أبوظبي.. مدينة الأضواء

كان الجو صحواً والشمس ترسل أشعتها الذهبية من كبد السماء إلى صفحة الأرض حينما إنطلقت مسرعا من الفندق Crown Plaza الرابض على صهوة هضبة مترامية الأطراف في وسط العاصمة الكينية نيروبي إلى مطار جومو كينياتا الدولي. كان المطار كعادته مكتظا بالمسافرين والعابرين إلى ضفاف العالم وأزقاته المختلفة. بعد إنتهاء الإجرآءت الروتينية للمطار جلست في صالة الإنتظار أنتظر بداية أول رحلة تقودني إلى خارج القارة السمراء.
على مهل أرتشفت قهوتي، ومارست هوايتي، وبدأت أقرأ وأتبحر على مهل وجوه العابرين، وملامح المسافرين، وقسمات القادمين من بعيد، وأراقب عن كثب الكوكتيل البشري والزحمة القاتلة من كل شبر في مطار يعتبر الأكثر زحمة في شرق إفريقيا. هنا عيون متحركة بقلق، وفساد ينخر عظام العمل، ووجوه مترعة بشوق دافيء وخلايا دافقة بالحنين، وطوابير ختم الجواز الممتدة بإتجاه منافي الألم أو العودة إلى الحضن الوطن، ومكبرات صوتية تصدح باسماء ومدن ساحرة الوقع، وأزيز الطآئرات وهواء مشحونة برائحة الأمكنة الساحرة وذكريات تأتيني من وهج الخيال .
كانت الرحلة بين نيروبي وأبوظبي رحلة جميلة بكل المقاييس، خصوصا وأنني كنت أستمتع بمعية الأصدقاء القدامى الذين ضمهم الزمن بعد أن فرقهم الجغرافيا، إضافة إلى الأحاسيس الجميلة بسبب أول رحلة إلى خارج إفريقيا، ولا أنسى فخامة الطآئرة التي كانت من أحدث أساطيل الإتحاد للطيران الإمبراطورية العملاقة في عالم الرحلات والطيران المدني، وحسب موقع الشركة فهي تتميز (بكفآءة تشغيلية عالية الأداء، كما تتميز بمقصوراتها الواسعة وقدرتها على تشغيل رحلات طويلة المدى). ونظراً لمواصفات السلامة ومعايير الراحة فهي رآئدة في مجال الطيران المدني.
أقلعت الطآئرة من مطار جومو كينياتا الدولي عند الساعة 2:00 ظهرا بالتوقيت المحلي، بشكل مفاجيء تغير المناخ، وتلبدت السماء بالمزن والغيوم ومشاعر تأتي من نافذة البهجة تارة ومن أبواب همسات الأحاديث العشوائية في الرحلات الطويلة تارة أخرى، وداعب الطقس أجنحة الطائرة، وتحول الجو من صحو إلى غائم، ومنحت السحب والموجات البارد هالة من الضباب ورذاذاً خفيفاً للأرض والأشجار التي كانت تتراقص على وقع القطرات والرياح، مما منح للذاكرة أحاسيس معبئة بخواطر مختلفة، وضحكات صافية كجبين السمراوات الطوال وسحرهن الجارف في دروب الليالي المقدسة بالحب والوصال.
حلقت الطأئرة بعيدا في وسط الغيوم وتضاعف هديرها وهي تحاول خرق السهوب المكثفة بالصقيع، والسحب المليئة بالأمطار، ومقاومة الجاذبية الأرضية، والبرد الذي أثر توازن الطآئرة. كانت تتبختر في كبد السماء وكأنها فراشة جائلة في عبق الزهور أو رحيق الورود، نظرتُ إلى أحد رفقائي في الرحلة الذي كان يتمايل على وقع ألحان الأغاني القديمة التي تخرجه من واقع الرحلة إلى فضاء الأحلام والخيال الجانح نحو السموق الروحي والصفاء الذهني وكأنه باخرة على ظهر نهر جوبا في أمسية تشابك الأفق المدهش مع أغاني الرعاة وطبول القرى. قامته الطويلة وبشرته الأبنوسية وسحر العتمة وصوت العندليب أحمد على عجال رسم على جبينه جمال غامض وإبتسامة خلابة تحوّل ليالي الحزن إلى أناشيد عذبة.
جلست على المقعد الثاني في يمين مقصورة درجة رجال الأعمال التي كانت مضيفة روسية شقراء توزع فيها إبتسامة عذبة تمحوا آثار الزمن وهموم اللحظات الشاحبة في حياتنا، ما أجمل نشيد الطبيعة وما أعذب ألحان الكون حين نبحر في عباب السماء في لحظة إشراق باسمة!، ونحن نطالع صفحات الفضاء والبقع الضوئية في جبين السماء، والسحب المنهمرة كأفواه القرب، وعمق الأفق الموغل في جناح الليل.
على متن الطآئرة وفي عز الرحلة توغلت متعة التأمل والقرآءة الحرة لما وراء المرئيات والطبيعة التي تحيطني في كل جانب كإحاطة السور بالمعصم، في أحضان ملامح أحلام في طور التشكل وصوت الكابتن المخترق في خبايا الهواء والأزيز والهزات العنيفة للطآئرة بسبب المطبات الهوآئية، ركبت قطار الزمن السريع المتجه نحو الماضي وتشريح جثة الزمن، وتدبرت قول الحق ]ويخلق ما لا تعلمون[ قبل سنوات قليلة كان التحليق في عمق الفضاء أحلاما مستحيلة التحقق واليوم أستمتع بشفق المغيب، وحمرة الأفق، وظلمة الليل، وأنا أحلق كطاوؤس عنيد على بعد آلاف الأقدام فوق المعمورة.
في عمق الفضاء وفي سحيق الأيقاعات المدهشة تتشابك الخيوط، وتتقافز الخواطر، وتتزاحم الحروف، ويسكب القلم مداده، وتشبه السماء وكأنها دروب موحشة لغابة إستوائية قرب مدينة جمامة على ضفاف نهر شبيللي الخالد، إستنشقت هواء نقيا فواحة العبق فحركت مشاعري الكتابية ودغدغت أحاسيسي نحو تدوين الأفكار وتسطير الخواطر وقيد الحروف بالكتابة. وفي وسط لذة التعامل مع الكلمات إهتزت الطآئرة بشكل رهيب فهمست في أذن صديقي كلمات من وحي اللحظة فابتسم بخبث ونحن في فضاء سماوي لا ينتهي.
ضحكت خجلا في حين كان صديقي مشغولا بأزالة الستآئر المعتمة عن الشباك أو بالأحرى أزاح عن صدورنا غيمة الترقب والإعياء الذي بات يدركنا بطول الطريق فبدأنا نتحدث عن الرحلة والمدن، والعمل المتعب في ظل وطن يترنح في أحضان المرارة والعنف، تحدثنا عن أعناق النساء، ووجوه الحسناوات، وأيام الطفولة هناك في أزقات كسمايو وشوارعها الجانبية المتفرعة التي تكسوها التراب والعراقة.
كان للطآئرة المتخايلة من نوع A320-200 والتي تتسع ل 136 راكبا مقاعدا مريحية تتحول إلى أسرة بضغط زر. فخامة الأجواء والحبور الذي يجتاحني في كل حين والأشعة القرمزية التي تضفى الجمال تجعل رحلتي إلى أبوظبي جميلة وموغلة في البهاء كمرح الطفولة وهذيانها.
توارت الشمس بالحجاب، وتدثر الفضاء الخارجي بالدجى والغسق، واكتحل الأفق الحمرة المشوبة بالأصفر، وأنا أطير في وجنات السماء مع رفقاء العمل وأصدقاء الحياة، وكنت أحدث نفسي كلما تعتريني طيف المدن الحالمة على ضفاف الجمال والأمن والدعة أن ربيعا صوماليا ينطلق من العاصمة الصومالية مقديشو وقلب الأمة النابض يقوده البسطاء الكادحون أصحاب القلوب النقية الذين يغتسلون عرق الجبين من أجل لقمة العيش وصون الكرامة، سيحول الكابوس الحياتي والمعيشي والأمني إلى سعة ورخاء وأمن ووئام يتمتع فيه الصومالي وهو لا يخاف إلا الله.
وسوف ينسى الشعب أنين السنين والليالي الطويلة، وتزدهر الحياة ونكتشف الثروات الموجودة في باطن الأرض ونصدر الموز من جديدن وينتشر عطر اللبان في ربوع الصومال، وفي الربيع يطيب الغناء على العود وزغردة العرآئس، وعندما ينتهي ليل الظلم والتهميش والعنصرية ونظام 4.5 البغيض سنجعل ـ بإذن الله ـ المآسي إلى مسرات، والهزآئم والإنكسارات إلى أفراح، والحرقة القلبية إلى طيبة وهناء وكل السنوات التي مرت بلا ملامح إلى أعوام ملؤها الهناء والحياة الكريمة.
هدأت سرعة الطآئرة وهي في طريقها إلى الهبوط على مدرج مطار أبو ظبي الدولي، رأيت من بعيد مدينة الإنارة والمربعات الذهبية التي تزيها ناطحات السحاب والجزر المنتشرة على جبينها وأشجار النخيل ومصافي البترول، ورأيت أنوارها المشعة وكأنها قناديل مضيئة في وسط العتمة، وهنا تذكرت كلمات الشاعر إبراهيم ناجي وهو يصف أنوار المدينة: (مصابيح تعلو رؤوس الليل كالتيجان)، عماراتها الطويلة، وأبراجها العاجية، وشوارعها النظيفة، والقلاع العتيقة خاصة وأن المدينة كانت تحتفل مهرجان قصر الحصن السنوي كسى على المدينة طابعا تراثيا عربيا موغلا في التاريخ والعراقة البدوية المطبوعة على جدران الجغرافيا وصفحات الثقافة والتاريخ التي تأبى النسيان.
هبطت الطآئرة على مدرج المطار عند الغسق وقبل أن تذبل ساعات الليل على وقع الأغاني التراثية الإماراتية وأعتاب الدجى، خرج الناس من صمتهم وتبادلوا الأحضان والقبلات وعلت الإبتسامة على الوجوه التي تطفو عليها ومضات الوصول. نزلت من الطآئرة وبعد إستقبال رسمي إتسم بالود ودفء الأخوة إتجهنا إلى فندق جميرة في أبراج الإتحاد، كانت المدينة بقعة ساطعة من الضوء وكأنها تعاني من تخمة الصباح وهي في عز الظلام ودياجير ليل شتائي مزدان بهواء عليل تأتي من الخلجان والجزر لترطب الأجواء وترسم السعادة على ملامح الفسيفساء البشري في مدينة إحتوت جنسيات متعددة، وثقافات متباينة، وألسنة مختلفة، وأعراق متجانسة، جمعها هم العمل وهاجس الحياة، وضمت الإمارات العربية بين أجنحتها.
خرجت من المطار برفقة الأصدقاء إلى أضواء مدينة أبوظبي الساحرة والإنارة الجميلة والطرق السريعة والشوارع الواسعة التي تتسع العين دهشة على رونقها. بحس قروي دخلت عمق أبوظبي وقلبها النابض، المطار كان يكتنفه الهدؤ والفخامة وربما الرتابة، وكان الشوق يحدوني إلى المدينة الجميلة التي كانت قصصها تملأ آذاني وأنا قابع في وسط البادية الصومالية هناك على الضفة الأخري لبحر العرب أو جنوب الجنوب حيث كسمايو الوادعة على ربى العراقة والأصالة الصومالية.
توغلت في المدينة أو قل إن شئت توغلتْ مشاعري على أجزأء أبوظبي وجمالها الذي لايقاوم، لفت أنظاري الجسور المعلقة، وللعلم فأبوظبي لها أربعة جسور يعد شريان الحياة وهما جسر المقطع، جسر المصفح، جسر الشيخ زايد، جسر الشيخ خليفة، وفي قمة الإنبهار أنتبهت على قلة المارة وكأن المدينة تعاني من صمت أسود وبحثت غبار الشوارع في كل الطرقات والشوارع والأزقات الجانبية فلم أجد، بل كانت مدينة أنيقة بمظهرها باهرة بمبانيها بعيدة عن العشوائية والإكتظاظ السكاني والإختناق المروري.
وصلنا الفندق ليلا وكأنه أشجار أمازون سموقا ونضارة، أصبت برعشة الإنبهار وذهلت من فخامة الأبراج وجمال البناء وسحرية التصميم، أبراج تناطح السحاب، وألوان مائية تقترب إلى الأزرق الصافي، ترحيب وإستضافة لحد الإعجاز، الفندق مطل على البحر وكأن قاعدته تغرف الجداول والترعات الصغيرة للبحر التي أجبرت على الإنحسار والهزيمة تحت قوة التكنولوجيا وجبروت الإرادة القوية للبشر، بهو الفندق تزينه كراسي مصممة بطريقة كلاسيكية جميلة وشذرات من ضوء ماسي أخاذ ينبعث من القبب المنتشرة والمصمة في الجدران ذات الطلاء الذهبي، الشرفات الواسعة تمنح للجالسين على شاطئ البحر ومضات من الطمأننية والأحاسيس الباذخة، وفوق البرك السباحية مجموعة من السياح يتشمسون بطريقة تخدش الحياء الشرقي التقليدي، وعلى يمينك وفي وسط المياه زوراق سريعة للإستجمام تتبختر على صهوة المياه وهامات الأمواج الناعمة، وفي الداخل حيث منتهي النضارة والألق غرف مريحة تنمقت يد الجمال عليها، وحمامات واسعة، وعموما الفندق يشبه مدينة أفلاطون الفاضلة، الحياة تسير بدون تعقيد، خدمة فندقية مميزة وترحيب حار لحد التخمة.
غرفتي كانت مطلة على نبض المدينة والشوارع الخلابة لمدينة يعتبر حسب بعض الإحصائيات الرسمية أغنى مدينة في العالم حيث تضم أعلى نسبة أثرياء في العالم، وفي الليل حين تهدا الحركات وتوغل الأحلام في الفضاء وتهاجمني الوحدة على المقاعد الحريرية كنت أتمعن وميض الأبراج المنتشرة في المدينة والأضواء القرمزية وصخب الطبيعة الصحراوية في هدأت السحر.
بعد يومين من العمل والأحاديث الرسمية أخذتنا يد الجمال إلي كل المظاهر الطبيعية والأماكن التاريخية لأبو ظبي العاصمة الإدارية وملتقى البشر، فزرنا المتاحف والمسارح والأسواق التجارية والشعبية وكورنيش أبو ظبي وحتى المشافي والمرافق الحيوية للمدينة، وقصارى القول كان هناك رابطا يربطنا مع البهاء والجمال وسحر الشوارع، ونضارة الأسواق، وعبق النخيل والنسائم العابثة على أوراقها، وأمواج البحر الهادرة.
تجولت في القرية الثقافية التي ضمت بين دفتيها تراث الإمارات وتاريخ العرب وعراقة الأصالة، وفي وسط التنقل بين الأواني الرخامية والمنزلية، وأنواع السيوف العربية، والأزياء التقليلدية الإماراتية، وصناعة النسيج، وصور تحاكي نمط الحياة قبل الثورة البترولية تجمدت أمام صورة لأبوظبي تعود الى 1969م،بيوت طينية وصفائح وأكشاش وحياة بدآئية، بينما كانت مقديشو في ذالك التاريخ مدينة عصرية، تمتلك كل عناصر المدن الكبيرة وسبل الراحة ومظاهر التقدم، أما اليوم فالفرق شاسع والهوة كبيرة.
تنتصب المدينة شامخة فوق الجزر والخلجان المتفرقة على الخليج العربي، وهي جزر جميلة ومنطقة ذات مظاهر فاتنة تغطيها النخيل والذهب السود، والرمال الحريري، وحسب مرشد سياحي في القرية التراثية لأبوظبي فالمدينة أخذت هذا الإسم نسبة إلى الظباء التي كانت تعيش بكثرة في هذه المنطقة، وتتكون إمارة ابوظبي (مدينة ابو ظبي، مدينة العين، وعدة جزر ممتدة غربا مثل داس، ومبرز، وأبو الأبيض، والمناطق الداخلية المحاذية للساحل حسب تعبير المرشد السياحي).
أبو ظبي تشبه في الخارج مدينة راكدة وعاصمة السكون، وفي الداخل هي مدينة تعج بالحياة والمظاهر الخلابة والأماكن السياحية والمرافق العامة والمتاحف التاريخية والمسارح الجميلة، وهي عاصمة تنافس كبريات المدن العالمية جمالا وتنظيما ونظافة. وفي الليل حيث تجتمع جمال الطبيعة الصحراوية مع جمال المدينة والعمارات الشاهقة التي تتلوّن كلوحة سريالية بديعة بأبهى صورها تدخل الحبور والسرور في القلوب قبل العيون.