الرغيف الغالي الخفيف

من عجائب الحكومة التي لا تنقضي أنها أدخلت حتى الرغيف في قائمة الأشياء خفيفة الوزن ثمينة القيمة عالية السعر، مثل الجواهر واللآلئ وما شاكلها، فقد صار اليوم سعر رغيفتين هزيلتين خفيفتين واحد جنيه، ومن عجائبها كذلك أنها تدير الأزمات على طريقة المداورة وأم دورور، لتظل البلاد دائرة في طابور أزمات لا تنتهي، فما تكاد تخبو أزمة إلا لتسلم الراية لأزمة أخرى في تبادل رتيب، يتحسن الإمداد الكهربائي بعد أزمة مستفحلة، إذا بالماء يحل مكانه في طابور الأزمات، تنفرج خدمة الماء قليلاً، يسارع الرغيف إلى أخذ موقعه في السلسلة الممتدة، وهكذا (الدايرة تدور على الطابور)، فتعود الأزمة الأولى كالعرجون القديم، على رأي الشاعر الحلمنتيشي (تعايني لي أغمض أنا، أعاين ليك تغمضي إنتي، ونعيد الكرة من تاني، تعايني لي وأعاين ليك… الخ).. فمن رتابة أزمة الخبز التي ظلت تتكرر مرة بعد مرة حتى صارت مثل الغلوتية، أذكر في واحدة من تلك الأزمات أن أحد رسامي الكاريكاتير كتب على تعليقه الذكي المصاحب للرسمة تحويراً بديعاً للغلوتية السودانية الشهيرة (دخل القش وما قال كش)، التي إجابتها هي الظل (الضل) أو الدخان، فجعلها (دخل الكرش وما قال كش) ثم جعل المسؤول يجيب عن اللغز بأنه العيش (الرغيف)، والمعروف عن الظل والدخان أنهما إذا دخلا على شيء لا يحدثان أي صوت ولا يتركان أي أثر، وحتى لو فعلها الدخان وترك أثراً، فإن ذلك لن يتم إلا بعد مرور وقت ليس بالقصير، وإلى هذا المعنى قصد صاحب الكاريكاتير بعد أن لاحظ بالتجربة والمعايشة أن رغيف تلك الأيام لضآلة حجمه لا يحدث أي أثر حين يدخل البطن، إلا بعد مضاعفة الكمية إلى الضعف، أو ربما ثلاثة أضعاف..
الشاهد أن الرغيف بعد الزيادة (الغمتي) التي طالت أسعار الدقيق، قد تقلص عدده وقل حجمه فيما ارتفع ثمنه، فصار من كان يكفيه رغيفان أصبح الآن يحتاج إلى أربع، وبضعف السعر السابق، ولا تثريب على أصحاب المخابز فهم تجار، والتاجر كما يقول عنه الفرنجة (Profit maximizer)، ما تفرض عليه جباية أو زيادة من هنا إلا ومررها عبر جيب المستهلك، فهو لن يشتغل أبداً بالخسارة ولن يقنع حتى بأسلوب (الطقة بالطقة)، لابد أن يربح في كل الأحوال، بل كل التثريب واللوم والتقريع على الحكومة التي مارست على المستهلكين التضليل، فقد وعدتهم بأن أسعار الرغيف لن تزيد، وهذا ما لم يتم بل نكصت عن وعدها…