مقالات سياسية

من بريطانيا.. درس في الديموقراطية ودولة المؤسسات ؟!

نكتب اليوم عن حدث يبعد جغرافيا عن السودان آلاف الأميال لكنه بحسابات عالم اليوم فإنه وثيق الصلة بما يجري في بلادنا. وما نكتب عنه اليوم مفاده أنه لم يعد أي فرد أو أمة بمعزل عما يدور في الجيران أو ما يدور في قارة اخرى بعيدة عنه.. فقد صار العالم في عصر الاتصالات والفيمتو سكند قرية كونية صغيرة، تتداخل احداثها دون الاستئذان من احد. اكتب اليوم عن الاستفتاء الذي بمقتضاه قررت بريطانيا أن تحمل حقائبها قريبا وتودع شئون البيت الأوروبي الكبير منصرفة لشأنها الخاص.
لظرف صحي طارئ لم استطع الذهاب لمركز التصويت والإدلاء بصوتي- علماً أن المركز غير بعيد من حيث أسكن وأسرتي. لكني تحاملت على نفسي وسهرت أمام القنوات المختلفة حتى ما بعد السحور ثم صليت الفجر ونمت. صحوت لأجد أن معسكر خروج بريطانيا من البيت الأوروبي قد كسب الجولة. لم تدهشني نتيجة التصويت لصالح معسكر الخروج رغم إنني كنت سأدلي بصوتي لصالح البقاء في الكيان الكبير لأسباب أحسبها مقنعة. لكن ألشيء الذي أعجبني – وأظن أن الكثيرين من المهاجرين أمثالي قد أعجبوا به- ذلك الأسلوب الحضاري الراقي الذي تميز به العرس الديمقراطي أثناء وبعد عملية الاستفتاء.
أصبحنا والحياة تسير كما هو مخطط لها. لم يقم أحد بتظاهرة فرح ولم ينصب أحد صيوانا للعزاء. لم يتبادل الساسة الشتائم والاتهام بالخيانة والعمالة والتجسس وتنفيذ (أجندة خارجية). لم يتهم أحد من المعسكرين خصمه بأنه أضر ببريطانيا (المسيحية) ! لم يحدث هذا النمط من (الردح وشغل المشاطات) لأن دولة المؤسسات لا تتأثر سلبا بهزيمة فريق وانتصار فريق آخرإلا بقدر ما يجني الشعب ثمار ما طرحه برنامج الفريق المنتصر. بل إن ما قيل عن تقديم ديفيد كميرون لاستقالته بسبب رفض الشعب البريطاني لمغامرته السياسية لم يكن خبرا تسير به الركبان. البعض يرى بأن هذا ما ينبغي أن يفعله الرجل حسب تقاليد الممارسة الديموقراطية!
جاءنا صباح جديد والمصانع والشركات والقطارات وقطارات الأنفاق والبصات والحافلات والدراجات النارية ومن يسيرون على اقدامهم- كل ذلك يعمل كما كنت أراه مذ جئت لهذه البلاد قبل عقدين من الزمان. تسير الأمور بانضباط عفوي في كل بريطانيا جراء احترام الكل للنظم والقانون. صحوت لأجد أحد أبنائي قد غادر إلى محل عمله في مطار هيثرو ليباشر عمله في مواعيده والآخر امام الكومبيوتر وكأن الأمر لا يعنيه من قريب أو بعيد. بل ربما كان سيدلي بصوته مع مغادرة بريطانيا للاتحاد الأوروبي – لست ادري- فهو لن يقول لي أي الصناديق يختار وأنا لا أسأله احتراما لحرية اختياره في التصويت كشاب نخطى ال 18 عاما.
بريطانيا – كما رأيتها وعشت فيها ليست كبيرة المساحة. إن بلادا كثيرة في ما يعرف بالعالم الثالث تفوقها في المساحة والتعداد السكاني وربما تضم بعض البلاد في العالم الثالث من الموارد أضعافا من حيث الثروة في باطن الأرض وظاهرها. لكنها – اي تلك البلاد – ومنها وطننا الأصل السودان- لا تحلم مجرد حلم أن تضاهي بريطانيا في جزء من المائة من كفالة حرية الفرد ومراعاة حقوقه وإرساء دولة المؤسسات والديموقراطية وقبول الآخر المختلف. علاوة على أن هذه الجزر صغيرة المساحة مقارنة ببلادنا لها وزنها في العالم أضعاف اضعاف ما يمكن ان نحلم به بسبب تفوقها الصناعي. لقد وضح لي البارحة أن مراكز الأمم تقاس في هذا العصر بتقدمها العلمي والصناعي وباستقرار مؤسسات الحكم الراشد (واعني بالحكم الراشد – دون لف ودوران – الديموقراطية كنظام اتفقت شعوب العالم على أنه أفضل نظم ادارة شئون البلاد. وأنها افضل نظام لمشاركة الفرد في ادارة الدولة ومؤسساتها والرقابة عليها ومحاسبة قادتها المنتخبين)!
بهذه المقاييس ظلت الجزر البريطانية متحدة وموحدة وظلت رغم صغر حجمها عملاقا شغل العالم ليلة البارحة في استفتاء اتضح للكل أن نتيجته سترخي ظلالها سلبا وإيجابا ليس على بريطانيا وأروبا فحسب بل على العالم كله سواء كان ذلك في إقامة تجمعات اقتصادية جديدة أو أحلاف سياسية من نمط جديد يراعي حفظ المصالح وتبادل الأدوار في رقعة شطرنج السياسة الدولية.

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. التحية أستاذ فضيلي جماع
    ليس غريبا على بريطانيا أم الديمقراطيات والحريات أن تنسحب من عضوية الاتحاد الأوربي بهذا الأسلوب الانتخابي الديمقراطي وإن كنا ــ مثلك ــ نريد لها الانضمام للاتحاد الأوربي، لكن من ناحية نجد لها عذراً ربما بسبب كبريائها التاريخي ومجدها الأثيل الذي لم تغرب شمسه بعد. بيد أني لست متفائلاً أن نتعلم نحن في دول العالم الثالث من مثل هذه التجارب الإنسانية الراقية التي تمثلها بريطانيا التي كانت لها علينا آيادٍ برة نحاول عبثاً إنكارها بسبب من عقدة المُستعمَرين (بفتح الميم). هنيئاً للشعب البريطاني معلم الشعوب، وتصور كيف يكون حالي لو ما كنت بريطاني وأهل الديمقراطية ما اهلي!!!

  2. فى بريطانيا الشعب هو البيقرر فى شان البلد لانه بيدفع ضرائب ويختار ممثليه فى البرلمان والحكومة وهو البيصرف على المؤسسات والحكومة!!
    اما عندنا هنا فى السودان والعالم الثالث فالحكومات هى البتصرف على الشعب من قروش حبوباتهم بمعنى ان المواهى والصرف على التعليم والصحة والزراعة والطرق والجسور والسدود الخ الخ الخ كلها من جيوب الحكام عشان كده الشعوب فى تلك الدول ومنها السودان ما ليها حق فى الشان بتاع البلد!!!
    ولا كيف يا جماعة؟؟؟؟؟؟؟؟

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..