حِينَ مِعْراج

سألتُ الكريم سرَّا وجهرا ألا يجلس قُربي.. سأتحاشى “خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا” وسأكتفي بالصلاة في الصف الثاني بمحاذاة الجدار؛ لأسند ظهري وأنا أتمتم بالباقيات الصالحات.. وليغفر عالم النوايا اضطراري وزلّتي وألا يجعلني ممن لا يزالون يتأخرون حتى يؤخرهم الله..
رأيته يدلف المسجد.. تجاوزني حتى اتّخذ مكانًا في “خير صفوف الرجال أولها”..
رفع كفيه يناجي ربّه بهسيس له صفير.. يتأرجح بالدعاء يمنة ويسرة فتخاله طالب “خلوى” متحلقا حول “نار التقابة”.. يعدّل جلسته.. يرتفع بمؤخرته عن الأرض قليلاً.. يمد يده خلف رقبته.. يمسك بياقة الجلباب ويشده للأعلى، يهيء نفسه للتمايل هذه المرة أمامًا وخلفًا.. كل ذلك يشعرني بالضآلة أمام نفسي الجوفاء.. يذكرني بصديقي العبّاس، تتسمع وأنت ساجد قربه كل أحوال بيته وأسراره.. يسأل المولى بخلاف العفو والعافية والجنة كل شيء.. يسأله “ملح الحواشة” و”قروش اللقيط” وأن تلد بقرته “الحميرة” أنثى هذه المرة.. يسأله كل شيء..
تنحنح المؤذن الجديد.. قفز نحو المايكرفون جذلا لإقامة الصلاة.. تراصت الصفوف خلفي.. لا يهمني أمر اعوجاحها كثيرًا فأنا لست فيها.. فقط يهمني أن يُنعم الفعّال لما يريد بالنظر إلى صفي هذا و”خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا” المتراص أمامي”.. وقف إزائي مباشرة.. لا أدري ما الذي جعلني أتذكر في تلك الهنيهة نظريّة “الخطان المتوازيان”.. وقبل أن أفيق من الذكرى سمعته ينادي عليّ من “خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا” بأن أتقدّم؛ فثمة فرجة بجانبه تحتاج لإتمام.. بجانبه تمامًا.. وددت لو ساخت قدماي في الأرض كفرس سراقة بن مالك؛ لكان ذلك أهون عليّ من تذكيري بضآلتي وضحالة روحانيّاتي حيال مناجاته.. لم يتقدم أحدهم لإتمام “خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا”.. شعرت أنّ ثمة مؤامرة حيكت ضدي مع سبق الإيثار وحب لأخيك ما تحب لنفسك.. وكزني أحدهم وبقفزة واحدة هبطت “بجانبه تماما” على “خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا”.. رأيته بين الإقامة وتكبيرة الإحرام يبتهل مُتبسمًا.. غاظني.. بل حسدّته.. أتراه بُشِّرَ بإجابة دعوته..؟
وبتنافس محموم رحت أتمتم مبتهلا بسرعة.. وبلا أيّ مقدّمات سألت المولى الكريم أن تضع زوجتي حملها بلطف وأن يجعلَ تحتها سرِيّا، وأن يرتفع سعر النفط الذي دفع كفيلي وربّ عملي لخصم عشرة في المئة كاملة من مرتبي تحت دعاوى أنّ العالم ينهار، بل وعلى طريقة صديقي العباس سألته أن يبارك لي في حزمة باقة الإنترنت التي اشتركت فيها البارحة.. سألته كل شيء.. ألسنا نقف على صعيد واحد وتحت كنف رحيم واحد؟ ألسنا متحاذين في “خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا”..
لن أدعه.. سأضربه تحت الحزام.. سأبدي له خارجًا ملاحظة أنّي أراه يبذل جهدًا حركيًا لافتا للنظر وهو يناجي ربّه، وسأتفذلك قليلا بأنّ أُلقمه حجرًا بمقولة أنّ التقوى هاهنا وأشير ساعتها إلى قلبي، وأنّ الله يُبصر ما في الدواخل ويسمع دعاء الصم والبُكم والمشلولين.. سأختتم مرافعتي بجملة “هوّن على نفسك” كضربة قاضية.
لم أسمع تكبيرة الإحرام.. سأرسب إن سألني أحدهم عن السورة أو الآية التي قرأها الإمام في الركعة الأولى؛ قلبي كان منشغلا بالحرب التي أوقدتها ضده؛ فالحروب التي تدور في القلب دائمًا ما ننتصر فيها..!
سلم عليّ بعد تمام الصلاة كعادة كل سوداني في الغربة.. أحجمت عن الخروج معه.. غادرت “خَيْر صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا” إلى الخلف.. تعمّدت التأخر في المسجد وتلكأت لِواذًا بركعتي النافلة..
فاجأني وقوفه بجانبي وأنا أحاول انتعال “شحاطة” قديمة لا تتناسب وسُمعة المُغترب وبخور العود الذي يضوع في أنحاء المسجد الفخم.. سرنا خارجًا.. أعاد السلام تارة أخرى وبدارجة سوادانية طفق يسأل:
(كيفك؟ من وين في السودان؟.. بالله من الجزيرة!! ما شاء الله.. الليلة إجازة طبعا.. آي الإسراء والمعراج.. داير أقول ليك شنو.. بالصلاة على النبي.. آي إنت عارف يا الحبيب إنو معجزة الإسراء دي عندها جانبان من جوانب العبرة؟ أول حاجة كانت تطمينًا للرسول صلى الله عليه وسلم بعد وفاة عمو أبو طالب وزوجتو خديجة، وأذيّة ناس الطائف ليهو..)..
سكتَ قليلا.. فكرت أن انتهز السانحة لأشن حربي وأسدد جملتي القاضية.. ترددت حين تذكرت أنّ الله لاَ يُحِبُّ الجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ القَوْلِ.. أحجمت عن القول.. خشيت – والخشية خوف مقرون بالمحبة- أن يعطيني درسًا في كيفيّة الشكر بالجوارح، واستفراغ الطاقة كاملةً في طاعة القدير قبل أن يفحمني بقول المصطفى: “أفلا أكون عبدًا شكورا”..
لم يمهلني وقتًا لاستعادة رباط جأشي.. عالجني وبلغة فصيحة: (والمعنى أنّه لو أغلقت القُرى أبوابها في وجه دعوته؛ فإنّ الله قد طوى له الأرض طيًّا ليصل المسجد الأقصى في لحظات من الليل، وفتح له أبواب السماء ليعرج إليها.. يا أخي “سبحان الذي أسرى بعبده ليلا” وجعله يؤم الأنبياء عليهم السلام في بيت المقدس.. كان صلوات ربي عليه أمام “خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا”؛ لأنّه أخيرهم..
سكت ليبتلع ريقه قبل أن يسترسل: الجانب الآخر من معجزة الإسراء والمعراج يتعلق باختبار تصديق الناس وإيمانهم برسالة النبي وقدرة الله.. الإسراء كانت رحلة أرضية في لمح البصر من مكة إلى بيت المقدس، والمعراج رحلة سماوية من بيت المقدس إلى السماء السابعة إلى مستوى لم يصل إليه بشر من قبل، إلى سدرة المنتهى، نجح أبوبكر في الاختبار فلُقِّب بالصدّيق.. يا سلااااام الله قادر.. المِنح بعد المِحَن.. العطايا بعد البلايا.
خطوات ووجدت نفسي أمام المنزل.. أشعرته أنّ قافلتي حطّت رحالها هاهنا.. دعوته لتناول قهوة.. اعتذر بلطف واستدار عائدًا نحو أول الشارع.. وقبل أن يكمل خطوته الثالثة التفت قائلا:” حاول ما تفوِّت صلاة الصبح دي يا زول.. لأنّو أجرها عظيم.. ولازم تزاحم الناس في الصف الأول.. آي.. لأنّ الرسول قال: “خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا”)..
[email][email protected][/email]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..