على التلفزيون القومي بملابس النوم

غادرت مدينة أسمرا الجميلة في مطلع نوفمبر 2001 وانا أتحرق شوقاً لزيارة مسقط رأسي كسلا الخضراء بعد غياب طال أمده ، ولم أكن أتوقع بالطبع أن الزيارة ستحمل لي مفاجأة. في محاولة للقفز فوق المشاكل المتراكمة بين البلدين عندئذٍ جاءت فكرة الزيارة بمبادرة كريمة من الأخ السفير محمد عمر مدير عام الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بالخارجية الإرترية. كانت الزيارة في رفقة وفد إرتري كبير ضم حكام كل من القاش/بركة ، وعنسبا ، وشمال البحر الأحمر ونزلت خلالها ضيفاً على حكومة ولاية كسلا لمدة ثلاثة أيام. كانت الولاية قد أعدت لنا برنامجاً حافلاً شمل زيارة لمدينة حلفا الجديدة بالاضافة إلى توقيع عدد من اتفاقيات التعاون بين ولايتي كسلا والبحر الأحمر من الجانب السوداني والولايات الثلاث من الجانب الإرتري. كانت الزيارة في غاية النجاح من حيث ترتيب البرنامج والروح التي سادت الاجتماعات. غير أنه ولسبب يخفى على فهمي القاصر فإن مفعول الاتقاقيات التي تم توقيعها انتهى وللأسف “بانتهاء مراسم الدفن” وهو موضوع قد يطول شرحه وليس هذا مجال ذكره.
شهدنا خلال تلك الفترة الكرم الكسلاوي الأصيل من جميع القبائل في المدينة نفسها وفي حلفا الجديدة. لم تكن برامج الاحتفاء بالوفد الإرتري تقتصر فقط على المآدب ، بل كانت مهرجاناً شهدنا فيه العديد من أوجه الثقافة التي تذخر بها مدينة كسلا التي تحتضن عدداً كبيراً من قبائل السودان في مودة وإلفة. ومن كثرة ما أكلنا من أنواع اللحوم في تلك الرحلة لم تتحمل البطن العجوز ، ولم تنجح كل موسيقى ورقصات الفرق الشعبية من مختلف المجموعات الإثنية في مساعدتي على تجاوز حالة التخمة التي أصابتني. لذلك فعندما قدمت لنا دعوة عشاء من طرف الوالي تمنيت على الشخص المسئول عن المراسم “مازحاً” أن يكون عشاء الوالي مجرد كاسات من الزبادي. عقدت المقاجأة لساني عندما وجدت أمامي ثلاثة أو أربعة كاسات من الزبادي عندما جلست في مقعدي المميز بالمائدة ، وبينما كان الآخرون يستمتعون بالتهام السلات بعسل النحل الأصلي كنت أنا أغازل كاسات الزبادي وألعن هذه المعدة الخربة التي خذلتني في هذا الموقف التاريخي.
بعد أن أعددنا العدة للرحيل صباح اليوم التالي ذهبت لتناول الأفطار قبل العودة لأسمرا. شاهدت وجها مألوفا في المطعم ولكن كعادتي لم أتذكر من هو صاحب هذا الوجه فبدأت أغوص في تلافيف الذاكرة التي كانت تعمل بسرعتها السلحفائية لاسترجاع صاحب الوجه ، وبما أنني كنت في كسلا فقلت أنه ربما كان أحد زملاء الدراسة في الماضي. تقدم الرجل نحوي وحياني وبعد أن أخذ يدي في يده قدم نفسه بأنه المخرج عيسى تيراب من التلفزيون القومي وأنه يرغب في إجراء مقابلة تلفزيونية مع شخصي الضعيف. قفز لذهني دور الأستاذ تيراب عليه رحمة الله في مسلسل “أقمار الضواحي” وتبادلنا حواراً ضاحكاً حول ذلك الدور الذي سكب فيه الاستاذ تيراب عصارة خبراته التمثيلية. كانت المشكلة أنني قد استهلكت كل ملابسي النظيفة خلال الزيارة ولا يمكن أن أظهر في التلفزيون بالبنطلون الجينز والتيشيرت اللذين كنت أرتديهما لزوم السفر. حاول الاستاذ عيسى إيجاد حل للمشكلة باستلاف بدلة من أحد زملاءه زعم أن حجمه يماثل حجمي تماما ولكنني اعتذرت ، وقررنا في النهاية أن تتم المقابلة وأنا أرتدي الجلباب والعمة ولكن المشكلة كانت هي أنني كنت أنوم في الليلة السابقة وأنا أرتدي ذات الجلباب ، لذلك فإن حاله لم يكن يسمح بأن أقابل فيه أي شخص ، ناهيك عن الظهور أمام ملايين المشاهدين على التلفزيون القومي. حاول المرحوم تيراب طمأنتي بأن الجلباب سيظهر على الشاشة وكأنه قد استلم لتوه من “المكوجي” ، لم أقتنع بالطبع ولكني نزلت عند إلحاحه الشديد ووافقت على التصوير.
كان محاوري في ذلك البرنامج المدهش الأخ المذيع النابه أبو عبيدة أبو عرب وقد كان أول حوار تلفزيوني له فيما اعتقد حيث ظل يكرر من حين لآخر “أعزائي المستمعين” … فيأتينا صوت المرحوم تيراب ?cut? ثم نقوم بإعادة اللقطة من جديد بعد أن يدرك الأخ أبو عرب أنه يواجه المشاهدين وليس المستمعين. استغرق الحوار أطول بكثير مما توقعت وكنت قلقاً لأنه كان علينا أن نغادر مبكراً فقد وردتنا معلومات بأن بعض الجماعات الارترية المسلحة قد تهاجم الموكب ، وهو ما حدث بالفعل ونحن على الحدود بين البلدين إلا أن أحداً لم يصب والحمد لله بأذى. عرض لقائي مع التلفزيون في أول أيام رمضان من ذلك العام ولا أعتقد أن أحداً من المشاهدين لاحظ بأن المقابلة كانت في ملابس النوم. غير أنه تملكتني منذ ذلك اليوم عادة التدقيق في ملابس الضيوف الذين تجرى معهم حوارات في التلفزيون القومي أو غيره عسى أن أضبط أحدهم في موقف كموقفي ذلك الصباح.

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. هههههههههههههه
    و أنت مالك يا أستاذ محجوب بتلهف أطايب اللحوم و الزبادي و أنت ماعندك لبس نضيف..سرد ممتع و دمو خفيف.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..