حول قانون التحكيم لسنة 2016 (1)

حول قانون التحكيم لسنة 2016 (1)
النهائية أم الأتعاب … كلاهما وأخريات ، ياسعادة الوزير
في عجالة واضحة ، استصدرت الدولة قانوناً جديداً للتحكيم استصدره سعادة السيد وزير العدل بمرسوم مؤقت مهره سعادة السيد رئيس الجمهورية بتوقيعه في الثاني من يناير سنة 2016 ، وأتبعه السيد وزير العدل بمقالات تناولت بعضاً من نظريات التحكيم وفلسفته ونظمه المختلفة ، وصولاً إلى آخر مقال له نشر بالصحف بتاريخ 28/2/2016 بعنوانٍ بطعم ونشوة النصر ، والاستنكار المبطن لاحتجاجات جمهور الناشطين في حقل التحكيم .
وقد ابتدر السيد الوزير مقاله هذا بالإشارة لحكم صادر عن المحكمة العليا الموقرة ? حديثاً ? ، أحد طرفيه جهة حكومية ، بما يجيب عن سؤال أساس كان يدور في أذهان الكثيرين عن السبب في تعجل السيد الوزير ، ومن خلفه الحكومة ، في إصدار هذا القانون ? تحديداً ? بمرسوم مؤقت ، دون أن تتوافر الظروف الداعية لمثل هذا الاصدار .
وإن كان ما أستقر عليه الرأي ، أن الأحكام لا تكون عرضة للنقد أو الجرح والتعديل إلا بعد صيرورتها ” نهائية ” ، بانتهاء كل مراحل الطعن والمراجعة ، إلا أن السيد وزير العدل قد فتح الباب واسعاً للتداول حول هذا الحكم ومدى صحته وخطئه ، ولكني لن أبدي رأياً فيه ? في هذه المرحلة ? احتراماً للحكم الصادر إلى أن تقول فيه دائرة المراجعة رأيها ? إن حدث ذلك ? وحينها يمكننا تناوله من جميع جوانبه .
غير أن ذلك لا يمنعنا من تناول أثرين من آثاره ، أولهما أنه قد وضع محكمة الاستئناف الموقرة في وضع لا تحسد عليه ، فهي ? أي محكمة الاستئناف ? وبموجب القانون الجديد ، قد أصبحت محكمة موضوع ? أول درجة ? فيما يلي دعوى بطلان حكم التحكيم ، ولا يمكنها بالتالي النظر ? استئنافاً ? في أي حكم صادر عن المحكمة التي كانت مختصة بنظر دعوى البطلان في القانون القديم (2005) فهي لا تملك هذه السلطة والصلاحية الآن ، إذ أن الاختصاص الاستئنافي وفق القانون الجديد ينعقد للمحكمة العليا باعتبارها محكمة ثاني درجة ، ولكن دعونا ننتظر لنرى ماهي فاعلة ، في ظل إلزامية حكم المحكمة العليا المشار إليه .
وثاني الأثرين ، قضاؤه على مبدأ نهائية حكم التحكيم ، وبالتالي اخضاعه للطعن ، وفقاً لأحكام قانون الإجراءات المدنية لسنة 1983 ، مع ما في ذلك من مثالب جمة ، لا يسع المجال لذكرها .
أما ما دعانا لهذه المذاكرة ، فهو الطريق الذي سلكه السيد الوزير في استصدار القانون ، والذي صدر بمرسوم مؤقت استناداً على نص المادة (109) من دستور السودان الانتقالي لسنة 2005 والتي تنص على الآتي : (1) ” يجوز لرئيس الجمهورية ، إن لم تكن الهيئة التشريعية في حالة انعقاد ، ولأمر عاجل ، أن يصدر مرسوماً مؤقتاً تكون له قوة القانون النافذ ……. ” .
إن هذا النص يشترط أمرين لصحة إصدار المرسوم المؤقت هما : ” أولاً ” ألا تكون الهيئة التشريعية في حالة انعقاد ، و ” ثانياً ” : أن يكون الغرض من إصدار المرسوم معالجة أمر عاجل ، فهل توافر الشرطان فيما نحن بصدده الآن ؟
لا شك أن الهيئة التشريعية كانت منعقدة عند صدور هذا المرسوم ? ولا زالت ? بحسبان أن السيد رئيس الجمهورية كان قد دعاها للانعقاد ، وإن إنفض سامرها أيام عطلتها ، فلا يعد ذلك من باب عدم الانعقاد المقصود في هذه المادة .
وأياً كان أمر الانعقاد هذا ، فإن الشرط الثاني اللازم توافره جنباً إلى جنب مع الشرط الأول ليس متوافراً في الشأن / الأمر الذي صدر المرسوم المؤقت لمعالجته ، فالتحكيم كان له قانون ينظمه ، وطرح على الهيئة التشريعية مشروع لتعديله ، وتأجل نظره واجازته بدخول الهيئة التشريعية في عطلتها المعتادة ، الراتبة ، ومن ثم ، لم يكن موضوع القانون نفسه أمر عاجلاً في معنى المادة (109/1) من الدستور الانتقالي ، حتى يسعى السيد الوزير لاستصدار المرسوم المؤقت ، ولن يقنعنا السيد الوزير بدعوى حماية المستثمرين ، لأن حماية المستثمرين تتمثل / بل يحققها استقرار الأوضاع القانونية ، وديمومتها ووضوح فلسفة التشريعات والقوانين المنظمة للنشاط الاستثماري ابتداء .
ولا يغيب عن البال ، أن الشرطان يلزم توافرهما معاً حتى يصار إلى المرسوم المؤقت ، وقد رأينا عدم توافرهما معاً ، أو منفردين ، بما يسم هذا المرسوم يعيب مخالفة الدستور .
اما الأمر الآخر في لزوم هذه المذاكرة ، فهو ذاك المعنى الخفي ، في عنوان مقال السيد الوزير ، ونقصد به أتعاب المحكمين ، وإذ حدد القانون الجديد مساراً لتحديد هذه الأتعاب بالنص في المادة (19) منه على أن تحدد مقاديرها وكيفية سدادها باتفاق طرفي النزاع ، أو وفقاً للجدول الملحق بالقانون ، والذي منح الوزير سلطة تعديله من وقت لآخر ، فإن ذلك مما يحمل على التعليق بأن هذه المادة قد تجاهلت المحكمين أنفسهم ، وأقصتهم من أن يكون لهم دور ? ولو بالموافقة أو الرفض ? في تحديد أتعابهم !!
وفضلاً عن ذلك ، فقد منح القانون السلطة التنفيذية حق التدخل في تحديد أتعاب ” عمل حر ” ، وفقاً للجدول الذي ظهر لأول مرة ممهوراً بتوقيعات السيدين وزيري العدل والمالية !! ، وهذا مما لا يجوز لا عقلاً ولا منطقاً ، ولا قانوناً ودستوراً .
وثالثة أثافى هذه المادة ، أنها تفتح الباب واسعاً ، وتعبّد الطريق وتمهّده لمن يسعى للتعطيل والمماطلة والتسويف برفض أي اتفاق أو توافق بشأن أتعاب المحكمين ، بعد استنفاده وسائل التعطيل والتسويف الأخرى التي يكون قد مارسها وصولاً إلى تشكيل هيئة التحكيم ، وانتظاراً لمرحلة أخرى من المماطلة والتسويف والتعطيل بعد صدور حكم التحكيم ، بالطعن فيه وصولاً إلى مرحلة المراجعة ، حيث أنهى هذا القانون مبدأ أو ميزة نهاية أحكام التحكيم من حيز الوجود .
ومما تجدر الإشارة إليه لزوماً ، أن ممارسة أو القيام بمهمة التحكيم ، تعد عملاً حراً لا سلطان لأحد على من يتولاه ، سوى المطلوبات العامة فيمن يتصدى لها ، ولا يسع المجال لذكرها هنا ، وهذا يقودنا إلى تأكيد حرية المحكم في تقدير أتعابه في حدودها المعقولة وفق الضوابط المتعارف عليها في كل مهنة ومجال ، من حيث الخبرة والدراية والكفاءة والتخصص وما إلى ذلك من موجهات تقدير الأتعاب / المقابل مع الوضع في الاعتبار طبيعة النزاع محل التحكيم .
وإذا ما نظرنا إلى الجدول الملحق بالقانون ? ومع الوضع في الاعتبار التغيُّر الدائم والمتسارع في قيمة العملة السودانية ? نجد أن ثلاثة من المحكمين ? مهما بلغت مقاماتهم يتقاضون تسعة آلاف من الجنيهات ، في نزاع قد يكلفهم وقتاً وجهداً لا يتسق مع المبلغ المحدد ، فهذا الجدول لم تراع فيه إلا القيمة المادية للنزاع قيد النظر .
إن الجداول المحدِّدة لأتعاب المحكمين ، هي مما تعارفت عليه مراكز التحكيم ، ولا شأن للحكومات بها ولا سلطان لها حتى تبادر حكومتنا بالحاقه بقانون التحكيم .
ولعل أخطر ما أنطوى عليه هذا القانون ? بصرف النظر عما احتواه من تناقضات ، ومن غياب تام لفلسفة محددة ، هو أنه يفتح المجال واسعاً لتطويل أمد المنازعات ، بما ينفِّر الكافة من اللجوء للتحكيم ، حيث سلبه أهم ميزة من مميزاته ألا وهو سرعة الفصل في المنازعات ، ويهزم فكرة الدولة الداعية لجذب الاستثمارات الأجنبية ، فما من عاقل يدخل في مثل هذه الدوامة التي خلقها هذا القانون ، الذي أصبح عامل طرد مباشر لكل من يفكر في الدخول إلى عالم الاستثمار في السودان .
لقد أصبحنا بفعل هذا القانون ، نعيش في جزيرة معزولة عن محيطنا الاقليمي والدولي فيما يلي تشجيع الاستثمارات الأجنبية وجذبها وخلق مناخ مناسب للتحكيم الدولي ، وكل ذلك ناتج عن العجلة وعدم التبصر ، وتهميش الرأي الآخر ، الذي تم تسفيهه بجرة قلم .
إنني ، وغيري ممن يهمهم أمر التحكيم في هذه البلاد ، ندعو من يعنيه الأمر ، أن يراجع ما حدث ، وأن يتدارك الأمر قبل فوات الأوان ، ولات ساعة مندم .
ولنا عودة إن شاء الله في مقال آخر ، بياناً للعوار الذي اعترى قانون التحكيم لسنة 2016 .
نصر الدين حسن محمد
المحــامي
والناشط في مجال التحكيم
[email][email protected][/email]