أخبار السودان

خُطى الأربعين الثانية ..!

شهدنا ولله الحمد داخل وطننا أزمنة جميلة على الأقل من منظور أجيالنا لماهية جمال الحياة ..وليس من العدل بالطبع أن يتحيز المرء لزمانه فقط دون أن يتمعن ملامح أزمنة الأجيال التي سبقته أو تلك التي يعيشها ابناء الزمن الراهن .
فنهر الحياة يمضي منذ الأزل تدفعه رياح التبدل الى الأمام فتتجدد أمواجه في كل دقيقة بل و في كل ثانية ومن ينتظر أن تعود تلك المياه الى الوراء فإنه لا شك ينتظر وهما مستحيلا .. ومنطق العقول السوية يقول لابد من التكيف مع فرضية تغير الأزمان بالتدوال في كل معطيات البقاء والتسليم بحتمية الفناء في نهاية مطاف الزائلة .
عشنا في وطن كان يتفيأ السلام ظلاً في أغلب فروة مساحته الوابرة و يبسط الكل تجاه بعضهم أكف التسامح ويقتسمون نبقة مشبعة بطيب الخاطر والقناعة حتى مع السابلة والأغراب ولم تكن الهجرة خيارا يداعب خيال الكل أو الأغلبية مثلما باتت هوسا يخلب الألباب !
فحتى مطلع السبعينيات من القرن الماضي كان الإغتراب في حد ه الأبعد بالنسبة لشباب قريتنا هو السفر في مهمة عمل أو تجارة الى أطراف البلاد المترامية وحينما يعود ذلك الشاب تجد القرية كلها قد خرجت لإستقباله لاسيما إن كان قادما من جبهات القتال في الجنوب على محدودية دائرة حريقها التي إستعصت لاحقا على خراطيم مياه الساسة المثقوبة ومدت لسانها لفوهات بنادق الحلول الأمنية فأكلت من يابس الهشيم وأخضر البراعم فشقت الوطن ولم تكتفي بذلك الجرح الغائر . بل ورمت بكتل لهيبها الى تخوم أخرى لا زالت تحرق الأصابع !
أما السفر الى الخارج فهو إما ابتعاثا للدراسة أو العلاج الذي غالبا ما يكون في مصر القريبة !
وحينما غادرت السودان في منتصف السبعينيات وانا في بداية العشرينيات من عمري كان عدد المغتربين على مستوى القرية بل المنطقة محدودا ..كانت خطتي أن لا تزيد غربتي عن سنة أو سنتين على أكثر تقدير .!
ثم بدأ تدفق الناس الى الهجرة بالالاف والملايين حتى غدت السفارات في الخارج لا تملك إحصائية دقيقة لآعداد مواطنيها في بلاد الشتات المختلفة !
الان تجاوزت غربتي الأربعة عقود ودخلت في أربعينية سنواتها الثانية !
اما الستون هي الآخرى قصرت خطى العمر ولكنها لم تحفزها للعودة .. !
ويظل الوطن رغم فراش الغربة الوثير وعيشها اليسير .. هو الحضن الدافي كصدر الأم .. تحلو عنده الغمضة العميقة وحينما تجلس الى الأهل عند عصرية الريف تشعر أنك ملك غير متوج ..فالناس على معاناتهم يطلقون الضحكات الصافية التي تغسل فيك الدواخل وتنعش الأمل في أن الأجمل قادم رغم كل شي ..وهم على بساطتهم يملاء نفوسهم الإيمان في غير مرآة أو تكلف .. يقهقهون فيستغفرون الله مثلما يفعلون ذلك وهم يمسحون دمعات البكاء إن هم حزنوا على فراق عزيز رحل أو سافر أو حتى مرض !
وتتسال لماذا أترك خضرة ضفاف هؤلاء وأرتمي عند الشواطي التي تعبي مسامات الروح رطوبة وتحرق لياليها الأعين بجمرات السهاد !
ثم أسرح بالبصر الحزين في فضاء المجهول وأنا أردد قائلا مكره أخاك لا بطل .. لمن يسألني .. متى تكون الرجعة النهائية ؟
إنها الظروف التي تصبح اقوى من ارادة الفرد منا وتحكمه بأن يجدد غربته وهو لايدري ماذا تخبي له الأيام في مقبل خطاها ..لكن يظل العزم قويا في أن نعود على مراكب العز صفوفا لنترجل عنها عند مواني الوطن ونجعله بوحدة سواعدنا وحسن النوايا وصدقها ًمعافً ابداً من كل سوء .
ربما حينما يلامس هذا المقال عيونكم الحبيبة أكون انا على جناح الطائر الميمون عائدا الى بلدي الثاني الإمارات .. فإن كان للسودان دين مستحق علينا ماحيينا .. فلتلك الدولة المضيافة يد قد سلفت !
ولكم مني كل المحبة .. وسيظل شوقكم ماثلا في العقل الشارد معكم واليكم وتبقى المآقي الدامعة للفراق المر تراكم وأنتم فيها والفؤاد المرتعش في لحظات الوداع ينزف حنينا قبل المغادرة حتى !
ولكن عزائي الذي يعبي النفس بدفقات اليقين والطمأنينة أن لا تنقطع عنكم سطوري المتواضعة كأضعف الإيمان بإذن الله تعالى..إن أمد الله في الآجال ..وأترككم وديعة في أمان الكريم .. وطنا و أحبة .. والى اللقاء .
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..