كتاب شاعران من وادى النيل !؟ الحلقة ” 9 “

كتاب :
شاعران من وادى النيل
( الطيب السراج وعباس محمود العقاد )
تأليف بروف/ حدديد الطيب السراج
إستعراض د.فائز إبراهيم سوميت
عضو منتدى السراج الأدبى , ابى روف ? أمدرمان
( قبل أن ادخل فى الحلقة التاسعة من كتاب شاعران من وادى النيل أتمنى لمؤلفه الصديق الخلوق بروف/ حديد الطيب السراج عاجل الشفاء من الوعكة الحادة التى ألمت به , وهى ترتبط إرتباطا كاملا بالجهد الذى ظل يبذله فى نكران وتجرد نادران بروف/حديد فى تأدية من أمر الوظائف المتعددة التى يضطلع بها , أتمنى له وكذلك معى دعوات القراء الكرام عاجل الشفاء وأن يعود اكثر معافاة وأكثر عطاء فى زمن قل فيه العطاء )
الحلقة رقم ( 9 )
فى الحلقة السابقة :
تناولنا ما أختطه يراع الأستاذ الشاعر الأديب الكاتب بابكر أحمد موسى , وهو من طلائع الجيل الواعى الذى حمل الرسالة صابرا جلدا فأداها فأحسن الأداء وهو من المعلمين الصادقين أولى العزم ومن الأدباء العاملين أولى الإبتكار والخلق حيث روى ولازلنا نسترسل فيما رواه فى مقالاته سيرة شيخنا الأستاذ السراج وقد صحبه زمنا طويلا وإتصل به إتصالا متن من معرفته عن كثب وسيجد القراء فى هذه الفصول متعة أدبية وسردا قصصيا راقى الديباجة فإلى هذه الحلقة الممتعة من حلقات كتاب : شاعران من وادى النيل لمؤلفه بروف/حديد الطيب السراج ..
فى هذه الحلقة نواصل ما إنقطع من إسترسال الأستاذ الأديب بابكر أحمد موسى من سيرة السراج : ( رأيت السرا جى ? أول ما رأيته ? على صهوة جواده , وقد ركضه فى أحد الشوارع العامة بأمدرمان , وهو فى زيه العربى الذى ليس كسائر الأزياء .. فى قبائه الفضفاض وعمامته الضخمة الخضراء , غير أنى لم أتبين وجهه حينذاك .. كنت يومئذ لا أزال طفلا فى المدرسة الوسطى , ويبدو انه لم يلبث أن نقل إلى عطبرة , حيث بقى بضعة اعوام .. ثم جاء إلى أمدرمان . وكنت يومئذ طالبا بكلية غردون التذكارية فى أواخر سنة 1939 م , وقد أخذت اهتم بالأدب .
كنت أتمشى ذات مساء ? يواصل الأستاذ بابكر فى مذكراته ? على الشاطئ بالقرب من داره , فإذا بى إلتقى بأحد أصدقائى ? لاأزال شاكا ? أهو الأستاذ محمد كرف , أم الأستاذ حسين حمدنا اللة .. فعلمت منه أنه ذاهب لزيارة السراجى , وعرض على الذهاب معه , فتقدمنا إلى باب داره , وطرقناه , فلم نلبث أن جاءنا بنفسه , ورحب بنا .. لم يكن زيه هو وحده الذى يختلف عن سائر أزياء الناس الذين عرفتهم , بل إن منظره كان أيضا غريبا على .. كان أروع ما فيه وجهه .. كان يسع من عينيه بريق عجيب , وكانت لحيته السوداء وجبينه الصقيل , وشعره المسبل , وحركاته الخفيفة .. كل اولئك جعلنى أحس أننى أمام رجل نسيج وحده .. فى أنسه , وتخيره الألفاظ وقوة جذبه المستمعين إليه , وتفننه فى الحديث ? كان كل ذلك شيئا جديدا بالنسبة إلى .. كنت يافعا متطلعا , أواصل القراءة بنهم , لا يكاد يفلت من بين يدي , منذ سنة 1936 م عدد من أعداد ” الرسالة ” كنت أقراء أاول ما أقراء فيها الشعر : شعر عبد الرحمن شكرى , وجميل صدقى الزهاوى , وفؤاد بليبل , وغيرهم . ثم ارجع إلى مقالات الزيات , وتوفيق الحكيم والعقاد , وأحمد أمين وطه حسين وغيرهم .. ولما ظهرت ” الرواية ” لم يكد يفلت منى عدد منها وكنت كذلك ألتهم أعداد مجلة ” أبوللو ” القديمة وكانت لى فى الشعر محاولات منذ المدرسة الوسطى , أعرضها على أستاذى عبد القادر إبراهيم والهادى أبوبكر .. فلما التقيت بأستاذى السراجى شعرت أنى ألتقى بشخص لايمت إلى هذا العصر بصلة لا فى زيه ولا فى منظره , ولا فى نظرته إلى الحياة , أو فى الأدب والعلم . إنه يكاد يكون جاهليا فى كل شئ إلا فى زيه الذى ذكر لى أنه ” عباسى ” ? أستغفر الله ? لقد كان فى الحقيقة مزيجا عجيبا من العصر الجاهلى , والإسلامى , والعباسى , والتركى , والحديث بما فيه ” أوروبا ” أيضا على تفاوت فى نسب المزج .. وكانت طريقة أنسه أعجب الطرق التى شهدتها .. كان فى حديثه يمزج كل شئ بكل شئ .. لايتقيد بموضوع خاص , بل يسترسل حيثما قادته المعانى والألفاظ . فقد يخرج من شعرجاهلى إلى شعر عباسى إلى شعر حديث إلى شعر إنجليزى من نظمه , إلى دوبيت من كل العصور بلا إستثناء , أو تفسير لبعض مفردات الأشعار بلحنه العجيب الذى لم يكن لديه شك أنه هو نفس اللحن الذى كانت تردده العرب , أى الذى كان يردده : بشر بن أبى الحزم , ودريد بن الصمة , وعنترة بن شداد , وأضرابهم .
ولعمرى , لئن كان شئ يشبه العرب , فإنه ذلك اللحن السراجى .. وربما تساءل القارئ الكريم , كيف إجتمعت هذه التناقضات فى هذا الرجل الفريد ؟ لقد تخرج السراجى فى مدرسة أمدرمان الوسطى 1912 م , ثم إنتظم فى سلك الحكومة ? كما يقول صاحب شعراء السودان ? إنتظم كاتبا بالقلم الأفرنجى بمصلحة الأشغال , حتى ضمت إلى مصلحة السكك الحديدية . .
( وما برح منذ تخرج من المدرسة يشتغل باللغة الإنجليزية حتى عام 1916 فأجادها .. على أنه كان فى هذه المدة , ومذ هو بالمدرسة يعنى بحفظ لغة العرب .. فولع بها ولوعا قد خالط لحمه ودمه , فالتفت إليها , ورغب فى مطالعة كتبها , فحاز فيها قسطا وافرا من النحو والصرف واللغة والبلاغة والشعر والنقد , ومن السير والنوادر والأمثال . هذا وليس سهمه فى الفقه بمنيح , ولا فى التاريخ والحديث بوغد أو سفيح ? كل ذلك دون الإستعانة بأستاذ )
هذا ما رواه عنه صاحب شعراء السودان , قبل سنة 1920 م لما رآه حينذاك .. فكيف لو رآه بعد أربعين عاما , جرب فيها السراجى من ألوان الحياة ما جرب , ودرس فيها من أسرار اللغة ما درس ؟ ..
وكيف لو سمعه ينشد شعره الرصين بلحن العرب , الذى سمعهم ينشدونه فى إحدى الرؤى , وقد شجى الزمن صوته , وصقل تجاربه وزاده السفر الكثير والدرس الطويل علما على علم .. ليس ما اكتبه اليوم عن السراجى بدراسة لعلمه , ولا بسيرة له .. وإنما هى خواطر وجدتنى مندفعا ? فجأة ? إلى كتابتها على عواهنها فتحليل مثل هذه الحياة الحافلة , والعلم الغزير , إنما يحتاج ان يكون لدى المرء جميع آثاره ( التى لاتزال مغلقة عليها غرفته بالشمع الأحمر) ..
ليس من آثار السراجى إلا ما هو أقل من القليل .. فقد كنت أزوره بإنتظام , منذ إلتقينا سنة 1939 م إلى ما قبل مصرعه بثلاثة أيام , وقد يمضى أسبوع دون ان نلتقى .. ولكنه لم يكن ممن يحبون التعليم المنظم , لأنه يكره القيود بكل أنواعها .. فكان أقصى ما يطمع فيه أصدقاؤه من العلم المنظم أن يقبلوا عليه بأسئلتهم فيما استعصى عليهم من كتب اللغة والأدب وتاريخ العرب .. أو أن يفيدوا من علمه الجم الذى يتدفق خلال قصصه التى لاحصر لها , مما قراء ومما جرب بنفسه ..
فى الحلقة القادمة : نواصل فى مذكرات الأستاذ بابكر أحمد موسى

[email][email protected][/email]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..