخري لاستيراد كل مشتريات الحكومة من الخارج كالسيارات والجرارات والادوية.
ولايمكن معالجة هذه الاجراءات بمعزل عن الصراع الداخلي في الحزب الشيوعي يومئذ، فتأميم البنوك وشركات التأمين والشركات الأجنبية كان من الشعارات التي رفعها الحزب الشيوعي في برنامجه المجاز في المؤتمر الرابع 1967م، بهدف تحقيق الآتي:
1- بالاستيلاء علي تلك المراكز يمكن وقف تدفق موارد البلاد الذي كان يتم في شكل أرباح البنوك وشركات التأمين وشركات التجارة الخارجية وفي شكل مرتبات وعلاوات وامتيازات للموظفين الأجانب، وفي شكل تهريب للعملة في اسعار الصادرات والواردات. ان استيلاء الدولة علي هذه الموارد يمكنها من استخدامها في عملية التنمية الاقتصادية.
2- باستيلاء الدولة علي المصارف وشركات التأمين تتمكن الدولة من التحكم في حجم المدخرات والعمل علي زيادتها باتخاذ كل القوانين المشجعة لذلك وتوجيه تلك الاستثمارات في مشاريع التنمية للقطاعين العام والخاص حسب الاسبقيات والاولويات التي تضعها الحكومة في خطط التنمية الاقتصادية.
3- وباستيلاء الدولة علي البنوك وتصدير واستيراد السلع الأساسية تتمكن من التحكم في التجارة الخارجية من حيث الجهات والدول التي تتعامل معها ومن حيث نوعية السلع المستوردة ومن ناحية الكميات ويصبح للدولة وضع احتكاري يمكنها من ايجاد احسن الاسعار للصادرات واقل الاسعار للواردات والتحكم في تموين البلاد باحتياجاتها الضرورية من السلع.
( أزمة طريق التطور الرأسمالي في السودان، اصدار الحزب الشيوعي السوداني، 1973م ، ص 30).
ولكن ما حقيقة التأميمات والمصادرة:
1- لقد اتخذت هذه الاجراءات بدون أن يصدر قرار بذلك لا من مجلس الثورة ولامن مجلس الوزراء، بل اتخذها عدد من اعضاء مجلس الثورة من وراء ظهر بقية الأعضاء.
2- كان هناك تفكير من جانب المنقسمين من الحزب الشيوعي السوداني وبعض أعضاء مجلس الثورة يقول:اذا ما قامت الحكومة بالتأميم والمصادرة، تكون قد نفذت شعارات الحركة الثورية وتكسب الحكومة القوي التقدمية الي جانبها وتسحب البساط من تحت أقدام الحزب الشيوعي ويسهل بذلك ضربه. ولهذا تمت هذه القرارات في عجل وفي وقت بدأ السخط يزداد بسبب نفي سكرتير الحزب الشيوعي وبداية الاضطهاد للقوي الثورية، وتمت كذلك دون مشاورة العناصر التقدمية في مجلس الوزراء أو في مجلس قيادة الثورة.
تواصل وثيقة( أزمة التطور الرأسمالي ..)، وتقول: ( في مجال المصادرة كان رأي القوي التقدمية ولايزال أن هذه المرحلة من تطور الاقتصاد السوداني ? مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية- تتطلب موضوعيا قيام القطاع الخاص بدور هام في التنمية الاقتصادية في اطار الخطة العامة التي ترسمها الحكومة، وأن أى انكار لدور القطاع الخاص في هذه المرحلة الانتقالية، ومحاولة القفز فوق المراحل أمر خطير وضار بالاقتصاد القومي، ولذا يجب عدم اتخاذ اجراءات يسارية عفوية تخيف القطاع الخاص وتجبره علي الانكماش. ان المصادرة لأى فرد أو جهة من الجهات يمكن أن تتم في ظل القانون والشرعية الثورية ويجب الا تتم دون تهم محددة ودون تقديم المتهم للمحاكمة واعطائه فرصة الدفاع عن نفسه. لقد تمت المصادرة بطريقة مستعجلة وبدون محاكمة الأمر الذي ادي الي كثير من الجرائم وعمليات الفساد والافساد واصبحت مجالا للتهديد والابتزاز. لقد ادت عمليات المصادرة الي نشر جو من الفزع والخوف عند جميع افراد القطاع الخاص والي اخفاء الأموال والاحجام عن الاستثمار، المر الذي أضر بعمليات التنمية الاقتصادية. بالاضافة الي ذلك اضرت كثيرا بالشعارات الاشتراكية وتشويهها، واصبحت كل الجرائم والفساد والسرقة يتم باسم الاشتراكية).
ويؤكد د. منصور خالد الذي كان وزيرا للشباب والرياضة يومئذ، في كتابه(السودان والنفق المظلم) ما جاء في وثيقة الحزب الشيوعي ويقول حول الجهة التي ايعزت لنميري للقيام بتلك التاميمات والمصادرة ، يقول د. منصور خالد( لقد وجد النميري سنا قويا في معركته مع الشيوعيين من داخل الحزب الشيوعي نفسه، خاصة من جانب المجموعة المنشقة بقيادة احمد سليمان وزير التجارة الخارجية ومعاوية ابراهيم وزير الدولة للشئون الخارجية ووزير العمل، وحاولت تلك المجموعة احراز نصر علي الحزب الشيوعي بالضغط من أجل التأميم الشامل والمصادرات والذي قام باعداد تفصيلاتها احمد سليمان بمعاونة المستشار الاقتصادي لمجلس قيادة الثورة احمد محمد سعيد الأسد ، وقد هزت تلك التأميمات الاختباطية الاقتصاد السوداني هزا عنيفا لسنوات).
ويخلص د. منصور خالد الي أن الحزب الشيوعي لاعلاقة له بالتأميمات والمصادرة، وقد كان صادقا في ذلك.
أما عبد الخالق محجوب فقد كتب مقالا في صحيفة( أخبار الاسبوع) بتاريخ يوليو 1970م، بعنوان ( حول المؤسسات المؤممة والمصادرة)، جاء فيه( ان المصادرة في هذه الفترة الوسيطة من الثورة الوطنية الديمقراطية تعتبر عقوبة اقتصادية علي اصحاب المال ( من الرأسماليين) الذين يخرجون علي قوانين واومر الدولة المالية والاقتصادية وبهذا يضعفون التخطيط المركزي ومؤشراته المختلفة التي رسمتها الدولة ، وبما ان هذا الاجراء السياسي الاقتصادي والاجتماعي احراء خطير في هذه المرحلة التي مازالت فيها العناصر الرأسمالية مدعوة للاسهام في ميدان التنمية وتنفيذ الخطة الخمسية. من المهم أ لا تقتصر المصادرة في اطار سيادة الدولة علي رعاياها. يجب أن تحاط المصادرة بالتالي:
1 ? وضع تشريعات دقيقة ومفصلة ومحكمة تشمل الجرائم التي تستوجب توقيع عقوبة المصادرة.
2 ? تعرض الأموال المختلفة علي دائرة قضائية لها القدرة علي الحسم السريع في القضايا وذات قدرات سياسية ايضا(برئاسة عضو من مجلس قيادة الثورة مثلا).
لماذا نقترح هذا؟.
أ ? لأن في هذا ضمان لانتفاء الفساد وتفادي القرارات الذاتية التي ربما طوحت في كثير من الاحيان عن الموضوعية.
ب ? لادخال الطمأنينة في قلوب اصحاب المال الذين تحتاج اليهم البلاد الي استثماراتهم في هذه الفترة مدركين جيدا أن العلاقات الرأسمالية مازالت تمتد الي اعماق مجتمعنا، الي خلاياه الأساسية).
وخلاصة الأمر كانت قرارات التأميمات والمصادرة خاطئة حيث قامت زمرة المنقسمين من الحزب الشيوعي مع زين العابدين محمد احمد عبد القادر ومحمد عبد الحليم، بتعيين مجالس ادارات ومديري البنوك والمؤسسات دون التشاور مع مجلس الثورة أو مجلس الوزراء مما أدى الي تعيين عدد كبير من الأشخاص غير الاكفاء لهذه المناصب بسبب عدم معرفتهم وقلة تجربنهم بالمسائل الاقتصادية والمالية وعدم الامانة. الأمر الذي عرض النشاط الاقتصادي لهذه المؤسسات لكثير من الاضرار والخسائر ولعمليات الثراء الحرام، وبدلا من أن تكون مصدرا للارباح للقطاع العام ومساعدته في التنمية تحول الكثير من هذه المؤسسات من مؤسسات رابحة الي مؤسسات تشكل عبئا علي مالية الدولة مثل مؤسسة الزيوت الافريقية وغيرها. بالاضافة الي ذلك تزايد عدد المستخدمين في هذه المؤسسات لابسبب حوجة العمل، ولكن بهدف ارضاء الحكام بتعيين المحاسيب والاقرباء وغيرهم الأمر الذي ادى الي ارتفاع تكلفة الانتاج والي تقليل الأرباح وزيادة الخسائر.( أزمة طريق التطور الرأسمالي، ص 31).
اضافة الي أنه اثناء عملية استلام المؤسسات المصادرة والمؤممة تمت كثير من عمليات النهب للاموال من الخزائن والبضائع والي سرقة الكثير من المعدات والاثاثات من المنازل. كما قام المسئولون عن الكثير من الشركات بعمليات فساد كبيرة مع رجال القطاع الخاص، وذلك بالتحكم في استيراد السلع لصالح مجموعات قليلة من التجار وتحويلها للسوق السوداء كما حدث في تجارة الاسبيرات ومواد البناء وبعض المنسوجات والتلاعب بحسابات هذه المؤسسات. لقد ورث الكثير من المديرين كل امتيازات اصحاب هذه المؤسسات من منازل وعربات وعلاوات. وكل ذلك تم تحت شعار الاشتراكية الأمر الذي أدي الي تشويه معنى تحرير الاقتصاد السوداني والمفاهيم الاشتراكية واضر بقضية التنمية الاقتصادية وبتبديد موارد البلاد.
وبهذا الشكل بدأت تنشأ فئة الرأسمالية المايوية الطفيلية علي حساب جهاز الدولة عن طريق النهب والفساد،وفي عملية حراك طبقي شهدتها الفترة المايوية. مما يوضح أن الصراع الداخلي في الحزب الشيوعي كان له علاقة بالصراع الطبقي الدائر في المجتمع ومن خلال تطلع فئات من كادر الحزب الشيوعي للثراء السريع والانضمام الي نادي الرأسمالية السودانية.
ثالثا: السلم التعليمي:
اعلنت الحكومة السلم التعليمي الجديد بطريقة متعجلة، لم يتم فيها التشاور مع المعلمين والمختصين، وكانت هذه الطريقة مثار نقد عبد الخالق محجوب في وثيقته التي قدمها للمؤتمر التداولي، يقول عبد الخالق( من زاوية السياسة التعليمية: ان نضال القوي التقدمية من طلاب ومعلمين لدفع وزارة التربية والتعليم في طريق المساهمة في النهضة الثقافية الوطنية في بلادنا، نضال قديم وله جذوره . ومنظمات المعلمين الديمقراطية لها نقد متعدد الجوانب للبرامج ولنظم التعليم في بلادنا، ولكننا نلحظ أن هذا المرفق المهم يسير علي طريق خاطئ:
– الكثير من الخطوات التي اتخذها الوزير ذات طابع دعائي ولم تستهدف تغييرا جوهريا في التعليم لخدمة الثورة الديمقراطية. مشروع الاستيعاب الذي يستهدف ديمقراطية التعليم لم يستفد منه الا ميسورو الحال من أبناء المدن التي فيها مدارس غير حكومية.( علي سبيل المثال: في 21 يونيو/1969م، اصدرت الحكومة قرارا برفع عدد التلاميذ المقبولين في المدارس المتوسطة من 24 الفا الي 38,500 وفي المدارس الثانوية من سبعة الآف اي 10,400 وذلك للعام الدراسي القادم)(تيم نبلوك،ص 232).
– لم يتم اشراك نقابات المعلمين في التخطيط التربوي، وفي تنفيذ برامج الديمقراطية التي ناضلت من قبل لتحقيقها. ان الاتجاه الرسمي للوزارة يتجاهل الطرق الديمقراطية في العمل ويعمل لفرض سياسة لا تتلاءم مع ظروف بلادنا واهداف ثورتنا الثقافية. انه يطبق ما يجري في ج.ع.م(مصر) تطبيقا اعمي.
يواصل عبد الخالق الي أن يقول: (ونستطيع القول أن هذه الوزارة التي تلعب دورا مهما في ميدان أساسي للثورة الديمقراطية- واعني البعث الوطني الثقافي ? تعاني من سلبيات وأخطاء فاحشة، لابد من النضال ضدها. وأخطر هذه السلبيات هو الفهم القاصر والتصور الخاطئ للثورة الثقافية المنبعثة من خصائص شعبنا ومن حضارته العربية والزنجية، واللجوء الي النقل الاعمي بلا تمييز ولا نظرات ناقدة)( ص،133 ? 134 ).
كما جاء في المؤتمر التداولي لكادر الحزب المنعقد في اغسطس 1970م حول هذه القضية مايلي:
( وفي مايختص بالثورة الثقافية النابعة من المرحلة الوطنية الديمقراطية فالتوجيهات الأساسية في هذه القضية خاطئة: 1- اقتصر المجهود علي حيز التعليم المدرسي، ولم تطرح قضايا الثقافة الشعبية من محو للامية ومن بعث ثقافي يعبر عن ثروات شعبنا الحضارية ويساهم في ازاحة المؤثرات المختلفة عن كاهل المواطنين. 2- المجهود التعليمي لايستهدف ديمقراطية التعليم من حيث تحقيق الزاميته، من حيث توجيهه نحو ابناء الكادحين. اننا نحتاج بالوتائر الراهنة الي اكثر من 38 سنة لاستيعاب كل الاطفال من الذين هم في سن التعليم في المدارس الابتدائية. 3 ? لايرتبط التعليم بحاجيات الخطة الخمسية وما ينتظر بلادنا من ثورة اقتصادية)( ص ، 159، في المصدر السابق).
جاء في خطاب للحزب الشيوعي للديمقراطيين 1971م حول السلم التعليمي مايلي: ( لقد استطاع الوزير الحالي( محي الدين صابر) أن يوهم الرأي العام وجمهور المعلمين بأن في ادخاله لنظام السلم التعليمي الجديد قد احدث ثورة في التعليم مستغلا في ذلك الاستجابة العظيمة التي قابل بها المواطنون المشاكل التي نتجت عن تطبيق السلم التعليمي الجديد ولكننا امام ادعاء يجب علي كل شيوعي وثوري ان يحدد موقفنا منه . الا وهو هل ما يجري الآن في بلادنا من تطبيق لسلم تعليمي جديد وتغيير في بعض المناهج هو الثورة الثقافية التي ننشدها جميعا؟ وكيف يمكن أن نتحدث عن ثورة تعليمية أو ثقافية اذا كانت هذه الثورة التعلمية المزعومة لاتمس جوهر الحقيقة التي تؤكد أن 82% من سكان بلادنا مازالوا يعانون من الأمية. كيف يمكننا أن نتحدث عن أية ثورة ونحن لانستطيع أن نتقدم بأى مشروع لمحاربة هذا التحدي العظيم؟ ان الثورة الثقافية نفسها لن يكتب لها الانتصار اذا بقيت غالبية شعبنا تعيش في امية وفي جهل مطبق. ثم كيف يجوز لنا أن نتحدث عن الثورة التعليمية بينما نحن لانستطيع ان نتقدم بأى مشروع يقدم من التعليم المهني في بلادنا ، ذلك التعليم الذي تعتمد علي وجوده تطوير كل مشاريع التنمية الصناعية والزراعية التي نصبوا الي انجازها في خططنا للتنمية الاقتصادية والاجتماعية؟
ثم كيف يجوز لنا ان نتحدث عن ثورة ثقافية بينما تراثنا الثقافي يرقد بين الاطلال يبحث عن من ينقب فيه ؟ اهي مشاريعنا لاحياء ذلك التراث ؟ ماهي مشاريعنا في ميادين الفنون والآداب ، في الغناء والموسيقي والرقص الشعبي ، في ميادين الشعر والتأليف والقصص ؟ ان الحديث عن الثورة الثقافية لايستقيم في نظر أى عاقل ما لم يعالج بصورة جادة قضية احياء التراث الثقافي للشعب السوداني)( ص، 11- 12).
هذا وقد اصدر د.محمد سعيد القدال كتابا ممتازا بعنوان( التعليم في مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية)، 1971م، أوضح فيه التمايز بين الشيوعيين وسلطة البورجوازية الصغيرة حول مفهوم التعليم واهدافه في مرحلة الثورة الديمقراطية، والكتاب خلاصة لما توصلت اليه حركة المعلمين الديمقراطية ونقاباتها في مضمار اصلاح التعليم، ويمكن للقارئ الراغب في المزيد أن يرجع له.
رابعا: أحداث الجزيرة أبا:
في مارس 1970م، وقعت احداث الجزيرة أبا المشهورة، وكانت أول مواجهة مسلحة للنظام قام بها حزب الأمة بقيادة الامام الهادي المهدي، والاتحادي الديمقراطي بقيادة الشريف الهندي، اضافة للاخوان المسلمين، وكانت معارضة ومطالب الامام الهادي المهدي تركز علي النقاط الستة التالية في مقابلته مع اللواء ابو الدهب:
1- وجوب ازالة الواجهة الشيوعية من السلطة فورا.
2- أن تكون مسودة الدستور الاسلامي التي اعدت قبيل حركة مايو هي الأساس لاقرار دستور دائم.
3- اجواء انتخابات حوة في البلاد.
4- اطلاق سراح السجناء السياسيين وعلي رأسهم الصادق المهدي.
5- ايقاف جميع الاتفاقات مع المعسكر الاشتراكي.
6- ايقاف التدخل الليبي المصري في شئون السودان، وكان ذلك في 25/3/1970م.
( طه ابراهيم المحامي:السودان الي أين؟، 1984م، ص 59-60 ).
ومعلوم أنه بعد انقلاب 25/مايو/1969م، توجه الوف الانصار الي الجزيرة أبا حتي بلغ مجموع المقيمين علي القطاع الضيق من الأرض بطول 30 ميلا في أوائل 1970م، حوالي 40 ألف شخص.
وقاوم الأنصار احدي زيارات نميري في منطقة النيل الأزرق مما اضطر لقطع زيارته والعودة الي الخرطوم ، وفي 27 /مارس، كان انتقام نظام مايو بطريقة وحشية، فقد أمر النميري بقصف الجزيرة بالصواريخ، وفي ذلك الوقت لم يكن السودان يملك طائرات ميغ- حسب رواية محمد احمد المحجوب رئيس الوزراء السابق ? ولاطيارين يستطيعون قيادتها، مما جعل الكثيرين مقتنعين بأن القصف حري بطائرات مصرية وطيارين مصريين، وجاء بيان صادر عن وزارة الخارجية الليبية في وقت لاحق ليؤكد هذا الاقتناع( المحجوب: الديمقراطية في الميزان، ص 241).
ويواصل المحجوب ويقول( ظلت المقاتلات طوال يومين( تنقض) علي الجزيرة وتضربها بالصواريخ وتغير علي السكان، لقد كانت مجزرة وحشية.. كانت اقسي تقتيل لاسابق له في تاريخنا وأوحشه ، كان يجري حصد الناس وتفجيرهم قطعا في الشوارع والحقول اثناء فرارهم للاحتماء، من دون أن يكون هناك دفاع أو حماية لهم ضد الغارات الجوية)
يواصل المحجوب ويقول( وبعد أن قضي القصف والضرب بالصواريخ علي قسم كبير من السكان، غزا الجزيرة حوالي اربعة الآف جندي بالدروع، غير أن المقاومة لم تكن انتهت، فخرج مقاتلوا الامام دوو الاثواب من مخابئهم، فوقع قتال عنيف، وقال شهود عيان في وقت لاحق، أن الانصار المتعصبين كانوا خلال المعارك الأخيرة يخرجون بالرماح لمواجهة نيران الرشاشات في اماكن مكشوفة، وكان آخرون يخوضون معارك يائسة بالقاء انفسهم علي المدرعات، واستسلمت الجزيرة بعد أربعة أيام( المحجوب: الديمقراطية في الميزان، ص 241).
أما الامام الهادي المهدي فقد اعلن رسميا في وقت لاحق أنه عثر علي جثته في منطقة الكرمك علي الحدود الاثيوبية. وقدر مجلس قيادة الثورة عدد القتلي 120 من الانصار و60 من الجرحي، وقد قتل جنديان ، ولكن مصدرا مستقلا قدر عدد الاصابات بالف شخص، وفي وقت لاحق وضعت التقديرات لعدد القتلي في الجزيرة ابا وحدها من 27/مارس الي 31/مارس 1970م منه بين خمسة الف قتيل واثنتي عشر الف قتيل( المصدر السابق، ص 242).
كما وقع اشتباك في 29/مارس في الوقت الذي كانت فيه المعركة سجالا في أبا، في ام درمان بين الانصار المسلحين بالسيوف والرماح والاسلحة الصغيرة والجنود، فاريق مزيد من الدم ، وقتل أخرون في حادث وقع قرب الجامع في ود نوباوي ( نفسه،ص 242).
وبعد الأحداث اصدر مجلس قيادة الثورة المرسوم الجمهوري رقم(4) الذي وسع نطاق الجرائم والعقوبات الخانقة المعددة في الامر الدفاعي رقم(2) الصادر في مايو 1969م، والذي انتقده الحزب الشيوعي وغض الطرف عنه الانقساميون.
وبعد احداث الجزيرة أبا قرر مجلس قيادة الثورة نفي عبد الخالق محجوب سكرتير الحزب الشيوعي السوداني والصادق المهدي الي مصر، لقد كان ذلك اجراءا غريبا نوعا ما ? ابعاد اثنين من مواطني بلد مستقل الي المنفي في بلد مجاور، وهو شبيه بنفي حكومة الاتراك للزبير باشا الي مصر وسجن قادة المهدية بعد معرك كرري وام دبيكرات في سجن رشيد بمصر.
والجدير بالذكر أن الحزب الشيوعي كان قد انتقد غفلة السلطة ، وكان من الممكن أن تقلل الخسائر والضرب الوحشي والعشوائي والانتقامي للجزيرة ابا، كما انتقد اعتقال عبد الخالق محجوب ، وكان ذلك موقفا معاديا للحزب الشيوعي، ولكن الانقساميين وصفوا هذا الاعتقال لاسباب شخصية، وهم في واقع الامر قد حزموا امرهم مؤيدين للسلطة ومباركين كل مواقفها السليمة والخاطئة.ونتيجة لضغط الحركة الجماهيرية، عاد عبد الخالق من المنفي ليبقي في الحبس الانفرادي بالباقير وفي سجن مصنع الذخيرة الحربي حتي يونيو 1971م.
كما واصلت السلطة هجومها علي الحزب الشيوعي والتنظيمات الديمقراطية، وقامت السلطة في ابريل 1970 بحل اتحاد الشباب والاتحاد النسائي ، وبدأت السلطة الاعداد لتكوين تنظيمات سلطوية فوقية بديلة لهما تمهيدا للاعلان الرسمي بتكوين الاتحاد الاشتراكي، في عملية نقل اعمي ومسخ للتجربة المصرية.
خامسا: الأوضاع الاقتصادية والمعيشية:
في تلك الفترة تدهورت أوضاع الناس المعيشية، وصف عبد الخالق محجوب في وثيقته للمؤتمر التداولي الاجراءات المالية التي فرضت( تشكل اتجاها سلبيا، فهي تعبير عن اتجاه يميني وتقليدي في محاولة حل الأزمة المالية علي حساب الجماهير الكادحة، لقد حملت الطبقة العاملة، والعاملون من ذوي الدخول المنخفضة، من الاجراءات الضريبية الأخيرة 3,6 مليون جنية تقريبا من مجموع تقديرات تبلغ 5,9 مليون جنية تقريبا. أدت هذه الاجراءات الي انخفاض حقيقي في مستوي مداخيل الطبقة العاملة والعاملين الآخرين في القطاع العام في وقت حافظت الأسعار علي مستواها احيانا وارتفعت احيانا اخري).
يواصل عبد الخالق ويقول( الثبات علي أن الحزب الشيوعي لايناضل فقط في الجبهة السياسية، بل عليه دائما وابدا أن يناضل من أجل ادخال تحسينات أساسية في حياة الجماهير الكادحة وفي مقدمتها الطبقة العاملة. ان التنازل عن هذا الموقف يؤدي الي انعزال الحزب الشيوعي عن جماهير طبقته وعن الكادحين، كما أنه يعتبر تخليا عن جبهة نضال هي من صميم جبهات العمل الشيوعي).
يواصل ويقول( ان عدم توضيح موقفنا كاملا بطريقة موحدة وبصورة واسعة أمام جماهير الطبقة العاملة والاقسام الأخري من العاملين كان خطا اضر بعلاقة الحزب الشيوعي بطبقته وبالجماهير التي تناضل معه من اجل التقدم والاشتراكية)( ص 133).
يواصل عبد الخالق ويقول ان (بقاء هذه السلطة يعتمد علي:
– أن تتخذ الاجراءات السريعة لتحسين مستوى معيشة الجماهير الكادحة، وهذا مهم لرفع النشاط الثوري لهذه الجماهير ولالتفافها الحقيقي حول السلطة الراهنة).
– النظر في اجور عمال المصانع والورش الرأسمالية وفي شروط خدمتهم بما يكفل ارتفاعا في مستوى معيشتهم واجورهم الحقيقية.
– مراجعة التخفيضات التي لحقت باجور الطبقة العاملة وذوي الدخول المنخفضة من العاملين في قطاع الدولة بالنسبة الي تكاليف المعيشة.
– وضع الاجراءات اللازمة لرفع عائد المزارعين في القطاعات التي سبقت الاشارة اليها.
وكان من قرارات المؤتمر التداولي لكادر الحزب في اغسطس 1970( رفع مستوى المداخيل الحقيقية للجماهير الكادحة مما يجذبها بالفعل ل
نحو تقييم اخر لصراعات الحزب (1962 إلى 1977)
التاريخ يكتبه المنتصرون .. بالضبط كهذا المقال الشامل والمتماسك عن خلافات وصراعات الحوب الشيوعي السوداني ابان أواخر الستينيات واول السبعينيات، الذي كتبه الاستاذ المناضل السر عثمان بابو بأسلوب حسن الشكل معتدل القوام لكنه يصور كل الموجبات إلى جانب فريقه وينسب كل السلبيات للجانب الآخر!
ازاء هذه السيطرة و السطوة في تقديم حكايات الحوادث التاريخية توجد امكانات واسئلة انتقادية قد تفكك تماسك الرواية الرسمية التي تقدم موقف الجانب المنتصر باعتباره حالة منطقية فريدة وسط ظروف موضوعية مخالفة! أو بتقديم مواقف الجانب المهزوم باعتبارها سلسلة من الأخطاء والجرائم الشخصية والتامرات! وان الهزيمة السياسية له كانت نتيجة منطقية وإلهية عادلة للامبدئيته وانتهازيته وفساد قيمه ووسائله! وليست نتيجة مؤامرة داخلية أو خارجية ضده أو لأن الطرف الآخر المنتصر كسب قوة ما رجحته في ظرف زماني معين، أو لافتقاد الطرف المهزوم قوة ما لسبب ما في لحظة فارقة من الصراع!
اضافة لهذه الأخطاء الشائعة يتم -احيانا- بصور عفوية أو صور قصدية تقديم الآيديولوجيا والمبادئي على ضرورات الأحداث وتفاعلاتها الواقعية و أحيان أخرى يتم تفضيل الواقعية والتقدير اللحظي والفكر اليومي على التفكير الاستراتيجي والمبادئي الآيديولوجية للعمل الثوري.
مع كل ذلك يبرز تفاوت آخر في الحسابات الزمانية والتاريخية
عندما يتم تحديد بعض الأحداث ضمن فترة زمنية معينة واخراج احداث أخرى مرتبطة بها من ذات الفترة! وكذلك عند تحديد التاريخ العام والفترة الموضوعية التي يستغرقها حدث معين أو لشمولها عدد من الأحداث كتأسيس الحزب أو إنقسامه .
بكل هذا التفاوت في التقدير بين تغليب العوامل الموضوعية وتغليب العوامل الذاتية، وبهذا التفارق بين تغليب المبدئي والنظري على العملي والواقعي أو التعامل الضد بتغليب السلوك العملي والكسب العابر على الوضع والفكر الاستراتيجي، وكذلك بالتغاير الزماني والتاريخي لحساب الأحداث وتقدير طبيعتها، تضطرب الكينونة العامة لمقالات الأستاذ السر عثمان التي تقدم جزءا كبيرا من تاريخ الحركة الشيوعية في السودان بأسلوب الجدل المثالي الشكلي بين الصالح والطالح، وقصة المنتصر والمهزوم، والفرق بين الأبيض والأسود، بينما الحقائق التاريخية المتشابكة والمتفارقة، والمتقاتلة والمتوالدة لا تنجلي للعيان والنظر دفعة واحدة ولا تظهر للبصيرة بوضوح في قلب تفاعلات مرحلتها التاريخية وأحداثها، بل قد تتضح فقط بعض نقاطها مثل التي أشار إليها الأستاذ السر عثمان في فقرة من مقاله تناولت بالترقيم بعض “موضوعات الخلاف”.
اهم المعادلات التي كسفت بمرور قمر تاج السر أمامها كانت هي العلاقة الجدلية بين “مؤسسات الدولة” و”مؤسسات المجتمع”، ودور نوعي المؤسسات في العملية الثورية ضد تحالف الاستعمار الحديث و الراسمالية وشبه الإقطاع.
هناك مؤشرات تدل إلى ضعف وإختلاف في ترتيب أمور هذه العلاقة بين “الحزب” و “الثورة” و”الدولة”، وبين “الايديولوجيا” و “الايديولوجيا العلمية الثورية”، و موضوع “الأوهام الدستورية” والوعي الزيف بطبيعة الديمقراطية في مجتمع شبه إقطاعي رأسمالي.
من علاج إضطراب فهمنا وتعاملنا مع هذه القضايا قد يكون بالإمكان بناء نقاط أولية لاستراتيجية تغيير ثورية متكاملة تتجنب مسالب سياسة “الانتظار” ومسالب سياسة “اللفحي”، وكوارث مقولة: ((الباقي بعدين)) !
في التاريخ هناك أحداث مشابهة لمن يمسكون الزمام ولا يعرفون القيادة، أو يعرفون القيادة ويجهلون الطريق، او الذين يمسكون الزمام ويعرفون القيادة والطريق ولكنهم بلا زاد وليست في أذهانهم محطة معينة لرحلتهم! ومن هذه الأحداث :
1- اختلاف أقطاب قسم من الحجارين بناء الاهرام مع تدهور وضعهم من متصوفة فنانين إلى شبه مستعبدين أجراء وتباينهم حول جدوى المقاومة بالاضراب الذي شهدته ديار مدينة قرب أسوان حوالى عام 2500 ق م وقد حسمت إختلافهم حملة قمعية.
2- تباين موقف المزارعين ازاء تبلور الدولة وتحول طبيعة علاقتهم بالأرض مع تحول دور شيوخ السواقي في حضارة وادي النيل من منسقي تعاونيات إلى شبه اقطاعيين.
2- تبدد الديمقراطية وتبدد التكنوقراطية في حضارة اثينا منذ الثورة الوطنية الدموية للديمقراط على حكم التكنوقراط.
((كان رأي الديمقراطيين القدماء أن الحقيقة في خلاف تنفرز بتفضيل أكثر الناس لجانب معين في طلك الخلاف. ولو كانوا مستجدين على أمرها أو جهلاء بالشيء المختلف عليه! وقد ثار الديمقراط بذلك الراي وبالغبينة الوطنية بشكل دموي عنيف على حكم أهل الاختصاص والمعرفة “التكنوقراط” ذوي المنابت الافريقية و الآسيوية والبلقانية، ودمروا مقاليد حكمهم وأشكاله، وتم إعدام متكلم التكنوقراط العظيم سقراط كما قام الديمقراط بقمع بعض الأراء العقائد وحرموا السفسطة.))
3- اختلافات الثوار المتحررين من الاستعباد في روما القديمة على الطريق والاسلوب في شبه تنظيم/دولة سبارتكوس 71 ق م،
4- الثورات الدينية القديمة ثم إنتفاضات الفلاحين في مصر والعراق وفي الصين والهند وفي أوروبا القديمة على طغيان سادة الارض الذين قاموا هم نفسهم بتوليتهم أو وافقوا عليهم .
5- الخلافات السياسية ثم العسكرية والاتجاهات الاقتصادية التي عصفت بثورات هولاند 1568 وانجلترا 1644 و 1689 وبتطورات الثورة الامريكية 1777 و 1865 و 1812 و1913 ثم الانتفاضات والثورة في فرنسا 1789و 1798-و 1815 ثم دروس كميونة باريس 1871 مع كل الاختلافات حول التغيرات والامتيازات البرجوازية والتدخلات البنوكية و الخارجية التي عصفت بالثورة الفرنسية، كذلك ثورة
23 يوليو 1882 بقيادة المشير البطل أحمد عرابي، ثم خلافات الثورات والانتفاضات الجديدة في روسيا منذ ما قبل عام 1917 والى 1927 وتركيا 1923، وفي الصين ، وفي جميع الدول المستقلة حديثا ، حتى قيل أن الثورة نار تأكل حطبها/ نفسها، أو كقطط تأكل أبناءها أحيانا …
بعض هذا الإضطراب العالمي والتاريخي لعلاقات الثورة والدولة والعالم وهو مستمر الى اليوم يشملنا في السودان عند تقدير الأوضاع والأهداف والقدرات والأعمال وتنظيم العلاقات والقرارات في مجال مربع الحزب والثورة والدولة والعلاقات الدولية وهو يحتاج لدراسات عددا تمكن الناس من التوسع في معرفته والتفكر فيه واستخلاص دروس مفيدة منه.
بعض النقاط المهمة في هذا الاضطراب التاريخي والعالمي ترتبط في السودان بتبلور النضال الشيوعي الحديث ضد الإستعمار القديم وضد الايتعمار الحديث واختلافات عناصر الحزب حول ترتيب الأوليات والمسائل. ومن ذلك الجدل مسائل:
1- تباينات بداية تكوين الحزب ومدى استقلاليته عن القضايا وعن التحالفات وعن طبيعة الظروف المحلية وتبدل الظروف العالمية.
2- خلافات تكوين هيئة شؤون عمال السكك الحديد في الأربعينيات.
3- الاختلافات حول تقدير أحداث الجنوب واحداث جودة وحكومة السيدين.
4- الاختلاف حول طبيعة تطور الكفاح ضد الاستعمار الجديد أيام الحكم العسكري.
5- تباين قيادات عمال عطبرة حول الجدوى السياسية لإضراب 1961 وعدم ثقة بعضهم في تحسن ظروفهم بعد إزالة الحكم العسكري وعودة الأحزاب.
6- تباينات ما قبل أكتوبر 1964 حول المجلس المركزي ودعم الثورة العربية في مصر .
7- اختلافات قضايا ما بعد اكتوبر 1964 والتمايز بين الطريق الثوري والطريق البرلماني والثقة في ديمقراطية الديكتاتورية المدنية و الديكتاتورية الدينية والدستور الاسلامي.
8- إختلافات 1968 ثم اختلافات 1969 وبداية تبادل بعض الإتهامات والتخوينات المستترة وصولا لتبادل قرارات الفصل والاتهامات بتزوير المواقف ومخالفة اللوائح وعقد المؤتمرات الخداعية في سبتمبر واكتوبر 1970 .
9- زيادة الاختلاف في 69 و 70 حول دور الجيش وطبيعة تعامل كل فريق مع رؤيته (الثورية) ومدى حقانية تدخل الحزب في شؤون الجيش وتدخل الدولة في شؤون الحزب! وصولا إلى نوفمبر 1970 ويوليو 1971.
10- التباين حول طبيعة علاقة الحزب بالثأر لشهداء يوليو، وبالطريق البرلماني للديمقراطية، وقد ترى هذا الاختلاف في التفارق بين خلاصة وثيقة أغسطس 1977 حول نهج المصالحة مع اليمين الحزبي عن منطق مقدمتها الرافضة لأشكال الطريق الرأسمالي و”تكتيكاته”.
11- الان تطرح مسألة تغيير وتفكيك الحزب بداية من أسمه خاصة عندما تطرح مسالة علاقة الحزب بالنضال الجماهيري المسلح في الهامش. وعندما ياتي الكلام الى الاختلاف حول
12- ضرورة الطبيعة الثورية لتغيير طبيعة الدولة في السودان خاصة مع تكرار فشل الأسلوب التراكمي الذي يبدده اليمين كل مرة.
13- يتجدد الخلاف حاضرا بأحاديث طويلة متناقضة عن العلمية وعن الواقعية وعن المبدئية وعن المرونة وبحالة الإنصراف الواقعية عن أسلوب لينين الشمولي في نظم وقيادة العمل الثوري وبحالة البعد المتزايد بحشو أحاديث الجرائد ومرح تقنيات الإتصال الحديثة وتفارق مضامينه الأسمية والشخصية والجزئية عن الاستفادة الحزبية المنظمة من فلسفات الفيزياء الحديثة ومكيانيكا الكم والفوضى الخلاقة في تنمية عمليات الهدم والبناء الفكري والعملي.
استمرار منطق كل فريق من فرق الإختلافات القديمة الحاضرة في كل هذه النقاط ةبقاءه حيا الى الآن وقبوع أسئلتها الكبرى بلا إجابات مباشرة أو غير مباشرة، اسنما هو استمرار وبقاء لا يؤشر إلى تقدم أو إنتصار موضوعي لموقف أي طرف، إنما جملة بفاءها تؤشر لتراكم الاختلافات والهزائم على عموم الحزب وحلفاءه وأصدقائه وجماهيره نتيجة لإتباع الشكل الخطي التتابعي في التفكير والعمل وولف عمل قياداته وجموده إلى الأسلوب السهل الجزئي والمركزي في التعامل ممتنعين عن الأسلوب الاستراتيجي الشمولي واللامركزي في التفاعل مع القضايا بتشابكها وتداخلها واستمرارية حركتها.
بعض امكانات قد تسهم في العلاج:
1- استعمال أسلوب “التأثيل” لتحقيق تغييرات موجبة في النظر وفي العمل وهو أسلوب ديالكتيكي يداخل نمطي الحركة النمط التسلسلي والنمط التنوعي.
2 – زيادة الدراسات والسمنارات عن قضايا الخلافات داخل الحزب باتجاه تحديد نقاط القوة ونقاط الضعف ومقارنة ظروفها بالظروف الحاضرة.
3- وضع استراتيجية للتثقيف في موضوعات التاريخ والمستقبل الحزبي تشمل العناصر والأبعاد الموضوعية للآيديولوجية والعناصر والابعاد الفكرية للصراعات الواقعية.
المنصور جعفر
30 ايلول 2015
.
هنالك كتاب قد تناول هذه الحقبة الزمنية من تاريخ الحزب الشيوعي ، ( ما بين مايو و الشيوعيون للدكتور / يوسف بشارة ) و قد كان جاهز للطباعة . و إني أعتبره أحد المصادر التي تطرقت لتلك الفترة و لاسيما أن مؤلفه قد وقف في الضفة الأخرى من النهر . كما تناولها ( المنصور جعفر ) .و لكن للأسف الشديد لم يرى هذا الكتاب النور فقد تناولته يدٌ خفية من مكتبته يوم وفاة مؤلفه .
و إني أنتهز هذه الفرصة و أناشد من إلتقطه أن يرده لورثته لأنه ملك لهم و لتاريخ الأحزاب السودانية سواءً اتفقوا معه أم إختلفوا .