في ركاب الجندية بالسودان

في ركاب الجندية بالسودان
Soldiering in the Sudan
العقيد السير هيو بوستيد Colonel Sir Hugh Boustead
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
[email][email protected][/email]
مقدمة: هذه ترجمة لشذرات من الفصل السابع من كتاب مذكرات العقيد الإنجليزي السير هيو بوستيد المعنونة “ريح الصباح ?The Wind of Morning والصادرة عن دار نشر بكاليفورنيا عام 2002م، سجل فيها تاريخ حياته منذ ميلاده بجزيرة سيلان (الآن سيريلانكا) في 14/4/1895م لعائلة ثرية كانت تمتلك مزارع ضخمة للشاي في تلك الجزيرة، والتحاقه بخدمة البحرية الملكية في جنوب أفريقيا ثم مشاركته في عدد من المعارك التي خاضها الجيش البريطاني في الحرب العالمية الأولى بفرنسا وليبيا وروسيا.
وعاد بعد فترة دراسية بأكسفورد عاد للعمل في العشرينيات بالسودان في سلاح الهجانة في مناطق مختلفة مثل كردفان ودارفور وشرق السودان . وشارك في الحرب العالمية الثانية ، وحصل على عدد من الأوسمة والنايشين نظير حسن بلائه فيها . وبعد ذلك هاجر لآسيا للعمل إداريا ودبلوماسيا في المكلا وعمان وأبي ظبي ، حيث عمل سفيرا في الأخيرة بين عامي 1961 ? 1965م . وتقاعد بعد ذلك من خدمة الحكومة البريطانية ليعمل مشرفا في (مزيد) على خيول الأسرة الحاكمة.
كان هيو مغرما بالاستكشاف وبمختلف أنواع الرياضات البدنية مثل الملاكمة وتسلق الجبال ورياضة ألعاب القوى الخماسية ، ومثل بلاده في أولمبياد 1920م الصيفي.
نشرت مذكراته “ريح الصباح” للمرة الأولى في عام 1971م، وذلك قبل تسع سنوات من وفاته بدبي في 3/4/1980.
المترجم
____ __________ ______ __________
تلقيت الأوامر في نوفمبر من عام 1924م بالالتحاق بالجيش المصري في القاهرة. وبلغت تلك المدينة في وقت عصيب في تاريخها. فقد كان السير لي استاك (حاكم عام السودان وسردار الجيش المصري) قد أغتيل بها في التاسع عشر من ذات الشهر. وفي أغسطس من ذات الشهر تمرد في السودان أفراد من الجيش المصري ، ونشبت من جراء ذلك التمرد قلاقل واضطرابات تنذر بحدوث فوضى مثلما كان عليه الحال قبل فتح (غزو) السودان. وقدم اللورد اللنبي ، المفوض السامي ، إنذارا نهائيا للحكومة االمصرية يطلب منها فيه القيام بعدد من الاجراءات شملت السحب الفوري لكل الضباط المصريين العاملين مع القوات السودانية، ولكل الوحدات المصرية من السودان.
وفي رئاسة الجيش المصري بالقاهرة قدمت نفسي للعقيد هامريسلي نائب القائد وأنا أرتدي التنورةالأسكتلندية (Scottish kilt). وعبر لي نائب القائد ، وبكل لطف ، عن أن هذا الزي ليس زيا مناسبا تلك الأيام لأن بريطانيا كانت ترغب في إرسال ضباط بريطانيين جدد لقوة دفاع السودان ليحلوا محل الضباط المصريين المبعدين ، ولكن بملابس مدنية وتحت ستار العمل في خدمة حكومة السودان حتى لا يلفتوا النظر . ومن شأن ظهوري بتلك الملابس العسكرية المميزة افساد خطتهم.
وتم تدبير خط سير رحلتي بالقطار من القاهرة حتى الشلال، والتي استغرقت ليلة كاملة ونصف اليوم التالي. وسعدت بمغادرة ذلك القطار المغبر حين استقليت الباخرة السودانية الشديدة النظافة والممتازة الخدمة، والتي كان يقوم عليها موظفون وعمال سودانيون يتميزون بالنظافة والانشراح والترحاب. ورغم أن الرحلة النهرية في تلك الأيام كان شديدة البطء ، ويعوزها الكثير من وسائل الراحة المتوفرة هذه الأيام ، إلا أن تلك الرحلة التي قمت بها في أواخر نوفمبر بقيت خالدة في خاطري بحسبانها مقدمة لرحلات مماثلة قمت بها في المستقبل.
وكان الهدوء الذي يسود المناطق التي مررت بها هدوءا خادعا، إذ أن مصر والسودان كانا يمران بفترة اضطراب شديد أعقب الحرب الكبرى . وكانت الأمور في مصر أكثر اضطرابا ، خاصة بعد حادثة قرية دنشواي في عام 1906م (هي حادثة مشهورة قتل فيها ضابط بريطاني كان مع مجموعة من رفاقه يصطادون الحمام في تلك البلدة ، إثر صدام مع الأهالي ، وقدم على إثرها 52 من سكان البلدة للمحاكمة ، وأعدم منهم أربعة وسجن وجلد بعضهم. المترجم) . وأثارت أحكام تلك المحكمة حفيظة المصريين فاشتعلت التظاهرات وعمت الفوضي. وتكرر ذلك ضد القوات البريطانية بمصر في عام 1919م. وعدها المصريون ثورة وطنية أخمدها الجيش البريطاني بعنف بالغ.
وعقد كل ما ذكر الموقف في السودان، ذلك القطر الواسع (الذي تماثل مساحته ربع مساحة القارة الأوربية بأكملها) والذي ضمته مصر بين عامي 1820 و1874م لسلطتها. وتميز حكمها للسودان بالغلو في الضرائب ، وبالفساد في الإدارة ، وبمحاولة لإنهاء تجارة الرقيق لم تثمر إلا عن نجاح المهدية (لا يخفى على القاريء خطل ربط تحريم تجارة الرقيق بقيام المهدية ، بحسب كتابات كثير من المؤرخين. المترجم) ومقتل غردون. ولم تنجح كل محاولات الحكم المصري للسودان في هزيمة المهدي في أي معركة حربية خاضها ضده. وأتى بعد المهدي خليفة له أَسَاءَ إدارة حكم البلاد. وعندما غزت القوات البريطانية ? المصرية السودان وجدت أرضا قفرا تناقص عدد سكانها بصورة مذهلة.
ووضعت إدارة الحكم الثنائي (والذي كان يعترف بالدور المصري في “استعادة” السودان) الإدارة الفعلية للبلاد بيد البريطانيين وتحت قيادة حاكم عام بريطاني . وبما أن البلاد كانت قد أخضعت لقانون الطواريء ، فقد كان من الطبيعي أن توضع إدارتها في معظمها بيد الضباط البريطانيين مع قليل من الضباط المصريين، رغم تزايد أعداد المدنيين البريطانيين في االسلك الإداري . غير أن القوات المسلحة في السودان كانت تتألف جزئيا من كتائب سودانية على رأسها ضباط مصريون، وجزيئا من وحدات مصرية، ومن عدد قليل جدا من الجنود البريطانيين. وهذا ما أكد خطورة تمرد القوات المصرية بالسودان ، وفسر جدية إنذار اللورد اللنبي للحكومة المصرية.
وكانت رحلتي بالقطار من وادي حلفا للخرطوم محفوفة بالمخاطر بالنظر إلى الظروف التي خلقها ذلك التمرد المصري، وما سمعته من أن كتيبتين مصريتين كانتا في طريقهما شمالا في ذات يوم رحلتي للخرطوم. وفي الخرطوم قابلني في محطة السكة حديد موظف من مصلحة التعليم اسمه بيني فيليد ، أخبرني فور وصولي بتمرد الكتيبة العاشرة السودانية، والتي كان يقودها ضباط مصريون، وأن الموقف جد خطير، وأن الجنرال هدلستون ، نائب السردار ، قد اتخذ قرار بإخماد التمرد بالقوة المسلحة الرادعة. وكان المتمردون قد استولوا على المستشفى العسكري، ولكن جثثهم الآن تملأ أرجاء المنطقة حول المستشفى ، بعد أن فر قادتهم من أرض المعركة سباحة في النيل ، وأن الجنود البريطانيين يحتلون كافة الأماكن الحساسة بالمدينة ، بينما جمع كل البريطانيين بالمدينة في قصر الحاكم العام. وختم تنويره لي بقوله : “سآخذك الآن إلى الجنرال هدلستون في مركز قيادته الرئيس”.
وصلنا قبيل المغرب مقر الجنرال هدلستون (وهو مبني ضخما من الطوب الأحمر نصب بينه وبين النيل تمثال لكتشنر وهو على ظهر حصانه) ، ووجدته محاطا بكبار الضباط وهم يتناقشون في جدية بينة. ولم أشأ أن أقطع حبل نقاشهم وتفكيرهم، فبقيت في الفرندة، بحيث يروني عند انفضاض اجتماعهم. وبعد مرور فترة من الزمن أتى صوت القائد يحيني ويعتذر بأنه رآني ولكنه ظن أني أحد الحراس من الفرقة الأسكتلندية (ارجايل Argyll) حتى لاحظ أنني أرتدي تنورة غردون (Gordon kilt). لم يكن الجنرال هدلستون هو القائد العام الجديد لقوة دفاع السودان فحسب ، بل كان بالنسبة لي المنظم لحياتي المهنية فيما أقبل من أعوام. ويجب على هنا تسجيل أنه ما من قائد عسكري كان له مثل ذلك الأثر الذي تركه في نفسي الجنرال هيدليستون. كان رجلا فارع القامة ، وصاحب حضور آمر وطاغ ، وله في ذات الوقت طبع هاديء متحفظ ، وفطرة سليمة (common sense) لا تصدق. لقد كان رجلا متواضعا وكثير التفكر في الأمور ومالآتها، وقادرا ? بصورة مذهلة ? على القيام بحل كل أزمة أو مشكلة تعترضنا بصورة بسيطة وفعالة. يفعل كل ذلك وهو لا يعي مدى تأثيره النافذ وحضوره الطاغى على من حوله.
وأرسلني القائد العام لأمدرمان للعمل في الكتيبة السودانية التاسعة تحت إمرة المقدم بوستوك . وهناك خصصت لي غرفة خالية في بيت كان يسكن فيه ضابطان بريطانيان آخران. وعشت في ذلك المنزل حتى أبريل 1925م ، حين نقلت لفيلق الهجانة.
وغدا ذلك الفيلق مستودعا للضباط الجدد قبل توزيعهم على وحداتهم في أرجاء البلاد المختلفة. وسرعان ما أطلق عليه الضباط “مدرسة بوستوك للغات”. كان أول ما تعلمناه أن أهم شيء في مهنتنا الجديدة هو الحصول على معرفة كافية بأساسيات اللغة العربية الدارجة. وكان الجنرال هدلستون مدركا وواعيا لأهمية ذلك فقام باستدعاء ضابط شرطة من مدني اسمه الرائد بييز للقيام ، في غضون شهور قليلة ، بتأليف كتاب سهل للبمباشية (المُقَدَّمين) يحتوي على رسومات أساس تشرح الكلمات والقواعد العربية بطريقة مبسطة. وذهل الرائد المتواضع بييز من طلب الجنرال هدليستون فقال له في قلق: “ولكني يا سيدي آخر شخص يمكن أن تطلب منه القيام بهذا العمل ، فمعلوماتي فيه محدودة جدا” . فرد عليه الجنرال هدلستون بالقول : “أريد رجلا غبيا ليؤلف كتابا لرجال أغبياء”. وانتهت المقابلة بهدير من الضحكات المتبادلة . وبعد شهور قليلة أخرج الرائد بييز كتابا مفيدا وعمليا جدا، رغم أننا لا يمكن أن نصفه بأنه كتاب متعمق في قواعد اللغة العربية وجناسها وذخيرتها اللغوية .
وأذكر جيدا أن الجنرال هدليستون أوصاني في اجتماعي الثاني معه بالاحتفاظ دوما بمذكرة صغيرة أسجل فيها كل كلمة أسمعها ، وأن أتأكد من معناها لاحقا. وأوصاني أيضا بأن أقتصر في تعلمي للعربية على الكلمات التي أسمعها، وهذا ? بحسب رأيه ? ما سيمنحني معرفة عملية بتلك اللغة. حمدت للجنرال لاحقا نصيحته تلك وأنا أصعد جبال الهملايا مع الرعاة ، حين تعلمت مبادئ لغتهم في أسابيع قليلة بذات الطريقة التي تعلمتها من الجنرال هدليستون.
وقضيت الفترة بين نوفمبر 1924م ونهاية مارس 1925م في تعلم اللغة العربية ولساعات طويلة كل يوم ، كنت خلالها أداوم على الاستماع للجنود وهم يتحدثون، وبالتعاون مع ضابط دينكاوي تخرج حديثا في كلية غردون. كان تعلم العربية الدارجة بالنسبة لي عملا شاقا ، إلا أنني كنت رغم ذلك أجد وقت فراغ أصرمه في صيد القَطَا، وفي الابحار في النهرعند المساء مستمتعا بشتاء السودان وبمنظر مجموعات البط البري والأوز وهي تصطف في مواجهة أشعة الشمس المتوهجة قبيل الغروب.
وفي نهاية شهر مارس اجتزت امتحان اللغة العربية الدارجة بعد أربعة أشهر من الجهد المكثف. ونلت بعد ذلك عطلة مستحقة لأسبوعين قضيتهما على ظهر جمل مستكشفا تلال البحر الأحمر مع زميل آخر. كانت تلك هي أول فرصة لي للتعرف على الهدندوة، وهم شعب حامي Hamitic نبيل ورائع ، ولهم شعر رأس كثيف يضمخونه بوَدَك الضأن ، مما يمنحهم رائحة مميزة. وهؤلاء هم حفدة من وصفهم الشاعر كبلنج في قصيدته الشهيرة “فيزي ويزي”، والتي خلد فيها كسرهم لحصار جنود كتشنر لهم تحت قيادة عثمان دقنة. وسعدت برؤية المزيد منهم على الحدود الإرترية عندما كلفت بقيادة حرس الحدود خلال الحرب.
وفي رحلتنا تلك عمل شباب من الهدندوة على لعب دور المرشدين ، والمشرفين على شئون رحلة صيدنا (ghillies) رغم عدم رضائهم عن مطاردتنا بأنفسنا للوعول ، إذ كانوا يؤثرون الانتظار حتى تقوم مثيرات الطرائد (beaters) بعملها. غير أننا أفلحنا في صيد عدد وافر من الغزلان ودجاج غينيا المزركش، مما أسعد مرافقينا من رجال تلك القبيلة.
وقدمت على الأبيض، حيث قيادة فيالق الهجانة ، في يوم قائظ الحرارة من شهر مايو 1925م . وكان في استقبالي الرائد رينولدز، وهو يحمل (محليا) الرتبة السودانية أميرلاي. وتناولت معه طعام العشاء تحت ضوء النجوم في مساء مثقل بقيظ النهار. وغادرت الأبيض في مساء اليوم التالي متجها لبارا على بعد أربعين ميلا شمالا في لُجَّة من الرمال كان من المستحيل في تلك الأيام عبورها بالسيارات . استخدمنا سيارة لمسافة عشرين ميلا قبل أن نكمل الرحلة ليلا على ظهور الإبل ، وسط غابات كثيفة من أشجار الأكاشيا حينا ، والكثبان الرملية أحيانا أخرى لثلاث ساعات ونصف. واستقبلني في بارا قائد سريتها الرائد آرثر شارتر. وقضيت صيفا بالغ الحرارة في بارا قائدا لتلك السرية عندما سافر شارتر في عطلته السنوية.
لم يكن معي شخص أوربي في تلك المحطة إلا مفتش المركز، كيندي ? كوك. ومن غرائب الصدف أن الرجل كان يسكن في غرفة مجاورة لي (ورفيقي هيو سيمور) في سنوات الطلب في ويريستر. وكان له في الحرب سجلا رائعا ، ويتمتع ، فوق كل هذا بروح فنية وخفة ظل.
ونشأ عن سحب الوحدات المصرية من السودان عقب اغتيال السير لي استاك ، والحل التدريجي للكتائب السودانية القديمة في الجيش المصري في عام 1924م قيام “قوة دفاع السودان”. وأقامها الجنرال السير هدلستون على خمسة فيالق غير منتظمة، كانت موجودة سلفا، شملت الشرقية، والغربية (العرب)، واللتين كانتا مسئولتين عن حفظ الأمن في مديريتي كسلا ودارفور ، على التوالي ، والهجانة في مديرية كردفان ، والاستوائية في الجنوب الأسود Black South (هكذا وردت في النص الأصلي! المترجم). أما الفيلق الخامس فكان مشكلا من سرايا خيالة (squadrons) ومشاة و مقره شندي ، التي تبعد عن الخرطوم مسافة 125 ميلا. وباستثاء فيلق الشرق (والذي عهد إليه حراسة الحدود مع الحبشة)، والفرق التي كانت تعمل في جبال النوبة، فقد نظمت القوات في شمال السودان على أساس سرايا مستقلة وغير منتظمة تستخدم خيولا وبغالا وإبلا محلية. وكانت كل واحدة من الفيالق المذكورة تتحرك في مساحة تعادل مساحة فرنسا ، مما كان يستوجب توفر قدرة كبيرة على الحركة عندها. وكانت البلاد في حالة تخلف شديد ، مما دعا قوة دفاع السودان لتسيير قوافل حربية كبيرة على ظهور الإبل والخيول لتجوب مختلف الأقاليم يتقدمها من يحمل علم البلاد ، وتقوم تلك القوات في بعض الأحايين بعمليات ضد القبائل المحاربة في جبال النوبة أو في الجنوب الأسود .
وقام السير هيبرت قائد قوة دفاع السودان (أو “الغايد” كما يسمونه محليا) بوضع سياسة ثبت أنها لعبت الدور الأعظم في نجاح القوات السودانية في حملتها في الحبشة عامي 1940 و1941م. لقد كان الرجل مدركا تماما لقدرات الجنود الأفارقة وجلدهم، وتحملهم للصعاب، وصبرهم على الحرمان من كثير من الضروريات. وكان في تدريباتهم يؤكد لهم ولقادتهم ضرورة الحفاظ على تلك الصفات الفطرية ، والتي تشكل جزءا من حيواتهم ، وعلى سلوك “الجندية” المتأصل فيهم بحسبانه شرفا عظيما.
أذكر من جنودي في كردفان رجال من الجوامعة من السهول الوسطى في كردفان. لقد جمع هؤلاء مزيجا من الدماء البنية والسوداء ، والتي يبدو أنها منحتهم ذكاء العرب ودعابتهم (humor)، وحيوية ومرح وبساطة السود . وأذكرهم وهم يتحلقون بعد تناول وجبة العشاء في المعسكر وهم يسمرون ويضحكون ويرددون أغانيهم المرحة إلى ما بعد منتصف الليل . كان هؤلاء الرجال في أمدرمان يمثلون نخبة “مشاة الخليفة Khalifa infantry ” وقامت سرية منهم، وبصورة مستقلة ، بالتصدي لكتيبة إيطالية يقودها العقيد توريلي ، مع ألف من الباندا (Banda) في معركة نهارية ، وأجبرتها على التقهقر من دانقيلا (Dangila) إلى بحر دار ، وحاصروهم لعدد من الأشهر ، وخلفهم مياه بحيرة تانا.
في شتاء عام 1926م طلب مني مفتش مركز شمال كردفان تسيير سرية من الهجانة لزيارة الناظر بالتلال الشمالية في جبل حراز. وكانت الاستجابة لذلك الطلب تعني مسيرة طويلة جدا عبر خيران شمالية، ثم قطع مسافة طويلة عبر سهوب واسعة شمال كجمر (Kagmar) حيث ترعى إبل الكبابيش الذين يتزعمهم الشيخ علي التوم . وكانت المنطقة تعج بالغزلان والريل (ril) . أخبرت الضابط السوداني عبد الله والرقباء بأننا سنقوم بجولة تدريبية مستخدمين الغزلان بمثابة أعداء لنا ، فالتمعت أعينهم من فرط الإثارة. ووضعت لهم خطة طريفة تقضي بأن من يلمح غزالا من على ظهر جمله، يتعين عليه أن يطارده ، على ألا يصوب إليه النار إلا من مسافة مئة ياردة . وكل من يطلق النار من مسافة تزيد على ذلك سيغرم ريالا كاملا (10 قروش). وعند شرحي للخطة أطلق الجميع عاصفة من الضحك المتواصل. ثم سرت مع هؤلاء الجنود وأنا في غاية الانبهار بمهاراتهم وروح المنافسة عندهم . وكانت حصيلة ذلك التدريب ثمان من الغزلان ، و80 قرشا من الغرامات ، مع كثير من المتعة والضحكات!
ولما قربنا من مركز جبل حراز، قمت بجمع كل القوة وهي ترفع أعلامها ودخلنا بلدة الناظر. غير أن مفتش المركز كان قد نسي أن يخبره بمقدمنا ، فظهر القلق على وجه الناظر صاحب اللحية البيضاء الوقورة لظنه أننا قدمنا لاعتقاله. غير أنه تمالك نفسه سريعا وأقبل علينا على ظهر حصان رمادي اللون ، وقدم لنا خمسة ثيران هدية منه لجنودنا. وتمكن اثنان من تلك الثيران من الهرب ، وجاهد جنودنا كي يلحقوا بهما ويعيداهما. وقضينا اليومين التاليين ونحن ننعم بالموائد والراحة. غير أن ذلك الوقت السعيد تحول إلى حزن عميق عندما قام جمل في حالة هياج شبق (rutting) بالإمساك برقبة أحد جنودنا الشباب (واسمه إبراهيم أحمد) ومضى يهزه وكأنه جرذ صغير ثم مزق عنقه تماما . أصبنا بالصدمة ونحن نشهد تلك المأساة تمضي أمام أعيننا في ثوان قليلة . وقمنا بدفن الجندي القتيل في التلال الشمالية بالمنطقة.
وفي العام التالي استدعينا فجأة لإخماد تمرد قبيلة بجبال النوبة قامت بقتل زعيمها (المك) وعصت أوامر الحكومة ورفضت دفع الضرائب المستحقة. توجهنا للجبال على ظهور الإبل، والتي لم تكن معتادة على السير في مثل تلك الطبيعة الجبلية ، إذ أنها ألفت السير على سهول كردفان الرملية . وما بلغنا الدلنج إلا و معظم جمالنا تظلع من فرط الألم الذي أحدثته القروح في أخفافها.
وجعلنا من جبال جلد Gulud في الجنوب مركزا لتحركاتنا، وقضينا الشهور الثلاثة التالية في محاولة إخماد تمرد أكثر الشعوب تخلفا (هكذا؟! المترجم) والذين رفضوا كل عروض التهدئة والسلم، وظلوا يطلقون علينا النار من مخابئهم في الكهوف. وشددنا الحصار عليهم إلى أن استسلموا، ولم نفقد في تلك العمليات سوى عدد قليل من جنودنا . ومن ذكرياتي في الحملة أن أحد الأودية كان قد فاض ، وهاجت معه عواصف قوية . وفي غضون كل ذلك حدث هرج ومرج في معسكرنا ، وفقد قائد إحدى فرقنا في ذلك الأثناء أسنانه الاصطناعية ، فقضى الجنود اليوم التالي بأكمله وهم يبحثون في مياه ذلك الوادي عن “طقم أسنان” ذلك القائد!
وما أن انقضت مهمتنا في إخماد ذلك التمرد حتى صدرت لنا الأوامر بالتوجه نحو تلشي Telushi لإخماد تمرد جديد في المنطقة الغربية لجبال النوبة . فقر قرارنا على القيام بحملة ليلية بطلب من مفتش المركز. وقمنا بحصار القرى المتمردة في المنطقة. ولسوء الحظ تمكن بعض قادة التمرد من الإفلات من الحصار ولاذوا بالكهوف الجبلية. وأساء مفتش المركز ، جورج بريدن ، فهم ما حدث ، وظن أن فرار هؤلاء القادة مرده الخوف ، فتعقبهم ، في تهور شديد ، في أحد تلك الكهوف . ولم أشأ أن أتركه يذهب وحده في ذلك المكان الخطر فتبعته ومعي طبيب الحملة (الدكتور كوكيشانك) و أحد الممرضين . وكان الكهف يؤدي من مخرج فيه لكهف مظلم آخر . وقام بريدن بإدخال رأسه عبر ذلك المخرج فإذا بصوت طلق ناري يهز الكهف ، ويصيب وجه الرجل . غير أنه ، لحسن الحظ ، سارع عدد من رجال شرطة مفتش المركز الذين كانوا قد أتوا خلفنا (دون طلب منا) بإطلاق النار على من كانوا قد لجأوا لتلك الكهوف.
وتسابقنا نحو مخرج الكهف الضيق ، وتزاحمنا عليه ، واضطررنا أخيرا للخروج بنظام، واحدا بعد الآخر ، ونحن في نوبات ضحك متصل (لعل الكاتب يريد تأكيد صورة القائد الأوربي المستعمر و”السيوبرمان” الذي يهْزَأُ بالشدائد ويستهين بالصعاب. المترجم). وكان من حسن حظ جورج بريدن أنه لم يصب بسوء خلا تسويد وجهه بمسحوق البارود . وعندما تم إخماد ذلك التمرد نعمت تلشي بالاستقرار وشهدت ازدهارا هادئا .
وبعد أربعة أعوام في قيادة الهجانة دعاني القائد لانضم لموظفيه في الخرطوم ، وكان ذلك في ربيع عام 1929م. لقد كانت الهجانة لي بمثابة العائلة، وكان فراقها للعمل في وظيفة إدارية أمرا يبعث على الحزن. وبعد شهرين من العمل المكتبي قابلت الجنرال هدلستون وشكوت له من أنني لم أخلق لمثل تلك الأعمال المكتبية ، وطلبت منه إعادتي لقيادة الجنود في الميدان. وحاول القائد اقناعي بأنه من الضروري لتقدمي المهني أن أجيد التعبير عن نفسي على الورق ، وأن أتدرب على التنظيم الإداري للقوات. ولم أحر بالطبع جوابا على منطق (وأوامر) قائدي.
وفي تلك المرحلة من حياتي المهنية طفت ? بحكم الواجب- على كثير من المراكز العسكرية بالبلاد. وفي أيامي تلك ظل الدينكا والنوير يواصلان حروبهما الصغيرة مما استلزم تنقلي بصورة منظمة إلى مديرية أعالي النيل للفصل بين القبيلتين وتنظيم مستوطنات للنوير . وفي سبتمبر من عام 1929م قام الجنرال هدلستون بنفسه برحلة نيلية بالباخرة “المتمة” ترافقها بارجة . وكان الجنرال في صحبة زوجته ، المجيدة للرماية والشديدة الاهتمام بالطبيعة والحياة البرية. وطفت مع القائد وزوجه كل المراكز في الجنوب ، وكانت زيارة لا تنسى . وفي غضون أيامي تلك مع القائد لمست حبه للقراءة من الكتب الكثيرة التي جلبها معه في تلك الرحلة ، وعلمت منه أنه فرغ من قراءتها جميعا في أيامنا بالجنوب . وأذكر أني قدمت له تقريرا مكونا من ثلاثين صفحة عن مستوطنات النوير ، فقلب صفحاته في دقائق واستوعب ما فيه ، وطفق يناقشني فيه نقاش من أمضى ساعات طويلة في دراسته.
حزنت حزنا شديدا عندما قرر الجنرال هدلستون مغادرة السودان في نهاية ذلك العام . وكان الرجل قد بدأ العمل في السودان برتبة المقدم (بمباشي)عام 1910م، ونال شهرة عظيمة عند السودانيين عند انتصاره على (السلطان) علي دينار في معركة برنجية ، وملاحقته له في جبل مرة بقوة صغيرة ، نجحت في جمع معلومات استخبارية عن مكانه ، وقتله بغرب دارفور في فجر اليوم السادس من نوفمبر عام 1916م . وعرف الجنرال عند السودانيين بـ “هدل Huddle” و بـ “مرفعين أب حجل”، وذلك لقيامه بالتجوال ليلا وهو يرتدي طماق كاحل أبيض اللون اشتهر بلبسه لحمايته من الشوك .
أتى عقب رحيل الجنرال هدلستون جنرال آخر هو سامي بتلر، وكانت له نفس الخلفية العسكرية التي كانت لدى الجنرال هدلستون ، إلا أنه كان مختلفا عنه في كل شيء آخر تقريبا … وتلك قصة أخرى.