جرد الحوار الوطني بين دهشة الفرح وخيبة الامل

(1) يدور هذه الايام جدل كثيف حول مآلات الحوار الوطني ، هل نجح في الوصول الي اهدافه التي تم التبشير بها علي الاقل في هذه المرحلة ، ام انه كان عبثاً وكسباً للوقت من قبل السلطة الحاكمة ، ولعل ما يعيد هذه الاسئلة في هذا التوقيت هو الحالة اليائسة التي ظهرت عند بعض دعاة الحوار الوطني ، فقد جرت العادة ان تكون السعادة علي الوجوه و الناس يوشكون علي الانتهاء من الاشياء و الاعمال بما بذلوا ولكن هؤلاء كأنهم خارجون من المقابر كما يقول البير كامو في الطاعون .

(2) القارئ للحياة السياسية السودانية يجد انها دائماً ما تحمل مفاجأتها وصدماتها في اللحظات الاخيرة فمن قبل خرج الي الوجود دستوراً لم يعلم به احد حتي تمت تلاوته والناس في دهشة حتي الذين رسموا شكله وفصلوا ابوابه وكتبوا نصوصه ، ومن قبل خرجت اتفاقية نيفاشا وأدهشت وأسكتت كل الالسن حتي الذين كانوا في منتجعاتها حضوراً وشهوداً ، واليوم ينتظر الناس مخرجات للحوار الوطني يشتد حولها الجدل ولا احد يعلم كيف ستكون هذه المخرجات ولكن قطعاً لن تخلو من الدهشة الحميدة .

(3) عند اعلان الحوار الوطني لم يكن اكثر المتفائلين يعتقد ان سلطة الانقاذ ستضع كل بيضها في سلة واحدة علي عكس ما يقول المثل الانجليزي الشهير ، ولم يكن يتصور أي قارئي للشأن السياسي السوداني ان الانقاذ ستضع رقبتها كاملة بكل مؤسساتها الامنية والعسكرية والسياسية والتشريعية تحت مقص حوار قاعة الصداقة ، ولو كانت المعارضة تعلم القليل من الغيب او انها تجيد استشراف المستقبل او انها جلست حتي الي قارئة فنجان لوضعت رقبتها ايضاً تحت هذا الحوار ، و كلاهما رقبة الحكومة ورقبة المعارضة في الفترة الاخيرة تتناقص اسهمهما وتخسران الكثير في بورصة الشعب السوداني ولا تثيران الدهشة ولا المتعة وفيهما ما يثير الازدراء اكثر من ما يثير الاعجاب .

(4) كان المأمول والحلم الذي راود البعض من دعاة الحوار ان يكون حوار قاعة الصداقة مظلة كبيرة يجتمع تحتها كل الطيف السوداني بأحزابه الكبيرة من اقصي اليمين الي اقصي اليسار وحركاته المسلحة ولكنه كان محض حلم فحضور حوار القاعة كان بائساً بامتياز ، و اصطدمت تلك الاحلام و الامال بالمواقف المتصلبة للأحزاب اليسارية التي تعتقد ان كل الاشياء قد اكتملت ونضجت لثورة شعبية تذبح بها تجربة الحركة الاسلامية علي سلالم القصر الجمهوري ، وكذلك ظلت الاحزاب التقليدية علي نهجها القديم تعيد قراءة المشهد ثم تعيده من جديد ثم تتردد حتي تتجاوزها الاحداث وهذه الاحزاب اصبحت تعيش علي الذكريات القديمة ولا تنظر الي المستقبل كعادتها فلم يحدثنا التاريخ عن مشاركة فاعلة لها في كل ثورات التغيير التي مرت بها الامة السودانية ، كذلك الحركات المسلحة استعصمت بعدم المشاركة ولعلها تعتقد ان لا جديد يغري بالمخاطرة وضياع المكتسبات القليلة من تجربة النضال في الغابات والأحراش وتنتظر المساومات والاتفاقيات الثنائية التي تعودت عليها لاقتسام السلطة وبعضها يمارس اللعب علي الهاوية حتي اخر اللحظات ، عموماً هذه المواقف افقدت الحوار مصدر دهشته الاولي وعنوانه الرئيسي حواراً شاملاً يشمل كل الطيف السوداني علي مائدة حوار تاريخي .

(5) هذا الغياب الكبير للطيف السياسي السوداني لم يجعل لدعاة الحوار من خيار سوي ان يمارس اعضاء حوار قاعة الصداقة عصفاً ذهنياً بامتياز في حلحلة قضايا السودان و استولاد الافكار المنتجة والمثمرة والرؤى العميقة ، وهذا الخيار مرهون بان يكون اعضاء الحوار الوطني مدهشون ويملكون من المعارف والثقافة ما يحقق هذا العصف الذهني و لكن للأسف ظل حوار قاعة الصداقة بمداولاته المنشورة لا يثير الدهشة فما طرح اكثر من عادي وكما يقول كيسنجر ان الرغبة في السلام لا تعني القدرة علي تحقيقه واتضح ان هذا التداول اقصي ما يمكن ان يفعله هؤلاء رغم الرغبات الصادقات ، وصدق وليم فوكنر حين قال بعض الناس لا يثيرون الاهتمام في من يصغي اليهم في الكلام وليس ذلك فحسب بل حتي في افعالهم لا يثيرون الاهتمام وكانه كان حضوراً في قاعة الصداقة ، وبعضهم يريد من حوار قاعة الصداقة افكار ورؤي كما تقول المقولة علي مقاس حذائه لا يستطيع ان يلبسها الا من هو علي مقاس حذائه ، وطبيعي جداً لهكذا حوار بلا نجوم في الفكر والثقافة والسياسة ان تكون ابرز مداولاته قضية نثريات اعضاء الحوار ومشاكسات ومشاغبات اعضائه المفتعلة ، ولذلك اذا اراد دعاة الحوار ان يتجاوز الحوار محطة الرتابة والملل وان يثير الدهشة من جديد فعليهم بمبضع جراح بارع يلملم شتات مخرجاته وان يصنع من هذا الفسيخ شربات تفرح الشعب السوداني وكثرة الطباخين كما يقول باسترناك تفسد الطعام .

(6) اخيراً الكاتب الامريكي وليم فوكنر يقول ان الذي يفشل في الحب عليه ان يؤلف كتاباً بدلاً من ان يقدم علي الانتحار ولكن المطلوب في هذه المرحلة من عمر الدولة السودانية من الفاشل ان لا يزعجنا بندوات او بيانات او تبريرات فقط عليه ان يقدم علي الانتحار بلا استئذان وان يحدد وحده طريقة الانتحار .

علي عثمان علي سليمان

[email][email protected][/email]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..