( رهق المشاوير )

في صباح يوم قارس نكاد لانشعر بأطرافنا والأنوف تسيل شوقاً لدفء .. تم حشدنا في طابورعسكري متساوي الصفوف ( ممتاز الحزية ) و الهبنا حماس زائف بعبارات أننا أبناء الوطن الصالحين وأن صلاحه وعزته مبني على كاهلنا .. وأننا أبطال الحاضر وزعماء المستقبل .. تتالت الشعارات وتجملت الكلمات وغسلت عقولنا الصغيرة التي تتساوى مع أعمارنا بماء فاتر وصابون خلف وراءه رغوة كبرى من النفاق .. تعالت الأصوات وكثر الهتاف بالتهليل والتكبير والتبجيل وطربت آذاننا معه فرحاً وليد حماس آني من نبرات المغنين الذين أظنهم تلقوا دورات أهلتهم لإعتلاء المنابر والتغلغل داخل أذهان البسطاء .
كانت الحرب آفة الشعوب ومدمرة الأذهان و القلوب مشتعلة والإحتراب والإقتتال بين أبناء الوطن الواحد في أوجه قبل أن تصبه لعنة التشظي .. كانت منهم فئة تنادي بالوحدة والتحاور ونبذ العنف وترك الحرب والحياة في بوتقة وطن يسع الجميع .. وأخرى تتمسك بتاريخها وتضحيات أسلافها والتمسك بالقضية وفرض النفوذ .. ومنهم من يرى أن الوطن بطبيعته الديموغرافية ومعتقداته الدينية المتنوعة لا يمكن أن يطبق فيه شرع لديانة محددة دون الأخرى وقبائله المختلفة وإثنياته المتباينة في اللون والشكل والعرق لايمكن نسبها للون واحد دون الآخر .
وايضاً خلافات أخرى لايخدم سردها موضوعنا الذي بصدده .. مايهمنا أنه كانت هناك حرب ضروس بين أبناء الوطن إستنزفت موارده الإقتصادية والبشرية ورمته في غيابة جب لم يسطع الخروج منه حتى كتابة هذه الأسطر .
نعود الى الطابور الصباحي ومخرجاته التي هي سبب كتابة هذه الرواية فقد تم إختياري ضمن مجموعة تم ( فلترتها )حسب التكوين الجسماني الذي يصلح لمهمتهم الغامضة التي لا نعلم تفاصيلها حتى الآن وإنتهى الطابور وصرف الآخرون
ونحن في حالة ترقب وإنتظار جاءنا وفد ( عاير ) يرتدي زي غير عسكري أظنه صنع خصيصاً لمثل هذه المواقف يجيد الحذلقة والتظاهر بالكياسة وفن إقناع الآخرين .. تحدثوا معنا لبضع دقائق بحديث معظمنا لم يفهمه خلاصته صرف حافز معنوي لتجهيزنا نفسياً للمهمة وسمحوا لنا بالإنصراف والذهاب الى منازلنا لجلب أغراضنا للرحلة التي قد تطول وأن نستودع أهلينا والمعاودة غداً .
إنطلقنا لديارنا حاملين لهم جديد أحداثنا التي تنقصها وجهة ومكان الرحلة .. دار حوار أسري وتباينت الرؤى فعقلائهم كانوا يروا عدم الذهاب لأن الضبابية التي تصاحب الموضوع تشير الى تسفيرنا لمناطق العمليات وهم يخافون علينا ويبنون علينا آمالهم العراض … وبعد التشاور والتحاور المستفيض أقنعتهم بحجة أن قلة العدد التي تم إختيارها تنم على أنها ليست كذلك فنحن بحكم إحتكاكنا بأفراد الجيش طيلة هذه الفترة وخبرتهم في مثل هذه المواقف شرحوا لنا الطريقة والكيفية التي يتم بها التسفير لمناطق العمليات وهو يختلف عن الطريقة التي نمر بها الآن وهذا خلق إطمئنان ونوع من الإرتياح في نفوسنا ونفوس ذوينا .
بدأت أجهز للرحلة القادمة بجمع أغراضي وحصرت كل ما أملكه على وجه هذه البسيطة في ( شنطة حديد ) والتي ورثتها جدتي لأمي عن والدتها ( طيب الله ثراهما ) وورثتها ( أنا ) من جدتي وصارت متداولة بين أجيالنا وذلك لصلاحها في مثل هذه المهمات ولاتزال موجودة بمتحف منزلنا .
أشرقت شمس الصباح ودعت الجميع وكانت عبارة ( العفو في العافية ) هي الطاغية على اللسان والكل يرد عليها ( لله والرسول ) .. ذهبت وبرفقتي صديقتي ( شنطة الحديد ) وبداخلها ممتلكاتي ومغتنياتي وهي عبارة عن بنطلونين من الجينز أحدهما أسود ماركة ( إدوين ) وآخر باللون الأزرق ماركة ( كونص ) وكنت أحبهما لإخلاصهما وقناعتي بأنهما كافيان لسترتي لعدة سنين وتميزهما بإستيعاب أكبر عدد من القمصان مختلفة الألوان التي كنت لا أحبذ لبسها فهي سريعة الإتساخ وأفضل إرتداء ( الفانيلة ) التي أمتلك منها عدد مقدر ولا يستهان به .. و( تريننق ) رياضي ماركة أديداس بالإضافة إلى حذاء SPORT لا أذكره جيداً و ( سفنجة ) حمام لونها أخضر والتي نستخدمها نحن خلاف الشعوب الأخرى في حلنا وترحالنا ومشاورينا الخاصة والعامة .. وقليل من الملابس الداخلية التي عادةً مايتم غسلها في ( دورة المياه ) وإنتظارها إلى حين جفافها وإعادة تدويرها مرة أخرى فلذلك عددها قليل .. وفيما يخص الملحقات والمتعلقات الشخصية الأخرى أذكر منها : ماكينة حلاقة ? صندوق أمواس ? 5 صابونات (فنيك ماركة الميزاب) صنع بمدينة شندي – علبة فازلين (أبيض نقي) – ودفتر يحتوي على أغاني فناني المفضل ورفيق فكري ( مصطفى سيد أحمد ) كتبت كلماته بخط يدي من عدة مصادر مثل( زهرات الأغاني ? وأشرطة الكاسيت ? ومن ذاكرتي التي كانت تزخر بمخزون جيد من أغانيه ) .
ركبت المواصلات بإتجاه سيري وكان تفكيري في حالة كر و فر من القادم إلى أن وصلت إدارة الخدمة الوطنية فوجدت زملائي الذين تم إختيارهم بالأمس في حالة ترقب وإنتظار وجاهزية .. بعد مدة ليست بالطويلة جاءنا أحدهم وعرفنا بنفسه بأنه قائد معسكر تدريب ( عقبة بن نافع ) ورحب بنا ودعا لنا بالتوفيق في مهمتنا القادمة التي تتمثل في تأمين المعسكر وملأنا ثقة بكلماته الرصينة وأنه سوف يكون سند لنا ويكون عند حسن ظننا به وأكثر … ولكن السؤال الذي لم نعلم إجابته ماذا تعني ( تأمين معسكر ) ونأمنه من ماذا ؟ ولماذا ؟ وكيف ؟ واين هو ؟ هذه الأسئلة سوف تجاوبها الرواية لاحقاً .
في تلك الفترة كانت الخدمة الوطنية تعرف بالإلزامية وكان هذا الإسم يشكل بعبعاً لكل الشباب لأن عملية التجنيد كانت تتم في حين غرة ودون سابق إنذار ومن غير مقدمات ومعرفة الظروف فيمكن أن تجد نفسك داخل ( دفار ) ومحاط بحرس شديداً وشهبا و يصعب عليك محاورتهم لا بالمنطق ولا بالجسد .. كانت حملات منتشرة في كل مكان وزمان أرعبت الشباب وجعلتهم سجناء في منازلهم وعرفت إصطلاحياً ب ( الكشات ) .
جاءت لحظة الصفر و الضغط على دواسة الوقود و صوت محركات السيارات العسكرية يعلو شيئاً فشيئا .. إعتلينا صهوة الشاحنة العسكرية ( المجروس ) وكان عددنا مايقارب 20 مجند ويتقدمنا رتل من (اللاندكروزرات ) به القائد وآخرون لا نعلمهم … علمنا من (الرقيب) الذي كان معنا أن الرحلة تستغرق 3 ساعات تقريباً لوعورة الطريق وكثرة مطباته الرملية الصعبة ويلزمه سائق قدير ومحترف ويتمتع بالخبرة .
بعد معاناة وأرهاق ورحلة مضنية لاح مايشير إلى وصولنا الى قبلتنا والغريب أن المعسكر لايرى إلا من مسافة قريبة ( يفاجئ الأنظار ) لأنه يقبع داخل سهل منخفض ( وادي ) وتحاصره بعض الجبال الصخرية والكثبان الرملية ..
أخيراً وصلنا وكان واقع المعسكر خلاف الذي بأذهنانا فهو عبارة عن رواكيب متفرقة من الحطب والحصير ومدخله بوابة كبرى من غير سور ( لايوجد سور ) .. الجو مشبع بالبرودة والغبار وبشرونا بأن هذا الغباريستمر على مدار العام لا يتوقف أبداً إلا لفترات متباعدة .
إنه معسكر التدريب العسكري الذي يعرف ب ( فتاشة ) غنت له حرائرنا ( جياشة والجيش نقلوا فتاشة وووب عليا ) ومن ترجمة معاني هذه الأغنية الى لغة الضاد يتبين بعده كمنفى وهول العيش فيه لشدته .. وعلمنا أن مهمتنا هي حماية المعسكر وتشكيل حاجز بشري يمنع هروب مجندي الخدمة ( الإلزامية ) الذين تم تجنيدهم قسراً .
كان في إستقبالنا بعض الضباط وضباط الصف … وانزلونا بعنبر كبير من الحطب والحصير والقش .. سرائره مشمعات فرشت على الأرض ووسادته بطانية ( كاروهات ) وأكرموا مثوانا بماء لونه متغير .. وانصرفوا لمنحنا بعض الراحة من عناء الرحلة المتعبة .. منا من خلد في نوم عميق ومنا من يتأمل الطبيعة الصحراوية القاحلة عبر النوافذ والنظر الى الفناء … أحضرت وجة الغداء وهي عبارة عن عدس تفوح منه رائحة العطرون وتخالطه حجارة … وبعده تم تسليمنا إلى مدير إدارة الإستخبارات العسكرية الذي سوف نعمل تحت إدارته … رحب بكلمات قليلة ودخل في تفاصيل وشرح العمل … ووجه ضباط الصف بإدراجنا ضمن قوته وصرف مهماتنا العسكرية ومنها ( النمرة ) مشمع يستخدم لحاف للنوم وبطانية متساوية الأضلاع مساحتها لاتكفي الجسد ككفن ( مصعب بن عمير ) عندما تغطي الرأس تتكشف الأقدام وتتمتاز بالإلفة وذلك بترك بقاياها في الشعر مخلفة جزيئيات أشبه بنبات ( الحسكنيت ) .. وبطارية تعمل بالحجار لأن المعسكر يعمل بمولد كهربائي من المغرب إلى الساعة 12 وبعدها يكون الظلام سيد الموقف . تم توزيعنا للثكنات وهي عبارة عن خيمة من القماش سوف يحدد موقعها غداً .
بعد فصل التيار الكهربائي تسامرنا ودخلنا في نوم عميق في فناء المعسكر حتى أن أحدنا أيقظنا بصرخته المفزعة التي كانت بسبب تجمع الرمال خلفه جراء الزحف الصحراوي ولما أراد أن يغير إتجاه نومه تفاجأ بها خلفه ظاناً أن أحد العساكر أراد التحرش جنسياً به … ضحكنا وهدينا من روعه واستأنفنا نومنا .
مع شروق أول شمس كانت مهمتنا نصب خيمتنا والتي تسع 5 أفراد ( أنا و4 من قبيلة المحس لابجيدون اللغة العربية – محس البلدالرطانة ) وجلبنا داخلها ( زير ) من من أحد العنابر مصنوع من فخار أبوروف الأصلي (كبير البطن) .. وأخذ كل واحد منا موقعه داخل الخيمة .
كان المعسكر خالي من المتدربين (المستجدين ) ويتأهب لتلقي اول فوج من ( الدفارات ) التي تحمل المقبوض عليهم في ساعة غفلة .. وكانوا في تلك السانحة يشرحوا لنا طريقة العمل بالتفاصيل المملة وتكرارها علينا كل يوم بغرض إستيعابها لأن بعد تتدافع وفود المغضوب عليهم والضالين والولوج في ( اللحم الحي ) العمل الجاد لايوجد زمن للشرح وأي تقصير من أحدنا عواقبه قد تكون وبال عليه وتطبق في حقه العقوبات العسكرية الصعبة ( الجزاءات ) .. ومنها :-
1/ صلعة بالموس : حلق الشعر كاملاً بشفرة الحلاقة تيمناً بالحجاج والتوبة .
2/ الكركون : سجن سئ السمعة داخل المعسكر .
3/أرنب : القفز كالأرنب لعدة ساعات .
4/ التقل : حيوان جبلي أظنه القرد .
5/ الختم : جرح الركبتين والمرفقين من الزحف المتواصل على أرضية صلبة .
6/ مضاعفة ساعات الخدمة .
7/ الإدارة الداخلية : الوقوف في شكل إنتباه بدون حركة لساعات طويلة قد تصل إلى يوم كامل .
8/ ودالحرام : تحميل دانة مدفع خالي من الذخيرة ومليئة بالرمال
9/حبس قشلاق : الحبس داخل المعسكر دون إذن للخروج تتفاوت مدته حسب العقوبة .
10/ الطيارة قامت : وهي طرحك أرضاً على البطن وربط الأرجل مع الأيادي وإدخال الة صلبة تحتهما ورفعك بها مما يسبب آلام بالنخاع الشوكي تصل إلى الشلل .
11/ السجن الحربي : وهذا للجرائم الكبرى يتم ترحيل المخالف إليه وموقعه منطقة وادي سيدنا العسكرية ويهابه كل العساكر حتى الضباط .
يمكن أن تكون العقوبة بواحدة او أي عدد من الجزاءات التي ذكرت وذلك حسب تقييم الجريمة من رئيسك المباشر ( الحكمدار ) .
لذلك إستوعبنا مهمتنا بشئ من التركيز لو إستخدمناه أكاديمياً كان سوف يكون لنا شأن عظيم.. وبعدها تأقلمنا مع الواقع الذي فرض علينا عنوة و أصبحنا جزءاً من منظومة المعسكر وشهدنا أحداث ما بالداخل .
[email][email protected][/email]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..