مقالات سياسية

الحزب الشيوعي يخسر الشفيع خضر السياسي، ويكسب المُفكر

حسين أحمد حسين

حُبابة

قال الفيلسوف الفرنسى ديكارت: “أنا أُفكِّر، إذاً أنا موجود”، وقال عالم الإجتماع كارل ماركس: “أنا آكل، إذاً أنا موجود”، وقال الشاعر حميد عليه السلام: “وطنى، ولا مَلِى بطنى”، وقال تولستوى: “لن أكون حرَّاً، حتى تموت زوجتى”، وقال زيد وقال عمرو؛ ولكلٍ مقالُهُ فى مقام التحقُّق من وجوده؛ ولا تثريب.

حيثيات

1- ذكرنا فى معرض حديثنا عن حزب العمال والقوى الحديثة السودانى هنا فى الراكوبة الموقرة، ضرورة تقاعد السياسيين عن العمل السياسى إذا بلغوا سن التقاعد عن العمل (60 سنة). ويمكن لأصحاب العقول الطَّلْعةِ بينهم أن يتحولوا إلى استشاريين (حكماء، مفكرين، مجلس شيوخ، مجلس لوردات، إلخ) لإثراء المنطلقات الفكرية التى يستند عليها الحزب؛ وأى حزب.

2- كما أنَّه من الطبيعى أن يتجاوز بعض السياسيين فى سن مبكرة ? بنفيلة التثقيف الذاتى ? السياسى داخلهم إلى المُكفِّر الذى قد بدأ فى التخلُّق باكراً والإشرئباب. ومع نضج هذا المُفكِّر بمرور الأيام، يبدأ فى الضيق ذرعاً بالمراقبة والتأمين الحزبى واللَّوائح والدساتير والإُطر والسياسة الحزبية المُقيدِّة لحريته. ولما كان من أهم أدوات المُفكِّر هى العقل الحر والتفكير الحر والفضاء الحر، فسرعان ما يبدأ فى التغريد خارج السرب؛ وذلك أمرٌ طبيعى للغاية. وإنَّه من الأمور الطبيعية أيضاً أنْ تطالبهم السياسات الحزبية بالإنصياع للدساتير واللوائح ذات الأهداف السياسية المحددة (غير الفكرية بطبيعة الحال)، وإلاَّ سيتم تسريحهم من الفضاء السياسى إلى فضاء آخر يليق بهم.

والشواهد على هذا الأمر فى التاريخ الإنسانى لا حصر لها، وفى التاريخ السياسى السودانى لا حصر لها أيضاً. فكثير من المخالفين لِأحزابهم غرَّدوا خارجها لا لأنَّهم يُخالفونهم فى الأصل الفكرى، ولكن لأنَّهم أعملوا العقل الحر والتفكير الحر وبدأوا ينشدون فضاءاً حراً. والأمثلة داخل الحزب الشيوعى السودانى كثيرة منها على سبيل المثال: موقف المرحوم عوض عبد الرازق، بروفسير عبد الله على ابراهيم، والمرحوم الخاتم عدلان، ودكتور الشفيع خضر؛ والشيوعيون عموماً فى حالة فعل فكرى دائم، بعضه منصاع للَّوائح وبعضه حر. والأمثلة داخل تنظيم ما يُسمى بالأخوان المسلمين منها على سبيل المثال: موقف بروفسير حسن مكى، وبروفسير الطيب زين العابدين، ودكتور التجانى عبد القادر، والمحبوب عبد السلام، وغيرهم كثير.

وخصوصية الفارق بين الأخوانويين والشيوعيين تكمن فى أنَّ الأخوانوية لا تلفظ بنيها لفظاً بائناً بينونةً كبرى حينما يغردون خارج السرب، وتسمح لهم بالإشتغال بالفكر دون السياسة. أمَّا الشيوعيون فيصل الأمر عندهم إلى مراحل معقدة: كالفصل، وربما الإتهامات بالخيانة وغيرها، واغتيال الشخصية.

3- ولعل من أنصع تجارب الفكاك السلس للمفكر من السياسى فى الرَّاهن السودانى المُعاش والمحسوس هو ما قامت به دُرَّة حزب الأمَّة سابقاً الأستاذة رشا عوض. فما أنْ أدركت نضج المفكر داخلها، عالجت الأمر بمنتهى الإحترافية بتقديم استقالتها من حزب الأمة، دون أن تخسر إحترامه، وبلا ضجة، وبلا مرارات. ولا ضرر ولا ضِرار فى أن يشتغل حزب الأمة بالسياسة وأنْ تشتغل الأُستاذة رشا عوض بالفكر؛ بل الآن حزب الأمة والوطن بأكمله يستفيد من فكرها الناضج وآرائها السديدة.

ولا أكتمكم القول، أنَّنى كنتُ أتعشَّم أن يحدث ذات الموقف من دكتور الشفيع خضر، ومع الشفيع خضر. وبالطبع فإنْ خَسِر الحزب الشيوعى السودانى الشفيع خضر السياسى، فعليه أن يكسب الشفيع خضر المُفكِّر؛ كأن يستفيد منه ويكسبه فى مجال الفكر المطوِّر للحزب، دون شحناءٍ ولا بغضاء.

4- وكما يعلم الجميع أنَّ الأحزاب مخططات سياسية للوصول للسلطة (شئنا أم أبينا)، وبعضها يعتمد فى ذلك على برماج إجتماعية والبعض منها يستند إلى برامج أيديولوجية، والغلبية تستند إلى الإثنين معاً. بل أبعد من ذلك، فإنَّ كلَّ البرامج الحزبية (إجتماعية أو غيرها) هى عبارة عن أيديولوجيات إلى أنْ تتنزَّل إلى أرض الواقع (فالشيوعية، والإشتراكية، والثورة الوطنية الديموقراطية، والمشروع الحضارى، ونهج الصحوة الإسلامى، وغيرها؛ كلها أيديولوجيات حتى إشعار آخر (فالأيديولوجيا على علاتها مهمة للتعبئة الإجتماعية)).

فإذا استيقظ المُفكر داخل البعض منا، فعليه أن يبتعد عن الأحزاب السياسية بهدوء؛ فالفكر والأيديولوجيا لا يجتمعان. وقد رأينا بأُمِّ أعيننا كيف أنَّ الأيديولوجيا قد صَيَّرتْ ضابطاً عظيماً مثل العقيد أركان حرب عمر حسن أحمد البشير إلى مجرم حرب، وكيف صَيَّرتْ المحامى الضليع على عثمان محمد طه إلى قاتل؛ ودعك عن المهندسيْن صلاح قوش ومحمد عطا.

5- نرجو من هذا الحزب الشيوعى السودانى الذى تعلمنا منه الكثير ونكن له كل الإحترام، أن يفرد فى دستوره ولوائحه حيِّزاً للذين ُيريدون أن يُفكروا خارج خط الحزب دون قطيعة أو فصل. كأن يُبعد العضو عن العمل السياسى بلا فجورٍ فى الخصومة وبلا فجائع، ولكن يظل عضواً بالحزب، وفاعلاً فى المجالات الأخرى الإجتماعية والفكرية والثقافية. وبالتالى دعونا نقول مرحب بالدكتور الشفيع خضر فى أرينة الفكر المطوِّرة لرؤى الحزب، ومرحب بالحزب الشيوعى السودانى فى التمسك بالخط الذى يحقق أهدافه السياسية مسترشداً بأفكار بنيه.

فالحزب يحتاج أعضاءه لا محالة، خاصة أنَّ عضويتَهُ فى تآكل مستمر بسبب بعد الشُقَّة بينه وبين الواقع السودانى بتبنيه لثلاث أيديولوجيات مترادفة (تمسكه بهلام الشيوعية، وباشتراكية منهارة ومندحرة فى الوقت الراهن، وبثورة وطنية ديموقراطية هو متحالف مع أعدائها مرحلياً وتكتيكياً لأكثر من ستة عقود).

لا تدعوا هذا الحزب النبيل أن يتآكل؛ فهو آخر رموز عفة اليد، وآخر رموز الخلاص والوعى، بل والأكثر حرصاً على نصاعة الدين من الذين يتنطعون بالأيديولوجيات الدينية والعقائد المنحرفة؛ وقد جرَّبَهم الشعب السودانى ووجدهم قتلة وفسقة وسارقين وفُسَّادا.

الخلاصة

إذا استمرَّ الحزب الشيوعى السودانى فى لفظ قواه الحية بهذه الوتيرة، مع بقاء فترة السكرتيرين العامين لأكثر من خمسِ سنوات دون تداول لمنبر القيادة، سيصبحُ الحزب الشيوعى السودانى حزباً مُدبراً عن الحياة السياسية فى السودان، مُدبراً عن الفعل الثورى، مُدبراً عن التغيير. ونرجو أن ينتبه الحزب إلى توازن الفئات العمرية داخل لجنته المركزية وقِصر دورتها (أوباما استلم السلطة وعمره 42 سنة، وكذلك ساركوزى، ديفيد كاميرون استلمها وعمره 40 سنة، وزعيم معارضته الأسبق كان عمره 40 سنة أيضاً؛ وعلى ذلك قِسْ).

حسين أحمد حسين،
باحث إقتصادى مقيم بالمملكة المتحدة.
[email protected]

تعليق واحد

  1. تشكر أستاذ حسين انت تسعي لبناء واقع إيجابي مما راه البعض محنة.
    وعليه وان ببعض الاختلاف هذا رأى اخر:
    خبرة الشفيع أيضا في الممارسة السياسية معترف بها وقد يكون خسارة ان تعطل فاعليته في هذا الجانب
    واقترح:
    بالتجاوب مع قيادات سياسية أخرى ارشح د. الشفيع للإسهام في قيادة الفعل السياسي المحدد المنتظر لاقتلاع النظام. هو الان محرر من بيروقراطية الحزب وله من الملكات ما يملك واحتكاكه بالقوى الفاعلة. غني عن القول ان هذا التحرك السياسي هو ماتنتظره جموع هائلة من الشباب والجماهير.
    اقتلاع النظام هو واجب اللحظة, ووضع الشفيع الحالي مواتي جدا-في وقتها بالضبط- واحسبه مقبولا من الجميع.

  2. والله كلام يا عوض دكام !!!
    يعجبني ويستهويني هذا النوع من الكتابات .
    بارك الله فيك يا أستاذ حسين أحمد حسين .

  3. يا استاذ، الحزب الشيوعي مثل بقية الاحزاب السودانية، حزب الامة، الاتحادي، وغيرهم، الواحد لو ما اخده الموت، ما بيفسح الطريق لغيره، دي ما احزاب، دي دكاكين مملوكه لاصحابها، والشلل بتاعتهم.والحزب الشيوعي ليس استثناء.

  4. إستقال تابو أمبيكي وخرج من الحزب الشيوعي الذي كان والده/ غوفان أمبيكي، من مؤسسيه، وانضم إلى تحالف المؤتمر الوطني الإفريقي، وصار رئيساً للجمهورية خلفاً لنلسون مانديلا.

    خسر الحزب الشيوعي الشفيع خضر، ونأمل أن يكسبه تحالف حزب المؤتمر الوطني السوداني.

    ويا دار مادخلك شر!!

    مهدي إسماعيل

  5. إذا قلنا الشيوعية فى السما الثالث،
    والإشتراكية فى السما الثانى،
    والثورة الوطنية الديموقراطية فى السما الأول،
    وعلى الأرض صراع الطبقة؛

    أما كان الأجدر بنا تأسيس أحزابنا على معادلة الإنتاج الشهيرة (التى تعكس صراع الطبقات فى الوقت الرَّاهن أكثر مما تعكسه الإشتراكية والشيوعية):

    العمال/القوى الحديثة + رجال الأعمال/ روَّاد الأعمال + (عوامل الأنتاج الأخرى التنظيم + الأرض + (…)) = الإنتاج/العملية الإنتاجية/الثورة الوطنية الديموقراطية فى نهاية التحليل.

    (لا يوجد حزب للعمال والقوى الحديثة فى السودان) + (هناك 3 أحزاب تمثل الشرائح الرأسمالية فى السودان) + ( هناك 72حزب بورجوازية صغيرة تعتاش بالحديث عن العمال والمسحوقين، وتتحالف مع الشرائح الرأسمالية لتحقيق الأنتاج والعملية الإنتاجية، لإنجاز الثورة الوطنية الديموقراطية فى نهاية التحليل، أىُّ خبل نحن فيه – دعك من الإشتراكية والشيوعية الآن).

  6. تشكر أستاذ حسين انت تسعي لبناء واقع إيجابي مما راه البعض محنة.
    وعليه وان ببعض الاختلاف هذا رأى اخر:
    خبرة الشفيع أيضا في الممارسة السياسية معترف بها وقد يكون خسارة ان تعطل فاعليته في هذا الجانب
    واقترح:
    بالتجاوب مع قيادات سياسية أخرى ارشح د. الشفيع للإسهام في قيادة الفعل السياسي المحدد المنتظر لاقتلاع النظام. هو الان محرر من بيروقراطية الحزب وله من الملكات ما يملك واحتكاكه بالقوى الفاعلة. غني عن القول ان هذا التحرك السياسي هو ماتنتظره جموع هائلة من الشباب والجماهير.
    اقتلاع النظام هو واجب اللحظة, ووضع الشفيع الحالي مواتي جدا-في وقتها بالضبط- واحسبه مقبولا من الجميع.

  7. والله كلام يا عوض دكام !!!
    يعجبني ويستهويني هذا النوع من الكتابات .
    بارك الله فيك يا أستاذ حسين أحمد حسين .

  8. يا استاذ، الحزب الشيوعي مثل بقية الاحزاب السودانية، حزب الامة، الاتحادي، وغيرهم، الواحد لو ما اخده الموت، ما بيفسح الطريق لغيره، دي ما احزاب، دي دكاكين مملوكه لاصحابها، والشلل بتاعتهم.والحزب الشيوعي ليس استثناء.

  9. إستقال تابو أمبيكي وخرج من الحزب الشيوعي الذي كان والده/ غوفان أمبيكي، من مؤسسيه، وانضم إلى تحالف المؤتمر الوطني الإفريقي، وصار رئيساً للجمهورية خلفاً لنلسون مانديلا.

    خسر الحزب الشيوعي الشفيع خضر، ونأمل أن يكسبه تحالف حزب المؤتمر الوطني السوداني.

    ويا دار مادخلك شر!!

    مهدي إسماعيل

  10. إذا قلنا الشيوعية فى السما الثالث،
    والإشتراكية فى السما الثانى،
    والثورة الوطنية الديموقراطية فى السما الأول،
    وعلى الأرض صراع الطبقة؛

    أما كان الأجدر بنا تأسيس أحزابنا على معادلة الإنتاج الشهيرة (التى تعكس صراع الطبقات فى الوقت الرَّاهن أكثر مما تعكسه الإشتراكية والشيوعية):

    العمال/القوى الحديثة + رجال الأعمال/ روَّاد الأعمال + (عوامل الأنتاج الأخرى التنظيم + الأرض + (…)) = الإنتاج/العملية الإنتاجية/الثورة الوطنية الديموقراطية فى نهاية التحليل.

    (لا يوجد حزب للعمال والقوى الحديثة فى السودان) + (هناك 3 أحزاب تمثل الشرائح الرأسمالية فى السودان) + ( هناك 72حزب بورجوازية صغيرة تعتاش بالحديث عن العمال والمسحوقين، وتتحالف مع الشرائح الرأسمالية لتحقيق الأنتاج والعملية الإنتاجية، لإنجاز الثورة الوطنية الديموقراطية فى نهاية التحليل، أىُّ خبل نحن فيه – دعك من الإشتراكية والشيوعية الآن).

  11. معادلة الإنتاج فى أبسط صورِها هى:

    العمل + رأسمال + (…) = الإنتاج.

    (…) هى عوامل الإنتاج الأخرى (الأرض، التنظيم، التطور التكنولوجى، وغيرها) وضعناها فى الصيغة الصفرية للتبسيط.

    * بريطانيا سوف تظل مستقرة الإقتصاد، بقيت فى الإتحاد الأوروبى أو خرجت منه، لأنَّ أحزابَها السياسية أرضية ومتماهية مع معادلة إنتاج ديموقراطية ومتوازنة (حزب عمال، حزب محافظين، وأحزاب بورجوازية صغيرة لا يتجاوز عددُها العشرة حزباً.

    وبالتالى: فالشيوعية والمشروع الحضارى، والدولة الإشتراكية والدولة الرسالية لن يستفيد منها المواطن العادى البسيط فى الوقت الراهن؛ إن لم تزده ضغثاً على إبالة بتأنق دعاة هذه الأيديولوجيات على شعوبهم.

    إِهبطوا إلى الأرض يا دعاتَها، وابحثوا لنا عن معادلة إنتاج ديموقراطية متوازنة يستفيد منها الإنسان والسودان، يصل بها إلى مرحلة العمالة الكاملة، ومن ثم الثورة الوطنية الديموقراطية (السما الأول). ولاحقاً، ولاحِقاً جداً تعالوا بالإشتراكية والرسالية والشيوعية والمشروع الحضارى.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..