وَقـفـةٌ بَـيـْن أطمـاعِ القياصِـرة وأحلام السلاطين ..

أقرب إلى القلب:

(1)
لعلّ التاريخ لا يفتأ يعيد وقائعه، في صفحات تتجدّد، وبأقلام حبرها طازج وفي صحفٍ لم ولن ترفع بين حقبة وحقبة. ليس ذلك فحسب، بل أن شهود تلك الوقائع يتجدّدون على نحو مماثل. من شارك في الحدث ومن حدث عنه ومن كتب له أن يشاهده ويقرأه مكتوبا ومسجلا، في تجليات تستصحب ما أتاحت ثورة الاتصالات الرقمية من أساليب للعرض وللمشاهدة. لكن للواقع الماثل منطق مغاير. ليس ممكناً استنساخ التاريخ من التاريخ، ولا سلطاناً من سلطان، ولا قيصراً من قيصر.
لقد شهدتْ منطقة الشرق الأوسط، ومنطقة “آسيا الوسطى” القديمة، حروبات سجّلها التاريخ منذ القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر، بين روسيا وتركيا بعدها انهارت تدريجياً دولة الخلافة العثمانية. ذلك بلغة التاريخ، كان صراعاً بين القياصرة الرّوس في موسكو وبطرسبورج، والسلاطين الأتراك في عاصمة الخلافة العثمانية في اسطمبول. تمضي السنوات والحقب والقرون، لكن تظلّ المطامع في الوصول إلى المياه الدافئة، وبما تستبطن من طمع في الموارد، تشكل أهدافاً تشغل الذهنية الروسيّة، بما يشبه الوسواس المزعج.
(2)
إن إسقاط الطائرات التركية لطائرة روسية في نوفمبر 2015، تشكل مشهداً حياً، لصراعات تاريخية، تجاوز عمرها القرنين، وأن وراء الحادث تراكمات من الصراعات التاريخية، حضرت بقوة لتعطي الحادث بعده التاريخي العميق. فإن كانت تركيا وجدت أصدقاء لها خلال حرب القرم قبل نحو قرنين، في بريطانيا وفرنسا، فإنها الآن تتكئ على صداقة أنقرا مع واشنطون. يكفي أن نرى رمزية هذه العلاقة في قيام الطائرة التركية، وهي من نوع إف 16 الأمريكية، بإسقاط طائرة السوخوي الروسيّة. إن الغضبة الروسية من أنقرا، ليست حول طائرة أسقطت، بل تقرأ جيداً إلا على خلفية هذه الصراعات المتراكمة عبر التاريخ.
(3)
الجدير بالملاحظة أنّ القتال في سوريا، يعكس إلى حدٍّ ما تلاقٍ في ظاهره، بين الأجندا الأمريكية والأجندا الروسية، فيما يتصل باحتواءِ أطماع فلول “داعش” لإنشاء دولتهم الإسلامية، أو محاربة الإرهاب الدوليّ، لكن لروسيا أجندا خفية تتقاطع مع الأجندا الأمريكية، وتستهدف الحفاظ على شرعية نظام الأسد في دمشق. تتقاطع الأجندات هنا وهناك، فيما ترتبك السياسة التركية، فلا تظفر باعتذار من موسكو بشأن تغوّل طائراتها في أراضيها، ولا تبدي واشنطون تعاطفا صريحاً في قيام أنقرا بإسقاط الطائرة الروسية. موسكو من موقعها تتكئ على تاريخ موغل في العداءات التاريخية مع أنقرا .
(4)
إن كانت لتركيا أحلام لاستعادة مكانتها التاريخية القديمة، كونها مهد الخلافة الإسلامية، فتلك أحلام لن تخرج إلى واقع متوتر بخلافات مذهبية، ضاربة في أعماق معظم بلدان الشرق الأوسط. هي أحلامٌ تسكن في كتب التاريخ. فيما لا ينبغي لأنقرا أن تنخدع بقلة حيلة أكثر البلدان الإسلامية في منطقة الشرق الأوسط، إزاء الأطماع الرّوسية المتعاظمة، فليس لروسيا أن تعوّل كذلك، على نظامٍ في دمشق، عموده أسـدٌ محاصر في عرينه، وشرعته استبدادٌ مستفحلٌ آيلٌ إلى انهيار..
(5)
من التناقض أن نرى في الرّبيع العربي الذي تمدّد من المشرق العربي إلى مغربه، عواصفَ لم تهدأ إلى الآن، وأنّ خفوت الصوت العربي حول الذي يجري في أرض الشام، حان أوان علوّه، وأوان أن تتصدّى الجامعة العربية للقيام بدورٍ فعال، يعيد إليها صحوةً مطلوبة، بعد الإغفاءة الطويلة التي ولجتْ إليها بعد الرّبيع العربيّ. لن يكون الآخرون- قياصرة كانوا أم سلاطين- هم وحدهم المعنيون بإصلاح أحوال الشعوب في المنطقة، أو بالتصدي للمهدّدات الماثلة. لشعوب المنطقة وحكوماتها أن تتصدّى ليس لوقف نزيف الدم في الشام فحسب، ولكن أن يتواصل دورها الأصيل في احتواء الارهاب الدولي الذي يتحايل بالتزييّ بثياب الإسلام.
وفي ذات الوقت ينبغي لزاماً التنبه لأمرين:
أولهما أن لا تفسح تلك الشعوب والزعامات، مساحات لأجندات الطامعين،
وثانيهما أن لا تنزلق وتنشغل بصراعات مذهبية، تذهب بريح جهودها.
وتبقى للسياسات قدرتها على الحسم والحزم..
++++
كارديف – 9 أبريل 2016. .
[email][email protected][/email]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..